د. ولات ح محمد
في رحلة بحثه المضنية والطويلة عن مكان له على هذه الأرض أسوة بسائر خلق الله تعرض الكوردي لخيانات كثيرة اقترفها أبناء جلدته أعادته في كل مرة عقوداً إلى الوراء وطاحت بجهود وتضحيات بُذلت لسنوات طويلة. وعند كل حالة خيانة ترتكبها فئة أو أفراد (ضعاف النفوس، مرضى بالمال والسلطة) يحلو للكوردي أن يقوم بجلد ذاته الكوردية ويَسِمها على إطلاقها بالخيانة، وكأن تلك الرذيلة حقيقة ثابتة في شخصيته السياسية تتوارثها الأجيال تاليها عن سالفها، أو كأن الخونة موجودون في صفوف الكورد وحدهم خلافاً لسائر أمم الأرض. وكي يبرئ نفسه صار الكوردي يستحضر طائر الحجل للتشبه به في ممارسة طقس الخيانة مع قومه، ويصفه ـ كما يصف ذاته ـ بأنه كائن يخون بني قومه حين يساعد الصياد على الإيقاع بهم في فخٍ يتواطأ مع الصياد على استدراجهم إليه. هكذا حتى بات الحجل في قصص الكوردي وأشعاره رمزاً لتلك الخيانة وشريكاً فيها وربما سببها الأول. فما حقيقة الخيانة لدى المشبه والمشبه به على حد سواء؟.
لا يختلف عاقلان على أنه لدى كل شعوب العالم ضعاف النفوس أمام إغراءات السلطة والمال، أولئك الذين لا يشعرون بأي ثقل على أخلاقهم إذا باعوا أقوامهم وأوطانهم وقضاياهم الكبرى مقابل منصب أو مال أو رغبة في إيذاء خصومهم لأسباب مَرَضية تخصهم هم. حصل هذا عند كل الشعوب وعلى مر التاريخ قديمه وحديثه، وما كانت هزيمة جيوش قوية وسقوط مدن منيعة كبرى بيد الأعداء في لحظات إلا نتيجة لتلك الخيانات التي ترتكبها تلك الفئة بحق أهلها ومدنها وجيوشها. إذا كان الأمر كذلك فلماذا إذن يشعر الكوردي دائماً بأن صفة الخيانة لصيقة بحركته السياسية وحدها دون غيرها، بل يذهب بعضهم إلى أنها سمة الكوردي الأزلية؟!.
الواقع أن ما يجعل الكوردي يشعر بأن الخيانة راسخة في قومه مجموعة من العوامل السلبية التي تميز الكورد عن غيرهم سياسياً واجتماعياً: الأول أن كل شعوب العالم يوحد أفرادها كيان مستقل خاص بهم يسمى “الدولة”. لهذه الدولة حدود معروفة مع الشعوب والدول الأخرى وتنظم أمورها دساتير وقوانين ويمثلها جيش موحد ورئيس وحكومة، فتشكل حالة وطنية محكومة بقانون ودستور يخضع له الجميع، وبالتالي تكون علاقة أفرادها وجماعاتها مع الآخر الخارجي من خلال مؤسسات الدولة، فلا يعقد حزب ما اتفاقاً أو تحالفاً مع دولة أخرى لحسابه الخاص، يكون مفيداً للحزب ومضراً بالدولة. ولهذا يكاد يكون مجال الخيانة لدى تلك الشعوب شبه معدوم (لانعدام ارتباط الحزب بالخارج)، وإن وجد ففي حالات نادرة وبسيطة ومحصورة بأفراد (على شكل جواسيس مثلاً) غالباً ما يتم اكتشافها عبر أجهزة استخبارات الدولة ولا يتم إخراجها للرأي العام ولا تصبح حديث الشارع كما يحدث في الحالة الكوردية. أضف إلى ذلك أن تلك الخيانات الفردية لا تترتب عليها كوارث وانكسارات تحل بالشعب، كما يحصل في الحالة الكوردية.
