بين التكلم بالكردية وسياسة التعلم بالكردية

 إبراهيم محمود
سمعتُ من أكثر من شخص، أنه في الستينيات، كانت اللقاءات بين المنتمين إلى أول حزب سياسي كردي في سورية، تتم، كما هو معلوم، بصورة سرّية تماماً، وفي أحد هذه اللقاءات بين مجموعة أعضاء فيه ومتحمسين له، وكان في قرية اسمها ” تل عربيد : تقع قريباً في الجهة الجنوبية من الطريق الدولي الممتد بين قامشلو- الحسكة” وفي غرفة واطئة مشحْورة السقف والعوارض الخشبية، وعلى وقع إحدى الكلمات الحماسية عن الكرد وكردستان، أطلق أحدهم الرصاص، فتناثر الشحوار ” السخام ” على الرؤوس، فما كان من الشاعر الراحل سيدا جكرخوين، إلا أن قال معلّقاً: إذا كانت كردستان تنثر شحواراً على رؤوسنا هكذا، لا نريدها !
كانت عبارة بليغة، ومعبّرة.
وهذا يذكّر بما يجري حتى الآن، بالنسبة إلى المقصد من اللغة الكردية، اللغة الأم لمن ينتمي إليها بالمفهوم القومي، وهو يشدد على الربط بين اعتبارها ضرورة قومية لازمة، كونها تمثّل هوية الكردي. وهو ما يتردد هنا وهناك، من قبل الذين يشعل نفوسهم حماس كأولئك الذين هتفوا، فكان إطلاق الرصاص وتناثر الشحوار عليهم .
من المؤسف جداً، أن وراء التشديد على هذه العلاقة، وبهذا المسلك، ما يسيء إلى اللغة بالذات .
ثمة درس تاريخي لا بد من أخذه بعين الاعتبار، وهو أن المستبد بالكردي، حين يجمع ما بين الكردي وكونه يتكلم بالكردية، ويطارده، وينزِل فيه ضرباً وإيلاماً وتغريماً، من هذا المنطلق، ومَن يشدد على التكلم وكذلك الكتابة بها، لأنها جبهة تحد له، وصرخة ” لا ” الاحتجاجية، لكل من يريد النيل منه، وهي عين السياسة البغيضة والعنصرية التي اتبعها أتاتورك، ونظامه، وأتباعه الطورانيون، بدءاً من نهاية عشرينيات القرن الماضي، وحتى مطلع تسعينياته في تركيا، فكان تعبير المير جلادت بدرخان: لغتنا هويتنا، في واجهة صحيفته ” هاوار: الصرخة ” ذات المعنى العميق، علامة فارقة وتأريخاً لهذه اللحظة النضالية، بوصفها حربَ وجود تماماً.
راهناً، لا يصح تطبيق مثل هذه السياسة بحرفيتها، وبعائدها العلمي. نعم، في مقدور أي كردي، أن يتكلم بكرديته، وأن يكتب بكرديته هذه، رغم انتفاء لغة كردية محددة تجميع بين جميع الكرد، كلغة تواصل وتفاهم، لا شفاهة ولا كتابة، إنما تبعاً لأي سياسة يكون التكلم ومن ثم الكتابة بالكردية، طالما أن الكرد أنفسهم حتى الآن لم يصلوا إلى اتفاق فيما بينهم، لوضع أساسيات لغة واحدة: في الكلام والكتابة، وليس لأن أعداءهم وحدهم حصراً من يحولون دون ذلك، وفي الوقت الذي يكون اعتبار الأعداء هم ممن يبذلون مختلف السبل لمنع الكرد من بلوغ مقصد نظري وعملي كهذا، له حسبانه، لكنه ليس الوحيد الأوحد الذي يُتحجَّج به، إنما لعدم وجود وعي قومي كردي معمم، يطهّر المعنيين بسياسة اللغة هذه، من كل ما هو تحزّبي، أو فئوي، أو عصبوي معين، ويدفع بهم وهم في مستوى من الوعي المدني الذي يحفّز فيهم إرادة معرفية، قومية، وإنسانية ترفع من شأنهم .
