إبراهيم اليوسف
أعرف، مسبقاً، أن عنوان هذا المقال- لا لدولة المواطنة صادم- لا سيما إن مايكتب عن مفهوم دولة المواطنة، وبخاصة بعد حرب العشر سنوات التي ” تكاد تكتمل” و تمر على السوريين إنما قد أرهقت جميعنا، وباتت تدفع للتفكير بإيجاد حلول متفق عليها، لطالما قاد النظام السوري دفة البلد إليها. النظام الذي هو وراء قتل وتهجير السوريين ودمار مكانهم، وهكذا بالنسبة إلى واجهات المعارضة – أصحاب القرار- الذين عسكروا الثورة، بأكثر من مهمة الدفاع عن الأهل التي كانت تروج لها، وتم تمرير التسليح والعسكرة من خلالها، ما فتح بوابة رزق لصوصية، و أسس لفساد شخصيات وفصائل باسم واجهات الثورة، أو العسكر، وانقلبت الآية في المكان لنغدو إزاء تجار حرب. تجار دم. تجار دين. تجار تراب. تجار سماء. أثرياء حرب وغير ذلك من المصطلحات التي يمكن سوقها في مثل هذا المقام!
ما أتناوله – هنا- له خصوصيته، إذ إنني لا أتناول ما يخص السوريين عامة، وإنما ما يخص الكرد في سوريا، حيث إن المفاهيم التي يطرحها دعاة “من الدعوة ” إلى – دولة المواطنة- ولا أقول “مدعي” تعد جد إيجابية، في ما لو إنها طبقت منذ تأسيس سوريا، وعلى امتداد القرن الماضي، مع بعض الإضافات والتطوير لهذه المفاهيم، ومنها الاعتراف الدستوري بخصوصية الكردي – كما سواه- وأنه ابن مكانه، وأن مكانه كردستان، ومنحه حقوقه المشروعة، لاسيما بعد التأكد من أنه لم تكن في التاريخ ثمة – سوريا- بالمفهوم السايكسبيكوي، وفي هذا مايؤكد أن الخريطة التي صنعها الغرب الذي تقاسم المستعمرات، ومن ثم قسمها، لأجل نفوذه إنما انطلق من ثقافة غريبة عن مصلحة أبناء المكان. مكونات المكان: العربي- الكردي- السرياني …إلخ، وإذا كان راسم الخريطة لم يراع تكوينات المكان، فإن بضعة عقود. فإن ما يكاد يقارب قرناً من الزمان كان كافياً لاستدراك ما في الأمر من خلل وتلفيق، وإنصاف المكونات من أجل وطن لجميعهم، لا محاولة إذابة وصهر المكونات جميعها في بوتقة واحدة وغريبة، وقمع من يخرج عن خطاب الأنظمة العنصرية المتعاقبة.
وإذا كان الكردي قد ابتهج بالثورة، وتوهم بأنه سيتمُّ طي صفحة الماضي، وفتح صفحة جديدة في ما يتعلق بخصوصيته القومية والاعتراف بحقوقه ضمن خريطة البلاد، لاسيما وإن شبابه قد شارك في الحراك الثوري، بل إنه ما من مؤتمر أو ملتقى سوري معارض، إلا وكان عدد من الكرد ضمنهما، ولن أخوض كثيراً في التفاصيل، إلا إنه لطالما ظهرت أصوات عنصرية لا تنظر إلى الكردي إلا وهو مواطن عربي سوري، والتعهد برفع قيد عدم الاعتراف به، وعدم النظر إلى حقوقه وغير ذلك، مع الاعتراف بوجوده من قبل- على مضض- بإعادة صفة الجمهورية السورية إلى البلاد، بعد أن تم اغتصابها وتبديلها بتسمية جديدة” الجمهورية العربية السورية” التسمية التي كانت انقلاباً على التأسيس، وخيانة أولى للوطن، والمواطنة، و لم تكن يوماً ما، من ضمن شروط التأسيس الذي كان يجب تطويره لا الاستيلاء عليه!
بعيداً عن نتائج الحرب على السوريين، وموازين الربح والخسارة، والقوة والضعف، واستقواء طرف واستضعاف آخر، فإن الطابع الذي هيمن على سياسة وسلوكيات وجهاء، أو واجهات الثورة، المهيمنة، دعا إلى انكسار أحلام الكردي ووصوله إلى قناعة وحقيقة مفادهما أن هذه الواجهات- أي التابعة منها للدول الإقليمية – لاسيما بعد احتلال عفرين- سري كانيي/ رأس العين- تل أبيض/ كري سبي إلخ، والتلويح باحتلال: قامشلي وبقية المناطق، لولا كبح المحتل الذي تنمر بموجب تنازلات مفضوحة للقوى الكبرى، لاسيما: أمريكا- روسيا، باتت معروفة للعالم كله. أن هذه الواجهات لا تختلف البتة عن النظام، بل إن من بينها من بدا يبزُّ النظام في حالات موصوفة من ممارسة -الإرهاب- والتلويح بإبادة الكرد!
