د. محمود عباس
لتسارع التطور في الفن العربي، كالموسيقى والغناء، وإلى حد ما الشعر، أسبابه وعوامله، فرغم قصر عمرهما الزمني مقارنة بفنون وشعر شعوب الحضارتين الساسانية والبيزنطية، أو فيما لو نظرنا إليهما من مرحلة الوحي، ونستثني منها الشكوك التي جالت حول الشعر الجاهلي. يلاحظ أنهما تجاوزا الجميع وبكل أبعادها، وجل ذلك عائد لدور السلطات الداعمة، التي ساهمت في تجاوز فنون وآداب معظم شعوب المنطقة، كالآرامية والمصرية والبيزنطية والفهلوية، بعد قرنين من خروج أول الغزوات من شبه الجزير العربية، والتي أدت إلى تفاوت رهيب بينهم.
فرغم أن اللغة العربية الحالية، فرضت بعد الوحي، وبعد نزول القرآن، ونقصد لهجة القريش، المكتوب بها النص الإلهي، كانت حينها دون مستوى اللغة الفهلوية الساسانية ثقافة وتدوينا، ولكن بفرضها من البعدين الديني والإداري، كلغة وحيدة للسلطات الإسلامية والعربية، تطورت بشكل متسارع في كل الجغرافيات التي طالتها السلطات العربية، والاستثناءات كانت نادرة.
كما ومن المعروف تاريخيا أن الغناء العربي ظهر بعد الخلافة الراشدية، المأخوذة بوادرها من سبايا الإمبراطورية الساسانية، بعدما سمعهم أحد الموالي، وأسمه سريج يغنون أثناء إعادة بناء الكعبة، وينتشر من بعده وبوتيرة متسارعة، إلى أن بلغت سوية ما جمعه الأصفهاني بين دفتي كتابه (الأغاني) الرائع، والذي يذكر في الصفحة (52) عن أول غناء تم في مكة ” قال إسحاق وحدثني أبي قال أخبرني من رأي عود ابن سريج وكان على صنعة عيدان الفرس وكان أبن سريج أول من ضرب به على الغناء العربي بمكة وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة”. كما وذكر في صفحة (حقيقة أدعياء السلفية وبيان انحرافاتهم وضلالاتهم) ليوم 28 نيسان، أن (سيرين) (اسمها الحقيقي شيرين كما ذكرها ابن كثير في كتابه السيرة الجزء الرابع ص (600 و648) أخت ماريا القبطية أم المؤمنين زوجة الرسول الكريم، هي أول من أدخلت العود المصري إلى المدينة، وكانت تتمتع بصوت شجي، يقول أبن حجر في كتابه (الإصابة) الجزء الثامن ص (198) ” عن ابن عباس؛ قال: مر رسول الله صلى، بحسان ومعه أصحابهُ سماطين وجارية له يقال لها سيرين، فجعل بين السماطين وهي تغنيهم، فلم يأمرهم ولهم ينههم” ومن المرجح أنها كانت تغني باللغة المصرية مع إيقاع العود، فلا يظن أن تكون قد أجادت العربية إلى درجة الغناء خلال سنة الفترة التي كانت لا تزال تدرج كإمة، ولم تكن قد ولدت أبنها عبد الرحمن من حسان بن ثابت، ولم نأتي على مصدر لتبيانها، علما أن الحديث نادر عن إدائها الغناء والعزف، وجلب العود المصري، لأنها ربما كنت أخت أم المؤمنين ماريا القبطية، فقل نقل الخبر في هذا. ثم قام (أبن حارث) عام 624م بتعريف أهل مكة بألة العود والغناء.
