العبث والتلاعب بمفهوم «دولة المواطنة»

شاهين أحمد
خرج السوريون في ثورتهم في الـ 15 من آذار عام 2011 ليقولوا ” لا ” لمنظومة البعث بكل مرتكزاتها الفكرية والثقافية والسياسية والأمنية والعسكرية … إلخ . وعمت تلك الإحتجاجات مختلف المدن والبلدات والقرى على طول البلاد وعرضها ، وشارك فيها شرائح واسعة من الشعب السوري ومن مختلف المكونات القومية والدينية والمذهبية ، تلك الشرائح التي تضررت من حكومات نظام البعث التي تعاقبت على سدة الحكم في سوريا منذ إنقلاب البعث في الـ 8 من آذار عام 1963 ، وكان شعبنا الكوردي من بين تلك المكونات التي شارك بكل فعالية في تلك الإحتجاجات وذلك من خلال الحراك الشبابي السلمي ، ووقفت الحركة التحررية الكوردية في سوريا منذ اليوم الأول إلى جانب الحراك الثوري ، وإعتبرت نفسها جزءاً من الثورة السلمية ، وشاركت في مختلف فعاليات ومؤسسات المعارضة السياسية ، وطرحت رؤيتها لحل الأزمة السورية سياسياً بعيداً عن العنف والخيار العسكري ، 
ونبهت أكثر من مرة من خطورة إنزلاق الحراك السلمي إلى العسكرة ، وإستغلال النظام لوجود السلاح ذريعة لإستخدام القوة المفرطة ، وكذلك إستغلال الراديكاليين الإسلاميين للفوضى والدخول إلى حواضن الثورة، وإظهارها بلبوس ديني متطرف ، ومن ثم حرفها عن مسارها . وتلخصت رؤية أحزاب الحركة التحررية الكوردية في وقف العنف ، والإستمرار في الإحتجاجات السلمية ، وتنظيم وتأطير ممثلي المعارضة والحراك الثوري في أطر ومؤسسات ، وتشكيل مرجعية جامعة للثوار من خلال مؤتمر جامع يمثل قوى الثورة ومن مختلف المشارب والمكونات ، وصياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع ومعبر عن طموحات الشعب السوري ، يهدف لإعادة إنتاج جمهورية سورية إتحادية ، ونظام ديمقراطي مدني تعددي على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب السوري ، قائم على أساس الفصل بين السلطات المختلفة ، وإستقلالية القضاء ، وفصل الدين عن مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والثقافية وغيرها ، وحل كافة القضايا الوطنية العالقة بروح المسؤولية الوطنية ، وفي مقدمتها قضية الشعب الكوردي في سوريا ، من خلال الإقرار بواقع وجود الشعب الكوردي على أرضه التاريخية نتيجة الإتفاقيات الدولية التي فرضتها ظروف الحرب العالمية الأولى ، وخاصة إتفاقية سايكس – بيكو التي وقعتها إنكلترا وفرنسا وروسيا القيصرية في عام 1916 ، حيث خرجت منها روسيا لاحقاً بعد قيام الثورة الإشتراكية فيها في عام 1917 ، وكذلك إتفاقية لوزان لعام 1923 ، والتي بنتيجتهما بقي جزء من كوردستان ومن الشعب الكوردي داخل الحدود السياسية والإدارية المعروفة للدولة السورية ، وبالتالي ضرورة حل هذه القضية وفق العهود والمواثيق الدولية ، وبروحية الشراكة الوطنية ووفق مبدأ التوافق والتوازن والطواعية لبناء سوريا جديدة مختلفة عن سوريا البعث .

ماذا حصل للثورة ؟.
نجح النظام في إستدراج الحراك السلمي إلى مستنقع العسكرة ، ودخلت قوى الإسلام السياسي على الخط ، وكذلك قامت الأجهزة الأمنية لنظام البعث بإرسال الكثير من أفرادها إلى صفوف المعارضة ، وتشكل تحالف قوي “غير معلن ” بين بعض أجنحة الأسلمة السياسية والوافدين من إستخبارات النظام ، وتغلغل المتحالفون في مفاصل مؤسسات المعارضة المختلفة العسكرية والسياسية وكذلك الحراك الشبابي ، ودخل المال السياسي من مصادر متعددة، وتصدر المشهد المعارض شخصيات من التحالف المذكور – تحالف الوافدين من إستخبارات نظام البعث مع بعض أجنحة الأسلمة السياسية – تلك الشخصيات المعروفة بخدمتها وولائها للنظام ، وبتقاطع مواقفها مع سياسات النظام ، وخاصة تلك المواقف المتعلقة بقضايا المكونات السورية الأخرى غير العربية ، وكذلك رؤيتها المطابقة لرؤية النظام لجهة شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم ، والنزعة الطائفية ، والخلفية القوموية …. إلخ . كل هذه الامور أوصلت مؤسسات المعارضة إلى حالة يرثى لها ، وإنقسمت – المعارضة – بين مانحي المال السياسي ، وحشرت المعارضة  نفسها في معضلة صراع المصالح الدولية والإقليمية ، وإنزلقت إلى مستنقعات الصراع  الإقليمي الطائفي ، وفقدت التعاطف الدولي الواسع الذي حظيت به ، وإنقسمت أفقياً وعمودياً وتشظت إلى منصات مختلفة متصارعة ، وتنصلت من الإلتزامات التي وقعتها مع المجلس الوطني الكوردي في عام 2013، وتورطت فصائلها العسكرية في نهب ممتلكات الشعب الكوردي في عفرين وكري سبي ( تل أبيض ) وسري كاني ( رأس العين ) .

