إبراهيم اليوسف
إذا كانت ثورات المنطقة، المجهضة ونصف المجهضة، والمؤودة، قد جاءت للتخلص من ثقافة ووطء- حكم بسطار العسكر- وانقلاباتهم البائسة، في المنطقة، منذ خمسينيات القرن الماضي- في أقل تقدير- وكانت السبب الكارثي وراء ما آلينا إليه، من شعوب المنطقة قاطبة: عرباً، وأتراكاً، وفرساً، وفي صورة أكثر تراجيدية: الكرد منهم، على وجه الخصوص، نظراً للمؤامرة التي تمت على خريطة كردستان، وشعبها، بوتائر أعلى، مما هو حال جميعهم، ليس خلال المئة سنة الأخيرة ونيف**، فحسب، وإنما منذ أربعة عشر قرناً ونيف، وهو ما يحتاج إلى جهود مؤرخين وعلماء اجتماع، أحرار، استطاعوا التخلص من الذهنية التي فرضت على ثقافات المكان، بل على ثقافتهم في مايتعلق بالموقف من الكردي، وفي كل هذا مايؤكد عظمة مكانته التي تتحسب لها قوى كثيرة، عملت وتعمل على إقصائه!
ولن أذهب بعيداً، بل سأقلص حدود منصة – التشريح- لأجعلها، ضمن نطاق ماعرفت ب” سوريا” أو الجمهورية السورية، قبل أن تكون هناك: الجمهورية العربية السورية- المصطلح المزور الذي لايزال مقراً دستورياً، وينافح عنه الهمج، ومدجنو العصبية القوموية: عواماً ونخباً، من عداد الذين لايقبلون بالعيش المشترك، إلا إذا كان صورة قميئة، مشوهة، عن عالم” السيد والمسود”، العالم الذي ليسوا مؤهلين له، إلا من قبيل تأهل” الجلاد” أو السجان” أو العسسي”، أو المريض، الفصامي، في أقصى وآلم صور وحشية السادية تجاه الآخر، وهو شذرة من مبحث عام، ليس هنا موقع تناوله التفصيلي!
لاأرغب-هنا- بالاستغراق في- مقدمة رؤيتي- المتعلقة بتحليل ظاهرة عودة العسكر، مرة أخرى، عبر أكذوبة- الدفاع عن الذات- التي طوبنا لها، وتم استغلالها، واستثمارها من قبل دهاقنة دهاة وقوى متربصة: إقليمية- خليجية- عربية- إسلاموية- دولية، لنكون أمام جنرالات طغاة، نأوا عن جوهر- مشروع- حسين هرموش، الضحية الذي ظلت قضيته بعيدة عما تستحقه من فضح، وإدانة، ومحاسبة، ومتابعة، نتيجة توطؤات مدفوعة الثمن لقاء السكوت والإسكات، إذ كان لزاماً على: المجلس الوطني السوري استمرارالمطالبة بإطلاق سراحه، وهكذا بالنسبة إلى الائتلاف، إلا أن ملفه ظل مجرد أخبار على- شبكات التواصل الاجتماعي- أو حتى في بعض المقالات، أو فصول الكتب، لأن الأمر ليس مشكلة اختراق لخطف الرجل، وإيصاله إلى طغمة دمشق، مقابل ثمن بخس لخاطفيه، بل إن اللعبة أعظم، وأفدح، وكان ينبغي إقالة أجهزة النظام المضيف، إن كان صادقاً في موقفه من الثورة السورية التي كان أول من أساء إليها، بالتنسيق مع جهة أخرى: إيران، لتدخل دول كبرى على الخط: روسيا- الصين، بل أمريكا الأوبامية، وقبل جميعهم: إسرائيل، ليكون مصيرنا جميعاً ماوصلنا إليه، أو ماانحدرنا إليه من هاوية جد سحيقة!
أجل، منذ أن تمت عسكرة الثورة السورية، فإننا بتنا نجد تنفيساً من قبل-العسكري- الذي كان يعيش حالة ضغط كبرى في ظل النظام-إن لم يكن تابعاً له- وبدا مستعداً لبيع صوته لعدو وجوده، الذي جوعه، طويلاً، كما حدث في قصة- النمور في يومها العاشر- مع فارق صغير، أن هؤلاء لايمكن اعتبارهم من فصيلة حيوان هو النمر- بتوصيفاته المتناقضة- بل بما يناسب صفة من يقبل بأن يكون في طلائع قوات احتلال بلده، وبلا حياء، وبلا أخلاق، وبلا ضمير، وبلا خجل، وبلا كرامة، وبلا شرف، ولنا في ما تم في: عفرين-إدلب- رأس العين/ سري كانيي- تل أبيض/ كري سبي وغيرها الأمثلة الصافعة!
لقد ظهر ونشأ، مثقفون، أجل: مثقفون، تحت ظل هذا العسكري، عديم القيم- ولا أعني الأبطال الحقيقيين الذين دافعوا عن أهلهم ورفضوا الخنوع ولقوا حتوفهم أو عانوا من الجوع دافعين ضريبة المواجهة، وذادوا عن أهلهم، في مواجهة أحد أعتى الأنظمة الدموية في العالم، نظام دمشق البعثي، العفلقي، صنو نظام بغداد الصدامي-وقد أفرخ كلا النظامين بعض المعارضات التي تماثلهما وقد تتفوق عليهما في قباحاتهما ووحشياتهما- هؤلاء المثقفون، منهم من اضطر للحصول على رزقه من هذا المصدر، أو ذاك، من دون مساومة، إلى أن وجد لذاته مخرجاً، ليقاطع تلك الآلة التي أرادت صناعة مثقف سوري ذيلي، مسوِّغ لخطط معادية لإنسانه ومكانه.
