محمد مندلاوي
قبل عدة أيام بعث لي أحد الأخوة الكرام رسالة إلكترونية كانت عبارة عن تسجيل تلفزيوني للقاء مع شخص مغمور، أعتقد ينتمي لإحدى الطوائف العيسوية (المسيحية)، أولئك ناكري جميل الكورد، الذين آوتهم الشعب الكوردي في كوردستان في أحلك الظروف القاسية التي مروا بها، ومنحتهم مع الأقلية التركمانية عدة مناصب هامة في الإقليم، لكن المذكور دون أي سند تاريخي زعم: أنا صار عندي نقاشات مع مؤرخين أكراد وسياسيين، طرحت عليهم سؤال في ندوة تلفزيونية مفتوحة قلت: أنا أتحدى أي مؤرخ وأي شخصية كوردية ترشدنا إلى قبر كوردي واحد في نوهدرا عمرها 100 سنة إذا ماكو شعب عندها مقبرة عمرها الزمني 100 سنة اشوكت تواجد ذلك الشعب، إذا أكو شعب عايش على الأرض هناك وفيات وهناك ولادات إذا ماكو وفيات عمرها 100 سنة يا رب لمن تعود الأرض. انتهى كلام المدعي…؟ .
إن المأزق الذي يعاني منه بعض أبناء الطوائف العيسوية في كوردستان، أنهم أسرى لحكاوي قساوستهم القابعون في غرف أديرتهم المظلمة، إذا همسوا في أذان هؤلاء المساكين ضيقي الأفق بأن الشمس تشرق من الغرب، وتغيب في الشرق يصدقونهم دون أن يحركوا خلايا أدمغتهم ويفكروا ولو للحظة واحدة كيف أن الشمس تشرق من الغرب وتغيب في الشرق. نتيجة لفقرهم المعلوماتية تجدهم يرددون الإدعاءات المغلوطة التي يحشون بها رؤوسهم مع فرائض عقدية لا يستطيعون الخروج عليها والتحرر منها، رغم أنها أموراً خيالية لا وجود لها على أرض الواقع. من هذه الخزعبلات المضحكة نجدهم يزعمون دون خجل أن بعض قرى كوردستان تعود لهم وجاء الكورد واستكردوها عنوة؟؟!! مع أن كل المحققين والمتابعين يعلمون علم اليقين أن وطن الأصلي الذي قدمت منه هذه الطوائف العقدية هو شمال الجزيرة العربية – سوريا- وليس كوردستان، التي لجئوا إليها في تواريخ متباينة نتيجة الهجمات التي تعرضوا لها في صدر الإسلام أو هجمات المغول، وآخرها كما شاهده العالم في وسائل الإعلام هجمات القاعدة، وداعش، والميليشيات الشيعية عليهم وعلى كنائسهم في كل من بغداد ونينوى والبصرة وكالعادة، كأن التاريخ يعيد نفسه، لم يكن أمامهم مكان آخر يلجئوا إليه، وشعب آخر يحتضنهم سوى الشعب الكوردي ومدن وقرى كوردستان.
بعد هذه المقدمة المختصرة، دعونا الآن نناقش ما زعم ذلك العيسوي أعلاه عن مدينة دهوك الكوردية، الكوردستانية. عزيزي القارئ، كما هو واضح من خلال لقبي أنا من مدينة (مندلي) الكوردستانية السليبة من قبل العرب، وفي هذه المدينة لدينا عدة مقابر كلها مقابر كوردية قديمة وحديثة، كنت قد ذكرت أسمائها في دراستي التي بعنوان:” مندلي قبل التعريب البعثي” لكني لست من مدينة دهوك التي تقع في أعالي وطني، حتى لم تتح لي الفرصة لزيارتها، فلذا ليس لدي معلومات وافية عن مقابر الكورد وأسمائها فيها. لكن، دعونا نتعامل مع تاريخ اسم المدينة والنصوص التاريخية المعتبرة التي ذكرتها بهذا الاسم الكوردي دهوك. ولا أغوص في أعماق التاريخ القديم جداً الذي يقول أنها كانت جزءاً من الدول الكوردية القديمة كالسوبارية، والميتانية، ومن ثم الميدية الخ. للعلم، أن دهوك كانت عبارة عن قرية أو ناحية تابعة لموصل وفصلها النظام العراقي عنها عام 1969- 1970 وجعلها محافظة تابعة لإقليم كوردستان كي لا تطالب الكورد بمدينتهم المغتصبة عربياً موصل.