ففي رواية ابن سريج، تتبين إلى جانب مرحلة بروز الغناء العربي، الإشكالية التي كنا بصددها في الحلقات السابقة، وهي أن بعض المؤرخين يضفون الفارسية على جميع اللغات الإيرانية، لكن الأصفهاني يفصل بين العجم كوصف لسبايا الساسانيين، والصفة الفارسية عن منطقة معينة، وقد كان الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك، وأبن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ، دقيقين في هذا المجال، فكل تذكير للفارسية كانت تعني منطقة فارس دون اللغة وهي جنوب أصفهان. والغناء لم يكن قبلها دارجا كما يدعي البعض، وإلا لما تم التالي مع الخليفة عمر بن الخطاب، كما رواه البيهقي في الجزء العاشر ص (224) ” في حديث السائب بن يزيد، بينا رباح يغنيه أدركهم عمر بن الخطاب، رضي، في خلافته، فقال: ما هذا؟ فقال عبد الرحمن بن عوف، ما بأس بهذا، نلهو ونقصر عنا، فقال عمر: فإن كنت أخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب”، وعن العود الذي لم يكن يعرف رغم ما تم ذكره هنا، يقول الفاكهي في (أخبار مكة) الجزء الثالث ص (27) وأبن عبد البر في العقد الفريد الجزء السابع ص (13) ” إنه كان لعبد الله بن الزبير جوار عوادات. وإن أبن عمر دخل عليه فرأى العود فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله فتأمله ابن عمر وقال: هذا ميزان رومي فقال ابن الزبير: توزن به العقول” هذه دلالات من العديد أمثالها تؤكد أن الغناء والآلات الموسيقية دخلت الجزيرة العربية من الشعوب المجاورة، كالساسانية كالغناء والعود، ومن مصر كالعود المصري، والحكمة هي أن هذا النوع من الفن والشعر تحت السلطة العربية الإسلامية تجاوزت فن الشعوب المحتلة ولقرون عديدة، إلى أن أعادت تلك الشعوب أمجادها وببطء، وخير مثال ما كان عليه الفهلوية الساسانية، والتي ظهرت بشكل خجول في بدايات القرن العاشر، وفي مناطق متفرقة من جغرافية كوردستان.
وقد تكون صدمة فيما إذا ذكرنا أن المقال يسري على اللغة العربية ذاتها، ففي مقالة ضمن موقع العاصمة نيوز، تحت عنوان تاريخ اللغة العربية وأول من تكلم بها، بتاريخ 9/9/2018م ” أن أقدم ما وصل منها بعض العلامات والنقوش التي ترجع في تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي، كما وصلنا أرقى آثارها من الشعر والنثر الذين أُلفا في الجاهلية وجُمعا في القرن الأول للهجرة؛ حيثُ يُبينان كمال هذه اللغة وعظمتها ومرونتها”. ويتمم في مقطع أخر ” روت الكثير من المصادر التاريخية أن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح هو أول من تكلم العربية؛ لأنه من انعدل لسانه من اللغة السريانية إلى اللغة العربية”.
وبالمقابل تراجعت أو عتمت وأهملت لغات الشعوب الأخرى، إن كانت بالقوة عن طريق فرض لغة القرآن أو بالتخلي طواعية عنها من قبل أصحابها متأثرين بلغة النص الإلهي والسلطة العربية الإسلامية، كاللغة الساسانية وورثتها الكورد، والفارسية، والأمازيغية والقبطية والأرامية وغيرها. لكن البعض من السلطات التي ظهرت تحت خيمة الخلافة العربية الإسلامية، كالمملكة السامانية والغزنوية تمكنت من إنقاذ لغة شعبها الفارسي بعدما فرضت ذاتها كقوة، ولحسها القومي استطاعت وبفترة قصيرة من إحياء ما تم تدميره على مدى القرون من الهيمنة العربية الإسلامية، ومثلها العثمانية التركية.
يقال إن بعض العشائر العربية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام لم تكن تفهم بعضها، ونحن هنا لا نتحدث عن لغة العرب العاربة والمستعربة، بل حتى بين القبائل المستعربة، فالكثيرون يشككون أن تكون حتى المعلقات هي نفس اللغة التي وصلتنا بها اليوم. وهنا لا نقف على الدراسات المحرفة لتاريخ اللغة العربية، بل المنطقية، والتي لا تقلل من مكانتها ولا من جمالياتها.
كحديث للرسول الكريم، ذكرها الرواة أنه عندما كان يستمع إلى الرائع من الشعر والنثر يقول: ” إن من الشعر لحكمة. وإن من البيان لسحر” وقيل إن مناسبة قوله الجملة الثانية كان على خلفية حدث ومحاكمة وقول بيان، جرى أمام الرسول الكريم، ولسنا بصددها هنا. وذكر أنه كان يقول لشاعره حسان بن ثابت ” نافح عنا، وروح القدس يؤيدك. أجب عني اللهم أيده بروح القدس”. ويقال إنه قال لكعب بن مالك يوما “أهجم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل” …
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/5/2020م