إلا أن مايلفت النظر، على نحو صاعق، هو ظهور أسماء طفيلية لا علاقة لها بالثقافة، ولم تجد في الكتابة إلا عبارة عن مصدر رزق، لمن لا صنعة له، ما خلا ما اكتسبه من هوامش المناهج الدراسية، التي سمعها عن مدرسيه، تلقينياً، وراح يستظل بالعسكري، وحواضنه، من الممولين، لتراهم إلى جانب بعض قدامى العاملين في الكار: معارضة وموالاة، يتزعمون مؤسسات الإعلام و النشر والدراسات، يقدمون ما يوائم وجهات نظر المضيف، والحاضن، والممول، ولديهم الاستعداد ليس فقط عبر عملية الإساءة إلى المشهد الثقافي، والاستعداء على المثقفين، بل والانخراط في- كتائب رصد الأسماء وتقديمها لهذه الجهة أوتلك- كما كان بعضهم يفعل ذلك في الوطن، ولقد حدث لي أن أباً- ذا مركز ديني معارضي- ضمني إلى غرفة دردشة في أواخرالعام2019، وعندما رافعت في مواجهة الدفاع عن الكرد، فقد انهالت التهديدات والشتائم، وكان ممن احتموا بالعسكر كاتب سوري لم أسمع به من قبل يقيم في بلغاريا، بالإضافة إلى من كانت تفوح رائحة- التدعيش- من شتائمهم لي!
ظاهرة استظلال المثقف بالعسكري جد خطيرة- كما ظاهرة استقواء السياسي بالعسكري” ولنا في الائتلاف اللاوطني- وذلك في على ضوء موقفه من احتلالات تركيا لمناطق في سوريا بل وفي ضوء بيع الثورة وإجهاضها- أقرب مثال” ولابد من هتكها، أي هذه الظاهرة. إنها استعادة لفكر الجنرال/ الملاك- الرفيق الرقيق القائد الفريق- الفريق الأول- الأب القائد إلخ، وقد انتشرت هذه الظاهرة، على نطاق واسع، ولعل السبب الرئيس يعود إلى أنهما- المثقف والعسكري- تابعان لممول واحد: ممول الإعلام والنشر والثقافة وممول التفخيخ والديناميت وال” تي إن تي” والقنص، وهو ما لايخفى على أحد، لدرجة أننا نجد إعلاماً واحداً بات مهيمناً على امتداد الخريطة، وظهر بهلوانات جدد/ قدامى يتحكمون بمفاصل هذا العالم، من دون أن يتمَّ التحرك لمواجهة هذا الواقع. الواقع الذي يعيد المثقف والإعلامي ليكونا نصيري، أوعضوي ثكنة عسكرية، بوعمشاتية، سواء أكانا أكاديميين في هذه الجامعة أوتلك، أو كانا باحثين، أو إعلاميين، أو حتى من المستقوين بأجهزة النظام، والمنقلبين عليه لاحقاً، عندما بدا الخلاص من آلة هذا النظام قاب سقوط حتمي أو أدنى.
شأن الجنرال، ومن معه ساحات مواجهات الأعداء، لا مواجهة المواطن، السنة التي بات يلتقي فيها: جنرال النظام، وجنرال المعارضة، بعد تغييب أنموذج- حسين هرموش- معنوياً أو جسدياً، عبر التجويع، والتهجير، وهيمنة أمي غبي كأبي عمشة على قائد عسكري خريج أكاديميات، بل على مدنيين بمختلف تصنيفاتهم!. إن الائتمار بأمر الجنرال لقاء منافع زائلة، وعدم إمكان العمل إلا تحت ظلال- البندقية- خارج المهمة السامية للعسكري الذي تتأسس وظيفته- أصلاً- للاستبسال، والتضحية لأجل المدني، لا على أساس التضحية به، ونهشه، وجعله حقل اختبار لروح همجية مشغول عليها من قبل العدو، أو المستبد، لاستباحة كرامته، ودمه، وترابه، وماله، بعيداً عن روح النماذج السامية في هذا المجال والذي بات يدعونا للنداء بفصل الحياة المدنية عن تسلط العسكر، كما شعار فصل الدين عن الدولة!
وإذا كنت أتحدث عن مساوىء أنموذج مجرم من الجنرالات وأذيالهم، فإن الأنموذج السامي، المتفاني، الذي أشرت إليه لهو موجود هو الآخر، ولا مستقبل إلا له، إلا أن عمل الثقافي. عمل الإعلامي، بل عمل السياسي، يجب أن يكون مفصولاً عن عالم العنف الذي لاأقومه-هنا- ولعل الثقافي صاحب الفكر هو أول من يطالب برفع صوته، ليكون للحياة المدنية حرمتها، وكرامتها، وأن يكون لكل عالمه، وأول ذلك: دور المثقف، انطلاقاً من أن المثقفين، كانوا ولايزالون في طليعة مجتمعاتهم.
*قد يتبع بالحلقة”2″
** المرئي هنا: محطة 1917 السايكسبيكوية