إبراهيم محمود
ما يميّز الكرد كثيراً في علاقتهم بالمكان والزمان، والزمان تاريخ حي طبعاً، هو منْحهم لأنفسهم اعتباراً من جهة القوة، لا تتوافر فيهم، وعبر من يزعمون تمثيلهم، وهو اعتبار يقابِل ما يقوله أعداؤهم فيهم وعنهم، وسلوكيتهم تجاههم، والفرق كبيرٌ ناحية القوة الفعلية لهؤلاء وأولئك على الأرض، ولعل هوسهم بالتسميات، انطلق من هذا التصور، ولكم خسروا كثيراً مكاناً وزماناً، وفي أنفسهم، والحبل على الجرّار، جرّاء هذا المسلك المخضرَم، والذي بسبب تعلَّم أعداؤهم منهم، أكثر بكثير مما تعلّموه من أعدائهم هؤلاء على صعيد القوة قانوناً وأسلوب عمل .
وفي سوريا المثل الحي على ذلك، ولنا في السنوات الأخيرة أكثر من الخبر اليقين في ذلك :
قالوها كردستان سوريا، فخسرت كردستان سوريا، جرّاء هذه التسمية الكثير من استقرار أهلها الكرد حيث يعيشون ويتواجدون، وتقلَّصت كردستان سوريا أكثر من ذي قبل.
قالوها كردستان الغربية، فكلّفتهم التسمية المزيد من التصعيد الإعلامي، وفي ركاب هذه التسمية انضغط عليهم من أنفسهم على أنفسهم بأنفسهم إلى جانب أعدائهم المعلومين والمخفيين، لتزداد كردستان الغربية تقلصاً وكآبة وحداداً أكثر على كردها وهم ” يفورون ” نزوحاً هنا وهناك، وعبر جهات تفصلهم عن كردستانهم الغربية آلاف الأميال .
قالوها روجآفا كردستان، فزادت التكلفة في معاناتهم، وانحسارهم المكاني، واستثارة حتى الذين كانوا يجاورونهم عن قرب من معارفهم، ومن لغات أخرى، وفي الجوار وأبعد حول الحقيقة ” الغريبة ” في مثل هذه التسمية .
وبلغت أعداد النازحين، والهاربين بجلدهم، والقاطعين حدوداً مغامرين وغير آبهين بالموت الكثير، دافعين من أرواحهم وأموالهم ونظير ممتلكاتهم الكثير مما هو مادي، كما لو أنهم تنبَّهوا إلى ” خطر موت ” مثل هذه التسمية، وكما تشهد جهات الأرض، وألسنة حية لأمم حية قريباً وبعيداً بمثل هذه التراجيديا التي لم يعرف بأمرها حتى عظماء الإغريق أنفسهم قديماً .
تداركوا الوضع الكارثي، وقالوها شمال شرق سورية هذه المرة، إنما دون جدوى، فالسكّين تجاوزت العظم، فبقي الأثر صارخاً بهول الجاري جرحاً وكسراً ونزفاً وعنفاً، فتضاءل عدد الكرد، كما تبلبلوا في أمكنتهم، و” أبراج بابل ” الكرد، غير أبراج الآخرين في الانقسامات والتنافرات والتشظيات والانجراحات والكوارث ذات الطبعة الكردية، وقد تداعت أصداؤها في بقاع الأرض المختلفة، بشهادة الميديا ووسائلها ووسائطها المختلفة .
تسمية ” شمال شرق سوريا ” تالياً لا تعني ” شمال شرق سوريا قبل ذلك، لأن هناك، ما قبل هذه التسمية، تسميات أخرى أطلِقت في الجهات الأربع ليسمَع دويُّها ويعرَف صداها وأبعاد هذه التسمية، ونبّهت العملية إلى ما يجري، ليعيش الكرد ” كرد سورية ” هذه المرة في عراء من زعموا تمثيلهم، وعراء من يتفرجون عليهم، وعراء أمم الأرض ومنظماتها ذات الزعم ” الإنساني ” وقد انقلبت أوضاعهم ظهر المجن .
في التحليل النفسي: كل تسمية تسمّي حقيقة قائلها في زمانها ومكانها. والكرد الذين يُلحَقون بمن يدّعون تمثيلهم، يعرَضون خارجاً، أكثر مما هم عليه قوة، حيث القوة أبعد من كونها مجرد كلمة، إنها جمهرة مؤثرات مكانية وزمانية، إنها عقدة المظلومية كثيراً وهي بآثارها الوخيمة.
وتقول التسميات من خلال الهوس، وتداعياته ومن يتاجرون به كذلك، عن أن هؤلاء الكرد يخلطون كثيراً بين التكتيك والاستراتيجية، وحتى في التكتيك يشكون عمىً نهارياً، فما بالك بالاستراتيجية، جهة النظر في حقيقة كردستان وموقعها وتقسيمها، وطبيعة القوى التي تقاسمتها وتلك التي تعنى بها. إنهم، ومن خلال سياسيهم، والكثير الكثير من مثقفيهم، يرددون ببغائياً” وبالإذن من الببغاء ” ليل نهار مثل هذه اللازمة” من قسّموا كردستان، ومن يستبدون بكردستان وأهلها “، كما لو أنها بلازمتهم هذه ينتقمون من أعدائهم، وباللازمة هذه يؤكدون مشروعية زعامتهم، ونباهة توجهاتهم، ومن ثم صوب تصرفاتهم.