طويلاً، توقف كثيرون من كردنا، لاسيما بعيد انتصارثورة أكتوبر1917، عند المفاهيم الجديدة التي طرحت وأخذت بألبابهم، ومنهم أمثالي، بأنه يمكن للكردي أن يحصل على حقه القومي بعد نجاح الاشتراكية، ولن أخوض هنا في التفريق بين النظرية والتطبيق حتى في مهاد الثورة، والظلم الذي لحق الكردي حتى في الاتحاد السوفيتي السابق، إلا إن أكثر هؤلاء تأكد، بل إن التاريخ أكد أن الخطوة الأولى توثيق الحق القومي الوطني قبل أي تعويل على أية أيديولجيا أو نظرية طارئة لا تصون خصوصية الكردي أو سواه!
وإذا كنت كشخص، أرى العربي – وكل مكونات سوريا هم الأقرب إلي- وأرى في: التركي- الفارسي، الأقرب إلي، إن لم يمارسوا – جميعاً- الضغينة تجاه الكردي، ناجين من شباك، وبراثن ثقافة الكراهية، بل إن دمشق بالنسبة إلي- كشخص أيضاً- وأعني هنا دمشق التآخي. دمشق التسامح. دمشق العراقة. دمشق النبل. دمشق الثقافة. دمشق الذاكرة. دمشق الروح السورية الأصيلة. لادمشق العنصريين، هي أول عنوان بالنسبة إلي، بعد كردستاني الكبرى التي أحلم بها، بالرغم من أن الأنظمة العنصرية، وعلى امتداد بضعة عقود صورت الكردي وعدته محورالخطر، ومارست بحقه شتى أشكال الاضطهاد، والظلم والاستبداد المضاعف!
لست – الآن- بصدد قراءة أي مشروع – مواطنوي- بغرض نقضه، ونقده، لأنني أرى الواقع أفقد الثقة بأي مشروع كهذا، مهما حمل بذرة نواياه الطيبة، بل النبيلة، مع اعترافي أنه يمكن البناء عليه، لاسيما إنه اشتغل عليه بعضهم منذ مرحلة ربيع دمشق، وهناك من أزاد على نواة مشروعه هذا باقتراح دستور بديل – قبل الثورة- وكان للكردي فيه حضوره ولو الرمزي، وهنا لا بد من أن أشير إلى رؤيتين إلى مثل هذا المشروع: رؤية القومجي الذي يقدم هذه الرؤية لسد الذرائع مقابل رؤية من يبحث بنبل عن وسيلة لإيجاد حل للسوريين، عامة، ليعيشوا في أمان، بعد كل ماتعرضوا له، خلال العشرية الأخيرة!
لاأرى، وعلى ضوء قراءاتي، للمشهد السوري عامة، ومن ضمنه الواقع الكردي، وبعد فقدان الثقة، وتفاقم ثقافة الكراهية، ورسم صورة الكردي على أنه عدو أول، وتناسي تضحياته، وقرابين الدم التي قدمها، منذ بناء سوريا وإلى هذه اللحظة، وهو ما يطبق على الطرفين: النظام والمعارضة الرسمية ما خلا استثناءات تكاد تكون غيرفاعلة. غيرمرئية. غيرمعترف بها، لاسيما بعد تغذية جهات إقليمية للعداء للكردي لدى الجهتين المتصارعتين، فإنه يمكن اعتبار – مشروع دولة المواطنة الذي طرح بإيقاع أعلى منذ ربيع دمشق وإلى الآن لدى بعض النخب، غير قادر على الارتقاء إلى مستوى أسئلة الراهن، ومن دون أي تطبيق لألفباء هذا المشروع، وإن بصيغه الواهنة، لا من قبل النظام، ولا من قبل معارضته وأخصُّ تلك التي سوغت للمحتل جرائمه، واحتلال مكان هذا الكردي، وإبادته، وممارسة الجينوسايد التطهير العرقي بحقه: عفرين – سري كانيي/ رأس العين- تل أبيض- كري سبي كنماذج، مع الانتباه إلى أمر آخر، وهو أن هناك من طرحه للالتفاف على الكردي، ولا أعني هنا إلا من لطالما يصر على صفة العربية في تسمية البلاد: الجمهورية العربية السورية التي هي- في حقيقتها- احتلال لإرادة السوري، وتدليس على التاريخ والحاضر والمستقبل، وجزء من المعضلات الكبرى للمواطن والوطن. بل أسّ معضلات قضية الكردي فوق ترابه وموقف الآخر/ الشريك منه!
وبالعودة إلى العنوان الذي أدرجت المقال تحته، فإنني جعلت منه داعياً لإعادة تعميق دولة المواطنة، وتجاوزها، لئلا تكون قفزاً على الحق القومي المشروع لشعب يعيش في مكانه، لاسيما إزاء دعوات بعضهم إلى أن يكون ذلك لإعادة البلاد إلى أسئلة الأزمة التي سببها العقل العنصري المقيت، إذ ليس أبسط من مقولة بعضهم التي طالما دسوها كعسل في سم مخطط كبير: كلنا عرب- وأنا أجل الآخرأياً كان والعربي وقوميته الأقربان إلي في المقام الأول- وكأنهم يمنحون الآخر هبة عظمى، وهم يسعون إلى سلخه من جذوره!
*فصل من مخطوط غير مطبوع!