إن اسم دهوك لا يختلف عليه اثنان بأنه اسم كوردي يعني مكيالين. ولا أريد أن أشرح بأنها واقعة على طريق القوافل فلذا كان الحاكم أو الأمير الكوردي الذي حكم المنطقة قبل أكثر من 1000 عام يأخذ جمركاً من القوافل مكيالين من الأشياء المختلفة قمح أو غيرها فلذا سميت دهوك. وهناك من يقول سميت دهوك نسبة للجبلين حيث أن كلمة “دو” تعني اثنين، وهوك أو هيك تعني البيض لأن الجبلين على هيئة البيض. ثم، ألم تكن دهوك مركزاً لإمارة “داسن” للكورد الإيزيدية في صدر الإسلام؟ وذكر بهذا الاسم في المصادر الإسلامية كالبلاذري وغيره، وهكذا ذكر في المصادر العثمانية التي حكمت المنطقة لأكثر من أربعة قرون؟. نحن نسأل، بأي اسم معروف المدينة في كتب التاريخ باسم دهوك أو نوهدرا؟؟ بلا شك باسمها الكوردي دهوك. إذا يزعمون خلاف هذا عليهم أن يأتوا بدليل من خارج أدريتهم وكنائسهم؟. لو كان صحيحاً اسمها “نوهدرا” وليس إدعاءاً، لسماها به النظام العراقي حين جعلها محافظة؟. على أية حال، أن كل هذه التفسيرات لاسم دهوك التي قام بها أجانب أو كورد يقولون أن دهوك اسم كوردي. وهنا نتساءل، هل ذكرت المدينة في كتب التاريخ العربي أو الفارسي أو التركي أو الأوروبي أو الأمريكي باسم الذي يطبل له البعض المغرر بهم هذه الأيام إلا وهو “نوهدرا”؟؟ حقيقة، إذا يوجد عندهم مصدراً لتلك الشعوب التي ذكرناها أعلاه يذكر اسم “نوهدرا” لا يبخلوا علينا به. ثم، دعونا نأتي على قِدم اسم دهوك الكوردي في التاريخ، هل هو حديث العهد؟ أم يسبق الـ”مائة عام” التي حددها لنا ذلك المتحدث المتبجح بأوهامه وتصوراته الخيالية. دعونا نلقي نظرة على بعض المصادر التي ذكرت دهوك قروناً قبل التاريخ الذي زعمه المتحدث الذي نحن بصدده. لقد ألف المؤرخ أبو بكر أحمد بن مسعود الطهراني الأصفهاني – طهران قرية بأصفهان- بأمر الأمير أوزون حسن عام 1470م كتاباً باللغة الفارسية أسماه: دياربكريه. وطبع الكتاب في أنقرة عام 1962. يذكر المؤلف اسم دهوك الكوردي في مؤلفه المذكور قبل “550” سنة، أي: 450 سنة قبل التاريخ الذي حدده المتحدث. وجاء اسم دهوك في مصدر آخر إلا وهو المنجد في اللغة والأعلام في ص 289 في مادة الدال يقول: إن دهوك تقع على سفح جبل كردستان. بالمناسبة هذا المنجد قامت بطبعه المطبعة الكاثوليكية في لبنان والمشرفون على طبعه وتدوينه الأب اليسوعي بولس موترد وكرم البستاني وآخرون.ثم، من معالم دهوك التاريخية مسجدها الكبير الذي شيد في زمن الحكم العثماني عام 1684م أي: قبل 336 سنة تقريباً أربعة أضعاف الرقم الذي حدده لنا المتحدث… .بلا أدنى شك أن المسيحيين لا يؤدون طقوسهم وفرائضهم الدينية في المساجد، لأن المسجد خاص بالمسلمين، ولا يوجد في دهوك في ذلك التاريخ مسلمون غير الكورد حتى يبنى لهم مسجدا؟