في غياب الدولة تكون علاقات الكورد مع الآخر عبر أحزابهم، وبالتالي تكون المصلحة الحزبية غالباً هي الأساس في تلك العلاقات، إذ ليست هناك مرجعية فوق حزبية (دولة، دستور، قانون، سلطة عليا) تضبط حركة الحزب في هذا السياق. عدم وجود دولة كوردية جامعة يعني غياب أجهزة استخبارات كوردية لها سلطة على الجميع وتكشف حالات الخيانة قبل حدوثها، وتعني كذلك غياب محاكم تتولى محاسبة الخائن أو العميل أو الجاسوس. وهذا ما يشجع ضعاف النفوس على ارتكاب موبقاتهم آمنين من العقاب، ويصبح من السهل أن يسيل لعاب فئة قليلة (عديمة الأخلاق) لإغراءات يقدمها طرف ما تجعلهم يضحون بالمصلحة الجمعية الدائمة بغية تحقيق منافع ذاتية آنية، أو لإضعاف خصومهم من الأحزاب الأخرى. ولذلك لا يكون من الصعب على تلك الفئة القليلة المريضة بالمال والسلطة ارتكاب الخيانة لصالح أعداء الكورد عند كل محطة أو تجربة تحررية أو خطوة نحو الأمام، طالما أنها تكسب لذاتها ولحزبها ولا تخسر شيئاً ولا تتعرض لجزاء.
حالة الارتباط بالخارج والبحث عن المكاسب الذاتية الآنية قد تظهر ـ كذلك ـ حتى في وجود دولة إذا كانت في حالة ضعف، كما يحصل الآن في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان؛ فمعظم الأحزاب والجماعات فيها (رغم وجود دولة) تقدم مصلحتها على المصلحة الوطنية، وترتبط بالخارج (على أساس حزبي أو مذهبي أو آيديولوجي) أكثر من ارتباطها بالداخل ـ الدولة على أساس وطني، بل قد يتعاون بعضهم مع دولة ما ضد مجموعة أخرى من أبناء بلدهم. مثل هذه الحالات تعد في القاموس الكوردي خيانات كبرى ولها صيت، ولكنها عند الآخرين طبيعية وتُمارس تحت شعارات مختلفة، ولا أحد يتحدث عن الخيانة ولا يوصف مرتكبوها بالخونة ولا تلتصق صفة الخيانة بتلك الشعوب بسبب أفعال أولئك الخونة.
العامل الثاني (وهو مرتبط بالأول) الذي جعل صفة الخيانة بارزة في العمل السياسي الكوردي هو أن نضال الكورد من أجل الحصول على حقوقهم القومية أو على كيان (دولة) أخذ الكثير من الوقت ومرّ بالكثير من المحطات؛ فالكورد منذ أكثر من مئة عام يخوضون صراعاً مع ناكري حقوقهم، وبالتالي (مع وجود العامل الأول: غياب الدولة الجامعة) من الطبيعي أن تبرز حالات الخيانة أكثر مما لدى شعوب أخرى؛ فلو كان عمر تلك المسيرة من العمل التحرري ثلاثين سنة فقط ـ على سبيل المثال ـ وحصل الكورد بعدها على دولتهم لما شاهدنا وقرأنا وكررنا وأضفنا حالات الخيانة التي حصلت خلال ثمانين سنة الأخرى، ولما شعر الكورد وكأن الخيانة صفة ثابتة وخاصة بالحركة الكوردية دون غيرها. وفق هذا المعطى لو خاض أي شعب تجربة مريرة وشاقة وطويلة الأمد محاطة بمجموعة شرسة من الأعداء لبرزت في محطات كفاحه حالات خيانة ربما أكثر مما برزت داخل الحركة الكوردية حتى الآن.
