سعيد يوسف
دأب المسلمون، ومؤرخوهم على نعت الغزوات الإسلامية باستعمال مصطلح “الفتح”. وهو مصطلح سياسي ايديولوجي. ذو أبعاد نفسية ودلالات معنوية، يراد منه تجميل وتبرير عملية الاحتلال والغزو باعتبارها استجابة لأمر إلهي، مما يستوجب شرعنتها ومنحها صفة القداسة من جهة، ومحاولة قبلية للتغطية على كل ما يمكن أن ينسب إليها من أعمال القتل والسلب والنهب من جهة أخرى.
فيما التاريخ يقول غير ذلك فقد مورست شتى أساليب القهر والقتل والسلب والنهب، ومن توزيع للسبايا والغنائم ومصادرة الأراضي والأملاك…
يعود تاريخ القسطنطينية، الى العام /٣٣٥/ م. حيث اتخذها الامبراطور الروماني قسطنطين العظيم عاصمة له، وأضحت مقرا لبطريركية الكنيسة الأرثوذوكسية الشرقية التي أمر الإمبراطور ببنائها.
تعرضت الكاتدرائية للخراب مرات عديدة. أعيد بناؤها في عهد الإمبراطور الروماني جونستنيان الأول، وتسمت ب” آيا صوفيا” أي الحكمة المقدسة وهي كلمة إغريقية الأصل حيث أن كلمة “صوفيا” تعني الفلسفة /الحكمة. وكانت قبل ذلك تسمى “ميغالي أكليسيا” أي الكنيسة الكبيرة. ويقال أيضا أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى قديسة قبطية مصرية ذاع صيتها وطافت شهرتها الآفاق، ومن ثم نقل رفاتها الى الكنيسة المذكورة. إلا أني أرجح المعنى الأول.
تطورت القسطنطينية بشكل ملفت، حتى باتت رائدة العالم المسيحي حجما وثراء وثقافة وفنا. وقد كانت قبل ذلك قرية يونانية صغيرة يرتاح إليها الصيادون، وكانت تدعى “بيزنتيا”، أو بيزنطة كما جرى الاستعمال، وكان ذلك في العام/٦٥٨/ ق. م. ولاتتوفر معلومات عن تاريخ التسمية ومعناها.
في القرن الحادي عشر وعلى مدى ما يقارب القرنين من الزمن، تعرضت القسطنطينية لهجمات الحملات الصليبية اللاتينية، وكانت آخرها وربما أشدها ضراوة الحملة الصليبية الرابعة في العام /1204/ م. حيث تعرضت المدينة للحرق والسلب والنهب.
أن الصراع العنيف والطويل الأمد بين الإمبراطوريتين الرومانية الشرقية، والغربية المتمثلتين بالكنيستين الأرثوذوكسية/الشرقية، والكنيسة الكاثوليكية/الغربية.
استنزف قوة وطاقة الجانبين، مما جعلهما لقمة سائغة لأطماع المتربصين، وخاصة العثمانيين.
وبذلك يكون الجانبان المسيحيان قد ارتكبا خطأ تاريخيا، واستراتيجيا قاتلا، سيتغير معه وجه التاريخ شرقا وغربا، فقد قدم الصراع المميت أثمن هدية للعثمانيين، حيث باتت المدينة على أهبة أن يحتلها العدو ودون مقاومة, لا…والأكثر مرارة أن أبواب أوروبا نفسها باتت مشرعة ومفتوحة أمام غزوات الترك الهمجية المروعة.
فقد قام محمد الثاني الملقب ب”الفاتح”. بغزو القسطنطينية، وتمكن من احتلالها، في العام. /١٤٥٣/. م وأطلق على المدينة اسم “إسلام بول” وبذلك يكون قد أسدل الستار على حقبة زمنية ليعلن معها نهاية العصور الوسطى، وبداية عصر جديد.
بعد أن بقيت القسطنطينية عاصمة بيزنطية مسيحية ارثوذوكسية/ وكاثوليكية لحقبة زمنية تقارب الألف سنة. ومن ثم تتحول الى عاصمة بني عثمان وحتى الآن. وباتت آيا صوفيا مسجدا اسلاميا، وستبقى كذلك حتى مجيء مؤسس تركيا العلمانية الحديثة أتاتورك، وليعلن تحويلها إلى متحف وذلك في العام /١٩٣٥/.ومن ثم أدرجت ضمن لائحة التراث العالمي، في ثمانينيات القرن الفائت.