ما هي ” دولة المواطنة ” ، وما أسباب طرحها في هذه المرحلة تحديداً ، وما مدى واقعية وإمكانية تطبيقها في حالتنا السورية في هذه المرحلة ؟.
بداية دولة المواطنة شكل متقدم جداً من بين الحلول المطروحة ، ولكن هذا الشكل يحتاج إلى جملة ” شروط ومناخات ” غير متوفرة في الحالة السورية ، كون المعارضة في كامل قسمها العربي السني مازالت تنشد شعارات البعث لجهة أن ” سوريا جزء من الوطن العربي والشعب السوري جزء من الأمة العربية ” وحتى الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي يشارك فيه الكورد بفعالية بموجب وثيقة موقعة بينه وبين المجلس الوطني الكوردي بأن تكون كافة المراسلات بإسم الجمهورية السورية، إلا أن مختلف مؤسسات الإئتلاف لم تلتزم بتلك الوثيقة ، وبقيت الكليشة بإسم ” الجمهورية العربية السورية ” ، بمعنى أن الإخوة في المكون العربي السني غير مقتنعين بان سوريا هي ” وطن نهائي ” مستقل بحدودها الإدارية والسياسية المعروفة ، وأن الشعب السوري هو مجموعة شعوب وأقليات قومية أخرى ليسوا كلهم عرباً ، وبالتالي الشعب السوري ليس جزء من الأمة العربية ، وهكذا بالنسبة للشعب الكوردي الذي لم ينجز إستحقاقه القومي بعد ، ومازال يناضل ويطمح للتعبير عن وجوده وتقرير مصيره ، وكذلك الآشوريين السريان والتركمان وغيرهم . ومن المفارقات المخجلة أن يتم حشر هذا النموذج النبيل – دولة المواطنة – في هذا الواقع المتأزم ، وزجه في اتون المعارك الطائفية والحروب الأهلية ، مترافقاً بالهجومي الإتهامي الباطل على الشعب الكوردي وحركته التحررية ، حتى وصل الأمر بالبعض ” الطارىء ” على مساحة المعارضة بالطلب من القادة الكورد بأن عليهم أن يفكروا سورياً !! ، وكأن الكورد يطرحون مشاريعهم على سطح كوكب المريخ ،متناسين بأن الكورد هم من أسسوا سوريا ، وأن قيادات سوريا قبل أن يغتصبها البعث العنصري ومن قبله الناصريون كانوا جلهم من أبناء الشعب الكوردي من أمثال ” الرؤساء شكري القوتلي ومحمد علي العابد وفوزي سلو ومحسن البرازي وحسني الزعيم وأديب الشيشكلي …إلخ . بالرغم من أن جميع المهتمين يدركون جيداً بأن برامج كافة الأحزاب الكوردية وبدون استثناء هي برامج تحت سقف المشروع الوطني السوري . وبعد مضي تسع سنوات على إنطلاقة الثورة ، ووصول المعارضة إلى ماوصلت إليه من ترهل وإنقسام ، وتحول غالبية المسلحين المحسوبين عليها والتي هي بالأساس من خلفيات راديكالية إسلامية ، إلى مرتزقة نتيجة تورطها في عمليات تتناقض مع قيم الثورة وأهدافها كالسلب والنهب والخطف والقتل والتهجير ومنع عودة النازحين إلى ديارهم . وكذلك ظهور بعض المبادرات والمحاولات المتعلقة بالتقريب بين الطرفين الكورديين الرئيسيين المتمثلين بالمجلس الوطني الكوردي في سوريا ENKS وأحزاب الوحدة الوطنية الكوردية التي يقودها  pyd ، وظهور ردود فعل سلبية متسرعة وغير متوقعة من جانب غالبية أطراف المعارضة العربية السنية على الحوار الكوردي – الكوردي، حيث ظهر بشكل مفاجىء وسط هذا الحراك المركب مصطلح ” دولة المواطنة ” كشعار من قبل هؤلاء ، وبدأت بعض الأصوات ” النشاذ ” بالتهجم غير المبرر على الحركة التحررية الكوردية عامة والمجلس الوطني الكوردي بصورة خاصة ، من قبيل إطلاق تهم الإنفصال والولاء للخارج ، حيث حفلت صفحات ومواقع كثيرة بخطاب إتهامي ” غير وطني ” ، كإجترار لتلك التهم الجاهزة والباطلة التي كانت تسوقها ” محكمة أمن الدولة العليا في دمشق ” بحق المناضلين من منتسبي حركتنا التحررية الكوردية تبريراً لإطلاق أحكامها الجائرة والباطلة .

