القيامة الجديدة: في ألهبة الحرب وتيه البوصلة

 إبراهيم اليوسف
ثمة ما أحاول تناوله، وأنا أقوِّم الحرب الضروس التي بدأت ألسنة نارها تتصاعد تدريجياً، منذ نقطة البدء الغائرة، على مسافة تكاد تترك  الآن وراءها-عشرسنوات- مكتملة، حيث إن انهياراً عظيماً بدأ في ساحة الحرب، الواقعية أو الافتراضية، عبر هذا المدى، كي يبات التنصل من القيم  العليا، السامية، أسَّ العمل اليومي لدى أوساط  تكاد أن تكون كثيرة وصارت تتوسع بيننا يوماً وراء يوم: المسلح منها والسياسي. المثقف والعامل في الميدان المدني، بل وحتى  بعض التنسيقي” الشبابي” المعول عليه، إذ ظهر ظمأ جنوني. جوع شره. وأكاد أقول أزيد، لدى كثيرين، بحيث تكاد تضطر، أمام هذا الواقع الكارثي أخلاقياً، لإخضاع  كل من حولك إلى مبضع التشريح ولو الذاتي شاكاً في كل القيم:
هل إن من عرفته قبل هذه الحرب اللعينة هو ذاته من أراه بعدها؟ ولقد كان أكبر دافع للضريبة ذلك الذي تعامل ولايزال يتعامل مع ماحوله وفق منظومة قيم عالم ما قبل الحرب، إذ إن تموقعات كثيرين باتت تتغير، وكأننا نعيش موسم الانزياحات القارية الكبرى، حيث هناك من بدل زمرة رؤاه من حال إلى آخر. من موضع إلى آخر، بحسب بوصلة المنافع، وكأني بكثيرين أصيبت منظومات أدمغتهم، وعميت  أبصارهم وبصائرهم، في ظل أتون الحرب ودخانها الكثيف المتصاعد، والتبست عليهم الألوان، أو ماعادوا يعنون بها، أية كانت، ليسموها كما يطلب إليهم ذلك، ما أفقد ثقة المرء بالآخر، بعمله. بصراخه. إذ إن مفرخة التسويغات باتت بين أيدي جميعهم: السياسي. المثقف وغيرهما، أما عن العسكري الذي انخرط في الحرب ارتزاقاً، أو هواية بقتل الآخر- ولاأعني المتفاني صانع أسطورة الانتصار المدافع عن الكرامة والقيم- فأمره  لأدهى، وأمر!
لم يعد لدى كثيرين ماطالما أشادوا به” الثبات على المبدأ” بعد أن غدت معاييرهم مطاطية، ممكن الاستطالة أو التقزيم، بحسب مايدره الموقف من مكاسب آنية، وهنالك من إذا تتبعت سيرته على مدى سنوات الحرب لرأيت- نطننته- من موقع إلى آخر، ناسفاً كل ما ادعاه خلال سنوات عمره، ومن بين ذلك ماسجله من مواقف مضيئة يعتد بها، إذ غدا الانقلاب على مواقفه. على ثوابته. على ذاته. على مسوغات شخصيته الفكرية أو السياسية. على كرامته أمراً في منتهى اليسر، لنكون هنا أمام عهر في الرؤى، أو خرف نتيجة هيمنة  هلوسات الحرب، وهنا فنحن أمام خطر كبير محدق، إذ إنه وبعد تحطيم الحاضر والتاريخ، فإننا بتنا أمام شبح تدميرالمستقبل؟
قد يسأل أحدنا وكيف ذلك؟
الإجابة- هنا- جد واضحة، إذ إن هذا النموذج لم يترك للأجيال القادمة ما تفتخربه من إرث، وإلا فكيف أن من يضيع كل حياته من أجل القيم الكبرى يتهافت متوحماً، متهاوياً، بل ساقطاً، على أقرب حذاء  يلعقه، عساه يفوز ببعض غبارالحرب، أو نكهة الدم، أو النفط؟ . إننا هنا نترحم على تلك الصور العظيمة للأبطال الذين صمدوا في السجون، والزنازين، والمنفردات، وبصقوا في وجوه جلاديهم كي يذابوا بالأسيد، وهوما تغنى به السياسي، وحوله الثقافي إلى مساحات جمالية في عالم الشعر، والقص، والمسرح، والأدب، بل إن الحكواتي- لصيق المقاهي والناس- استفاد من هذه المآثر، ووظفها في حكايات مؤسطرة أنى سمح له الرقيب بذلك. بيد أن كل ذلك بات يغيب، في حمى شبق ونزوة هذه الحرب القذرة!
لا يتوهمن أحد منا أنه إن سمي الأسود أسود ذات يوم، وأفنى عمره في ترسيخ هذه الفكرة في أذهان من حوله قادر أن يقنع هؤلاء بتحويل تسميته بالأبيض، ومن ثم الرمادي، والأحمر، والأزرق والأصفر إلى آخر معجم الألوان، وماعلى الناس إلا أن يصدقوه. إنه إزاء تقويم مثل هذه الحالة المريبة ما يجعلنا ألا نحكم عليها بأنها تخون ماضيها، بل إنها لم تكن إلا كتلة مزيفة، مزورة، أكذوبة، أضلولة، وهوكلام لايمكن أن يعمم، لأنه في الاتجاه المقابل، مازال هناك من يحافظ على ماء وجهه وهويسير- على صراط- القيامة الجديدة
طوبى، لأولئك الذين قالوا كلمتهم منذ البدء، وها هم يرددونها، لأن التجديد. التحول، قد ينالان قشور وحتى  مكونات الكثيرمن التفاصيل، إلا إنهما لا يمكن أن ينالا جواهر ثوابت من قبيل: تطويب القاتل. تطويب اللص. تطويب المنحط، لا سيما من لدن كان المعلم في إطلاق المصطلحات على الآخرين، والحكم عليهم، وهو في موقع بعيد عن المساءلة، ومحكات منصة الامتحان أو الاستحقاق!؟
هل قلت شيئاً هنا يعتد به في تقويم المقام؟
لا…..

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…