وبقيت كذلك إلى أن قام أردوغان بفتحها ولكن دون إراقة دماء، وليعلن إعادتها مسجدا، في /١٠/٧/٢٠٢٠/.وبذلك استحق أردوغان لقب الفاتح كسلفه. حيث يتشبه بالسلاطين، وقد يفسر هذا على أنه مؤشر ضعف في شخصيته فالضعيف يقلد القوي عادة، والمغلوب يحاكي الغالب، حسب القاعدة السوسيو سيكولوجية والتي لم يتحرر منها أردوغان، بالإضافة لصفة المركزية حول الذات المرافقة لمرحلة الطفولة المبكرة.
فما هي أهدافه من وراء ذلك… ؟
وهل اسطنبول بحاجة إلى مسجد.؟
من الثابت قطعا أن اسطنبول ليست بحاجة إلى مسجد جديد لإقامة الصلاة، ففيها أكثر من /٣٢٠٠/. مسجدا. ولو كانت المسألة دينية بحتة، لتم بناء مساجد أخرى وحسب الحاجة. مما يعني ويؤكد أن قرار إعادة آيا صوفيا مسجدا. تكمن خلفه دوافع أخرى متعددة لعل أبرزها سياسية اجتماعية، واقتصادية، وإعلامية، ورمزية ولا استبعد قطعا وجود نزعات فردية تتعلق بشخص أردوغان بالذات. وفي الحصيلة تلعب كل تلك الدوافع دورا تفاعليا وتآزريا.
أما على الصعيد السياسي الداخلي، فإن أردوغان يريد كسب تأييد الرأي العام التركي الإسلامي بمختلف إثنياته وطوائفه، وتوظيفه في خدمة نزواته، والانتخابات المقبلة كذلك ليضمن فوزه مرة أخرى.
أما على الصعيد السياسي الخارجي، فإنه يحاول الظهور بمظهر الزعيم، لا بل وخليفة العالم الاسلامي السني برمته، مثل أسلافه من السلاطين الاسلاميين، ومن ثم جعل استنبول قبلة ثانية للعالم الإسلامي، وجعل تركيا مركز ثقل القرار الإسلامي عالميا.
وليس بخاف على كل ذي عقل، ووجدان أن سلوكيات أردوغان، وممارساته بعيدة كل البعد عن الانسانية والاخلاق، فهو يغزو يمينا ويسارا، وجنوبا ينشر القتل والدمار سواء داخل تركيا، كتدميره للقرى والبلدات الكوردية ، أو خارج تركيا كاحتلاله للبلدات الكوردية في سوريا ونشر الخراب وممارسة اعمال السلب والنهب من قبل مرتزقته، وعمليات التغيير الديمغرافي المخالفة للقوانين الدولية، والأعراف الإنسانية أو تمدده في جنوب كوردستان وغربيها بحجة الأمن القومي التركي، وعلى مرأى ومسمع الجميع من الدول ذات الشأن، ودون أن تجابه بردود أفعال من قبلها .
أو تدخله في الشؤون الداخلية للدول الإقليمية، والتي تخفي وراءها أجندات ونوايا عدوانية توسعية سواء في ليبيا، أو في تغذيته للحركات الاسلامية المتطرفة في مصر وفلسطين وغيرهما.
أما على الصعيد الاجتماعي فبقناعتي أن العالم الإسلامي، وجماعاته الدينية على اختلاف تدرجاتها وتصنيفها تغريه سلوكيات أردوغان المتطرفة، وتنجذب لسحر أفعاله الهوجاء، فالراي العام المجتمعي للعالم الإسلامي تحركه العواطف وذكريات المشاعر عن أولئك الإسلاميين الأوائل وتواريخهم. من هنا تحركه الاندفاعات الغريزية التي سرعان ما تقوده فطريا، ودون ربط منطقي للأحداث، أو تحليل عقلاني نقدي لصيرورتها.