، بينما المسيحي يؤدي طقوسه وفرائضه العقدية في الكنيسة، أضف لهذا، أن هذا المسيحي يمكن أن يكون كوردياً أيضاً؛ لكن المسلم لا يكون نسطورياً أو يعقوبيا أي: من أتباع نسطورس، أو يعقوب البردعي؟؟؟. يقول كتاب (مهد البشرية الحياة في شرق كردستان) في ص 94: كان (عزيز و يوحنا) من الآثوريين انحدرا من الجبال انتظاراً لوصولنا الموصل وكلاهما في حدود الخامسة والعشرين يرتديان زي الكرد الجبلي. السؤال هنا، إن كانا (عزيز ويوحنا) ينتميان لشعب آخر غير الشعب الكوردي أين زيهم الخاص بذلك الشعب؟؟ كالزي العربي، أو الفارسي، أو البلوشي، أو أو أو، لماذا يرتديان الزي الكوردي إذا هما ليسا من أبناء الأمة الكوردية؟. النقطة الأخرى التي تبين أن دهوك مدينة كوردية حتى قبل التاريخ الذي زعمه المتحدث الذي أشرنا له في صدر المقال. هناك شخص مسيحي إنجليزي كان عدواً للكورد لأنه رافق الجيش الاحتلال البريطاني الذي احتل جنوب كوردستان إلا وهو “سي. جي. أدمونز” الذي كان مستشاراً لوزارة الداخلية في العراق بين أعوام 1935-1945م. لقد ألف المذكور كتاباً بين أعوام 1919-1925م بعنوان: كردٌ وتركٌ وعرب. يقول في ص 14: من الإمارات الكردية المستقلة التي ذكرت أنها حافظت على كيانها حتى منتصف القرن التاسع عشر، توجد في العراق الآن ثلاث منها. وهي إمارة بهدينان التي كانت تشمل أقضية شمال لواء الموصل الحالي الجبلية الخمسة: زاخو ودهوك وعقرة وعمادية وزيبار. هل يوجد اسم آرامي لإحدى هذه الأقضية الكوردية؟. ألم يذكر اسم مدينة دهوك الكوردية قبل قرن من الآن؟. للعلم، حتى أن مترجم هذا الكتاب هو مسيحي اسمه (جرجيس فتح الله). هناك كتاب آخر بعنوان: (مهد البشرية الحياة في شرق كردستان). ألفه عام 1914م الأخوان دبليو. أي. ويگرام. و ادگار. تى. أي. ويگرام. وهما مسيحيان كانا قد بعثهما الكنيسة الانگليكانية للتبشير في كوردستان وتحريض مسيحييها ضد أخوانهم الكورد. لكن رغم هذا لم يستطيعا أن ينكرا حقيقة وجود كوردستان كوطن للشعب الكوردي تعيش فيه في كنف شعبه الكوردي بعض الأقليات العقدية والعرقية. في ص 104 يذكرا المؤلفان اسم دهوك قائلاً: هناك منحوتات بين (دهوك والقوش). إن ذكر اسم دهوك يعني أنها مدينة كوردية، لأن لولا وجود الكورد فيها لماذا تسمى المدينة باسم كوردي؟. إن هذا الآخر ذكر اسم دهوك الكوردية قبل التاريخ الذي زعم ذلك المتبجح بصلف وادعاء باطل.ثم، لنفترض جدلاً، أن عدد أي عنصر آخر غير كوردي في منطقة ما في كوردستان أكثر من عدد الكورد هل هذا يمنحه الحق أن يدعي ويزعم أن هذا الوطن له؟؟!! أليست مدينة عينكاوه التي قرب أربيل فيها اليوم غالبية مسيحية، هل هي ليست ضمن إقليم كوردستان وجزء لا يتجزأ منه؟؟. إن منطقة “كم سارة” في يوم من الأيام كان عدد المسيحيين فيها أكثر من المسلمين، هل هذا يعني أنها ليست جزءاً من مدينة بغداد؟؟ هناك أقلية تركمانية في كوردستان ربما بعض القرى حول كركوك الكوردستانية تكون غالبيتها تركمانية هل يستطيع أحد أن يقول هذه الأرض تركمانية؟؟ الكل يعلم أن وطن تركمان الأم هو تركمنستان الذي يقع في آسيا الوسطى بين الصين وروسيا الاتحادي. لاحظ عزيزي القارئ، ماذا يقول كتاب مهد البشرية المشار إليه في ص 188-189: ما أن ينحرف الطريق إلى الشمال الغربي متجهاً إلى (وان) حتى يدخل المسافر بصورة تدريجية، أرض الأمة الأرمينية تاركاً أراضي الآثوريين والنساطرة. ويستمر: أما كردستان هو الاسم الشائع العام ( وأن يكن غير رسمي) حيث تعيش أمة الكرد فهي تحتضن كلا الأرضين. هل شاهدت عزيزي القارئ، يقول هذه الأرض التي تسمى باسم الأرمن والآثوريين هي ضمن أرض كوردستان. تأكيداً على ما نقول وننقل لاحظ ماذا قال المنجد المذكور، في ص 708 في مادة النون: النساطرة أو الآشوريون: طائفة من المسيحيين ينتسبون إلى نسطور بطريرك القسطنطينية. قطنوا في كردستان … . هذا هو المنجد العربي يقول: استوطنوا في كردستان،أي: استوطنوا في كوردستان في كنف الأمة الكوردية. وكتاب مهد البشرية الذي ذكرناه في سياق المقال يقول في ص 128: الحياة السائدة في القرى المسيحية التي يملكها الكرد في الجبال؟؟؟. وذات المصدر في ص 264 يصف المسيحيين برعايا آغوات الكرد.
عزيزي القارئ في ختام توضيحنا هذا دعنا نضع أمامك ما نقله لنا كتاب “مهد البشرية” الذي ألفه أخوان من رجال الكنيسة وترجمه شخص مسيحي، يقول في ص 194: مما يجدر ذكره هنا أن زهر (ظاهر) آغا ريرنكي كان أحد الأكراد الذين تحدوا الحكومة بإيوائه الأرمن المطاردين عندما لجأوا إلى منطقته في تلك الأيام السود، وأدركهم الجزارون وهم في حماه وقالوا له: إن أمر السلطان قد قضى بقتل كل هؤلاء الأرمن الكلاب. فأجاب الأغا بجرأة واعتزاز أنه لا يفهم أي أمر من أي سلطان يلزم سيداً ذا كرامة بتسليم ضيوفه ليقتلوا بحد السيف، وكان اللاجئون قد استاقوا معهم عدداً قليلاً من الماشية والسائمة فسارعوا بتقديمها لمنقذهم، فأبى قبولها وزاد من كرمه فسمح لهم برعيها مع قطعانه حتى يعودوا إلى ديارهم وهكذا كان. ويضيف المؤلف: إن خير مثل للجنتلمان الكردي لا يدانيه أي جنتلمان في أي بقعة من بقاع الدنيا مطلقا. انتهى كلام المؤلف.
عزيزي المتابع، بالإضافة لتحدي هذا الأغا الكوردي أوامر السلطان العثماني، وحمايته للأرمن الذين لجأوا إليه، ألا يبين لك أن هؤلاء الآغوات الكورد هم حكام وأسياد وطن اسمه كوردستان وهؤلاء الأرمن وغيرهم يعتبرون رعاياهم فلذا لم يتخلوا عنهم في أحلك الظروف؟؟.
29 08 2020