ثمة، من هم كرد أباً عن جد، ولكنهم في سلوكياتهم ذات الدمغة الكردية، ربما يشكلون عائقاً أكثر إيلاماً من الأعداء الفعليين للكرد، حين يغلّبون لهجتهم، أو حتى طريقة اعتمادهم للهجة معينة قديماً وحديثاً، على ما عداها، كما نلاحظ من ردود أفعال كردية- كردية، جرّاء ذلك.
وإذا كان هناك من لديه حماس كردي، في هذا المضمار، وهو لا ينفك يتحدث عن لزوم اعتماد الكردية لغة حديث وتعلم، كغيرنا من الشعوب المجاورة، وهذا حق مشروع، إلا أن ما يغفَل عنه، والأكثر من ذلك، ما يتم تجاهله، ربما بنوع من الجهل المعتَّم عليه، هو التعامي عن هذه المعوقات، والتي يكون المعنيون بأمر الكرد من سياسييهم، أو المعتبرين أولي أمرهم، في الواجهة السياسية والثقافية.
وربما أمكنني القول، أنه وراء هذا الحماس الاندفاعي والمتعلق باللغة الأم: الكردية ” أي كردية تُرى؟”:
 ازداد الكرد تباعداً، أو تخاصماً، أو انقساماً فيما بينهم، جرّاء أسلوب التعامل مع اللغة وطبيعتها، وهذا التباعد، التخاصم، والانقسام، يعرّي ضعفهم، ووهم الكردية الفعلية فيهم.
وأن الذين استقطروا الكردية بمفهومها القومي المجرد، وراء الكردية كلغة، دون أي ممارسة سياسية، أو ثقافية تنزل إلى الشارع، في التعبير عن المستجدات، تمترسوا وراءها، للتعتيم على شلل في إرادتهم وحتى جبنها.
وأن الذين يصدرون تعليمات بلزوم تعلم الكردية، كما يحصل الآن في المسمى” روجآفا ” قد أوجدوا فُرقة وبلبلة في ” شارعهم ” الكردي، تحت رافعة إيديولوجية، وما في ذلك من غياب أي سياسة معرفية مدروسة لذلك. حيث إن الرافعة الثقافية مدمّرة دون سند سياسي مدروس.
وأن ما يجري حتى الآن، يفصح عن أنه، قبل أي حديث عن مستوجبات ” اللغة الأم ” على من يبرمجون أفكارهم، ويعزفون على الوتر السميك للغة، يستدعي سؤالاً في غاية الأهمية والخطورة: ماذا ينتظر متعلم الكردية، ومتكلمها، في وسط لا يعترف بالكردية، ويتطلب تعلم لغته للتواصل معه، وليس من اعتراف بها؟
وأن هذه اللغة التي يُدفَع بها إلى الأمام، لا يعترف بها، ولا يعتمدها جل الذين يشددون على تفعيل أثرها، كونهم في الأصل، ليس لديهم ذلك الوعي الذي يجعل مصلحة الكرد فوق المصلحة الشخصية، بقدر ما يكون أداء المهمة بطابعها القومجي والمكلف، عراضة إيديولوجية، زعاماتية، وهو ما نتلمسه في الأساليب المطبقة في هذا المنوال .
وأن الذين يتحركون في ركاب هؤلاء، إنما يفصحون من حيث لا يدرون عن عجزهم عن أداء واجبهم اليومي، وفي مواجهة المخاطر الفعلية التي تتهددهم واقعاً، وما في ذلك من مخاتلة وتذاك ٍ، وهم يعزّزون هذا المفهوم قياماً وقعوداً، دون دفع أي ثمن عملي، بالعكس، إنهم يحصدون الكثير مما هو مصلحي، بمقدار ما يراوغون على طريقتهم الكاشفة، على طريقة ” طنجرة لقت غطاها “.
نعم،عندما يتلاقى المعنيون بالشأن السياسي والسلطوي الكرديين، في هذا المنعطف الخطير والقدير، حينها، في مقدور الضليعين في الكردية كلغة وتربية لغة، وسبل اعتماد لغة، أن يشمّروا عن سواعدهم، فتصبح الكردية اللغة الواحدة، ناطقة بلسان حال شعب كامل، وبين لغات حية، وهي بكامل عافيتها، أو على الطريقة الصحيح!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…