وبذلك يكتسب أردوغان قوة زعامة، وسند الحركات الإسلامية بما فيها المصنفة إرهابيا كداعش والنصرة، وليس خافيا على العالم دعمه لها، ماديا وعسكريا، كما في سوريا وليبيا ساعيا من وراء ذلك إلى خلط الأوراق وتحقيق أهدافه وأجنداته.
إن استمرارية، هذا النهج من قبل أردوغان وعدم مجابهته، ووضع الحد له ستمنحه قوة ضاغطة، لن تستطيع أوروبا الخانعة الآن، والمترددة، والمفككة من مواجهته مستقبلا، وإن فعلت ذلك سيكون عندئذ قد فات الأوان، وسترى المزيد من الأحداث الكارثية والمؤلمة، إلا إذا كانت هي من ترمي إلى ذلك وتسكت عليه وتغض الطرف عنه.
أما إعلاميا، فقد حرك أردوغان وجيش مشاعر وأحاسيس الملايين من الجماهير الغفيرة في العالم الإسلامي والإسلاموي، فقد امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارات الهوس، والترحيب والتأييد لقرار أردوغان.
أما على المستوى التجاري، وأقولها التجاري لا الاقتصادي، فإني أتوقع أن هناك الكثير من الجهات، إن على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول وخاصة الخليجية سوف تقدم المزيد من الأموال والتبرعات لأردوغان دعما لقراره وسلوكه.
أما على الصعيد الشخصي، فإن أردوغان ربما بفعلته هذه قد رد على قرار ترامب في تهويد القدس. كما أنه مهووس بالسلطة، والشهرة والتشبه بالسلاطين الأسلاف ولديه رغبة جامحة تدفعه نحو اقامة امبراطورية تركية توسعية عابرة للحدود وهذا ما يظهر من تسلله الى ليبيا طمعا في المخزون الهائل من البترول الذي إذا فاز به، فسينقل بتركيا إلى مصاف الدول العظمى، و بذلك يكون قد حقق حلمه كلاعب دولي رفيع المستوى.
أما كورديا، فالسؤال المركزي هو بما يفيدنا قرار أردوغان، سواء بقيت آيا صوفيا متحفا أو تحولت مسجدا. آيا صوفيا ليست ملكا لنا. بل لها أهلها وأصحابها الأولى بالدفاع عنها. وأن كنت أنا شخصيا أفضل لو بقيت متحفا.
باختصار شديد ودون سرديات طويلة وترهات فارغة لا شيء…. فأولئك الكورد السذج الذين يهتفون لاردوغان ويصفقون له. أسألهم ما فائدة قرار أردوغان لقضيتهم الكوردية، إنهم ليسوا إلا أغبياء التاريخ المخدوعين كما انخدع الكثيرون من أسلافهم.
لقد حفل التاريخ بالكثير من أعمال تحويل المعابد والكنائس الى مساجد، أو العكس فالغالب يفرض عادة ثقافته على المغلوب. فهل نشهد مواجهات لا تناحرية بين العالمين الإسلامي والغربي والذي يعمل أردوغان على تأجيجه وتسعيره وفرزه بقصد أو بدونه، أم أن الأمور سوف تسير بهدوء وسلام وبعد تفريغ وتنفيس للشحنات، ومساومات اقتصادية وسياسية. لقد فتح السلطان العثماني القسطنطينية، مستفيدا من الصراع المسيحي/ المسيحي، ومن ثم تسلل إلى العمق الأوروبي. فهل يتسلل أردوغان وأتباعه إلى الداخل الأوروبي ويهددهم في عقرديارهم.؟ والسبب هو الخنوع، والتخاذل، والرضوخ الأوروبي حياله، وعدم القدرة على اتخاذ مواقف حازمة تجاه عضو الناتو المدلل… ! أعتقد جازما أن أردوغان قد وجه نيران مدافعه إلى أوروبا منذ أمد، ودون تردد من خلال دعمه للهيئات الدينية، والحركات الإسلامية، وبناء المساجد في الداخل الأوروبي، وتوظيفها سياسيا، فكل شخص متطرف يشكل قنبلة موقوتة، مما يعني تهديدا جديا، ومكشوفا لمستقبل أوروبا المغزوة اسلامويا.
هذا ما سنراه في القادم من الزمن .
تموز/١٨/٧/٢٠٢٠.