إنهم يدركون جيداً، أن كردياً يسعل حيثما كان، يتوثب لأمره مرتاباً في حقيقة سعاله، ليس حيث تقاسمت كردستان، وإنما من جهة الدول التي ” تحتضن ” الكرد في متروبولاتها الكبرى: الإمبريالية وغيرها.
وهذا ما حصل في كل جهات كردستان: من مهاباد شرقيَّها، وآمد شماليها، وهولير جنوبيها، وقامشلو غربيها، إن جازت التسميات الجغرافية، على صعيد التوترات والتحالفات والمناورات المركَّزة ضد الكرد، وما يجري في سوريا ناحية كرديها هو امتداد لهذا التوجه، وقد استبيحت عفرين، سرى كانيه، كري سبي.. ويخشى أن تكون أخريات في الطريق…حيث السحب الدكناء تغطي سماء الكرد هناك، وجوار هناك .
إنها لعبة الدمية الروسية ناحية القوى” قوة داخل قوة ” والكرد يسمّونها بالتفاصيل، لكنها سريعو النسيان، أو أن الذين يزعمون قيادتهم عموماً يتصرفون مثل الثور الذي دعى بقية الثيران إلى لزوم مقاومة جزاريهم، فانفعوا وراءه ليجدوا أنفسهم في المسلخ؟ إنه لمرعبٌ تصور أو تشبيه كهذا، إنما كيف يمكن تصور هذا النزيف الديموغرافي، الثقافي، الروحي، والإنساني التاريخي الكردي ، في سوريا هذه؟ حتى كردهم في الأمصار الأخرى ملّوا منهم، حتى كردهم في الجهات الأخرى، وجِد من بينهم من يتقاسمهم ويفرّغهم من كل قيمة معتبَرة كردياً .
هوس التسميات، خطأ قاتل يقع فيه السياسي الكردي والمثقف الكردي كثيراً:
الأول عندما يخاطب ” مريديه ” مشيراً إلى أعدائه بصفات ذميمة، منفّرة، تقلّل من قيمته، مثوّراً فيهم غريزة قطيعية، وليس تنوير الواقع، للتصرف تبعاً لمقتضياته ومستجداته، وليس أن ” يأتي بالدب إلى الكرْم “، وربما في نفسه أكثر من غاية يعقوب، طالما أنه مؤمّن على نفسه .
الثاني، حين ينافس السياسي هذا، وحتى الإعلامي، بإطلاق نعوت أو عبارات شعاراتية سطحية، من باب ذم الأعداء ومن في صف الأعداء، ناسياً أو متناسياً، أن ذلك يجرّده في الحال من صفة المثقف المزعومة، ويقصيه بعيداً عن ساحة الفكر الذي يسمّي المشكلة على حقيقتها، والحلول المفترضة لها .
كما لو أـن هناك تنافساً غير متَّفق عليه بين الإثنين، ليلبس أي كان لبوس الآخر، ويكون الإعلامي والمربّي والصحافي والحكيم، وليس لديه خصال أي من هؤلاء ومتطلبات كل تسمية ولغتها الخاصة .
عندما كان الكرد في سوريا، ويشار إليهم كرداً، كان الشعور بالكردايتية أجمل، أبهى، أسلس، أبعث على الأمان والسكَينة والاستقرار والتعايش مع الآخري، وفيما بين الكرد أنفسهم من شمال سوريا إلى جنوبها، وعندما زكّيت لعبة التسمية استحال الكرد أيدي سبأ: متفرقين، متضاربين، مصدومين في بعضهم بعضاً، وصادمين لسواهم، لينخفض الكرد في حضورهم الملايين إلى مادون الملين واقعاً. فأي تسمية تنتظر الكرد بعد ذلك، لمحو أثرهم؟
في عام 2012، نشرت مقالاً تحت عنوان ” أنا كردي سوري قبل أن أكون كردستانياً ” منوّهاً إلى حقيقة ما يعيشه الكرد سياسياً واجتماعياً وثقافياً حتى فيما بينهم، وما يعنيه الشعار بالنسبة إليهم ذاتياً وموضوعياً، اندفع كثيرون” ومن خانة المثقفين ” لإخراج العنوان من نطاقه التحليلي، ووضعه في السياق التخويني، إلى درجة أن أحدهم وهو مقيم في الغرب منذ قرابة أربعة عقود من الزمن، وعاش تحولات زئبقية في تصوراته السياسية والثقافية، دعا إلى سحب ما سمّاه الفطين بـ” الهوية الكردية ” من كل يتحدث هكذا.
أي استبداد مميت يخفيه نمط كهذا في وضع كهذا، وفيما لو يجري تعميمه، حيث يتضخم العدد بصورة مريعة؟ وحيث لازال يشار إلى العدو كما هو، دون تغيير، ونسيان من يكون العدو الداخلي، قبل الخارجي، تجنباً للمزيد من اصطناع التسميات وخرائبها الفولكلورية.
ترى من وراء مثل هذه التسميات الأخرى وهي ملحقة بالتي قبلها؟
متى سنصحو من هذه اللعبة المميتة ؟ وإذا أمكننا الصحو، ماذا يتبقَّى فينا من حياة ومن تعريف للكردية الفعلية، على وقع هذا المصاب الجمْعي الجلل والذي لا يزال قائماً هنا وهناك؟