دولة المواطنة ” حلم ” جميل وشكلٌ متقدم ولكنه بعيد المنال 
كي لايخرج علينا البعض من الإخوة ويشرح لنا مزايا دولة المواطنة ، فإن ” دولة المواطنة ” تعتبر أحد أفضل النماذج الخاصة ببناء الدول ، لكن في البلدان  والمساحات والمجتمعات التي ننتمي إليها ربما لسوء طالعنا ، أنها بالإضافة إلى النظم الدكتاتورية التي تحكمها ، مازالت نسيجها المجتمعي مركب من المجتمعات الأهلية والقبلية ، والسائد فيها هي ثقافة بدائية إشكالية مشبعة بالكثير من الأمراض الإجتماعية والتقاليد البالية والمثيرة للإنقسام ، ومازالت المجتمعات المدنية وثقافتها في مراحل التشكل الأولية ، ولم تبدأ بعد عملية بناء المجتمعات الوطنية ، وثقافتها مازالت مغيبة تماماً ، وإرادة مواطنيها مصادرة ، ومازالت – هذه البلدان والمساحات – تعيش حروباً ” قذرة ومركبة ” مثل بلدنا سوريا ، وبالتالي الحديث عن هذا النموذج هو نوع من الرفاهية وأقرب إلى الخيال منه إلى الواقع ، وهنا لاتقاس الامور بالنوايا الطيبة بقدر تعلقها بالمعطيات الواقعية لذاك البلد الذي ننوي تطبيق هذا النموذج فيه . وبالتالي أي حديث عن دولة المواطنة في بلد كسوريا في هذه المرحلة يأتي إما كنوع من التهرب والقفز على الإستحقاقات المتعلقة بالهويات الفرعية الموجودة سواءً كانت قومية أو دينية أو مذهبية ، أو جهل بحقيقة البيئة والمناخات والمقومات الضرورية اللازمة لبناء دولة المواطنة ، ولايمكن إطلاقاً بناء دولة مواطنة في بلد مازال يعتبر نفسه إمتداداً لمشاريع عابرة للحدود ، وأي حديث عن دولة المواطنة يعني قبل كل شيء إعتبار سوريا ” أمة متكاملة مستقلة ووطن نهائي ” وليست جزءاً من منظومات أو أمم أخرى ، لأن عماد دولة المواطنة هو إشباع خصوصيات جميع الأفراد الذين لايذوبون في إطار الجماعة ، وطالما أن الفرد يشكل عماد دولة المواطنة يجب أن يتم تنشئته على أساس القيم الخاصة بدولة المواطنة ، وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح على جميع الشركاء في سوريا : إلا أي درجة يتقبل المواطن العربي في سوريا أن ينسى إنتمائه القومي للأمة العربية وحلمه في بناء الخلافة العربية من المحيط إلى الخليج ؟!. وكذلك المواطن الكوردي السوري الذي تعرض طوال أكثر من ستة عقود لشتى أنواع الظلم والإضطهاد لمحو وجوده وإلغاءهويته القومية ، ولم يتحقق حلمه في الخصوصية القومية ، إلى أي حد سيتقبل هذا الكوردي القفز فوق طموحاته المشروعة وإنتمائه للأمة الكوردية ؟ . وهكذا بالنسبة لأفراد بقية المكونات . لتكن طروحاتنا واقعية كي لا نهدر المزيد من الوقت ، دولة المواطنة يمكن الحديث عنها فقط عندما يتم الإنتقال من المجتمع الأهلي والتخلص من ثقافته ، والعبور إلى المجتمع المدني وبناء مؤسساته الفاعلة ، ومن ثم التأسيس للمجتمع الوطني وذلك بعد إنجاز كافة الاستحقاقات المتعلقة بالهويات الفرعية ( القومية والدينية والمذهبية وحتى المناطقية ) ووضع حلول علمية وواقعية لها .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…