للمقارنة أقول إن غالبية شعوب المنطقة بدأت نضالها التحرري (الوطني أو القومي) بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو، وحصلت على كياناتها المستقلة في غضون عشرين أو ثلاثين سنة. وعلى الرغم من هذه المدة القصيرة كانت دائماً هناك فئة من الشعب تتعامل مع قوى الاحتلال (حتى في العهد العثماني) ضد أبناء قومها من القوى الوطنية التي كانت تسعى للتحرر. حدث هذا مثلاً في العراق وسوريا ومصر والجزائر وغيرها. تلك هي الفئة الخائنة التي نتحدث عنها اليوم، والتي كانت موجودة على مدى تلك العقود، ولكن لم تصبح الخيانة صفة تصبغ نضال تلك الشعوب بسبب قصر المدة وقلة محطاتها.
إن إلصاق الكوردي طبع الخيانة بشخصيته يعود ـ كما نرى ـ لجملة أسباب: الأول هو أن الخيانات بالنسبة إليه كانت العامل الظاهري الوحيد البادي للعين لحالات الفشل. أما السبب الثاني فهو عدم قدرة الكوردي على البحث عن الأسباب الأخرى (غير الخيانة) التي أدت إلى فشله وانكساره وخيبة أمله. ربط المسألة بالخيانة في كل مرة كان أسهل التفاسير وأوضحها لدى الكوردي وأقربها إلى التصديق. العامل الثالث هو أن ربط الفشل بالخيانة يسبب للإنسان ـ عموماً ـ راحة نفسية وإخلاء للمسؤولية، مادامت فئة قليلة (الخونة) هم الذين تسببوا في النكسة وعدم تحقيق الهدف.
الخيانات موجودة في مسيرة الكورد ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، ولكن ما يجب أن نعلمه ونشدد عليه هو أن تلك الخيانات ـ أولاً ـ ليست مقصورة على الكورد وحدهم دون الشعوب الأخرى، وأنها ـ ثانياً ـ مرتبطة فقط بالحالة السياسية النضالية، وليس بالحالة المجتمعية العامة. ولو كانت الخيانة من طبيعة الإنسان الكوردي ـ كما يروج عن نفسه ـ لرأيتها في مجالات حياته كافة. وهذا ما يقر الواقع عكسه تماماً؛ فالكورد من أكثر أقوام المنطقة إخلاصاً ووفاء ونقاء سريرة. أضف إلى الأسباب آنفة الذكر أن الكورد هم أنفسهم (وليس غيرهم) كوّنوا عن أنفسهم هذه الصورة وصدقوها.
إن عدم وجود الدولة التي توحد الكورد في إطارها الجامع دستورياً وقانونياً ووطنياً وجزائياً، واستغراق مدة نضالهم زمناً طويلاً وتعدد محطاتها، وانخراط الحركة السياسية في علاقات (إجبارية) مع خصومهم بحكم التداخل الجغرافي والمجتمعي والمعيشي الذي فرض بناء علاقة من نوع ما مع الطرف الآخر من الصراع، أظهرت الكورد من خلال حركتهم السياسية في بعض المحطات وكأن ارتكاب الخيانة صفة ملازمة للإنسان الكوردي. والحق أن الأمر ليس كذلك كما تبين آنفاً. أما الحجل المسكين فلا أدري من أين جاء الكورد بصفة الخيانة ليلصقوها بهذا الكائن الجميل ليجعلوه شريكاً لهم أو مشبهاً به في صفتهم الموهومة والمزعومة؛ فلا هم خونة بطبعهم، ولا الحجل من طبعه خيانة أقرانه، إذ ثمة فهم خاطئ للمسألة برمتها. وهذا ما سيكون محور حديثنا في القسم الثاني من هذه الأطروحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبت هذا المقال قبل ثلاث سنوات في أعقاب خيانة 16 أكتوبر، وهأنذا أنشره لأول مرة في ذكراها الأليمة الثالثة.