د. ولات ح محمد
بدا المشهد وكأن كلاً من أنقرة وطهران اكتشفت فجأة أن لها معارضة تعمل داخل أراضي إقليم كوردستان فاتخذتا معاً قراراً مشتركاً بأن تقوم كل منهما بالهجوم على معارضتها هناك، إحداهما تقصف بالمدفعية من الشرق والأخرى بالطائرات مع اجتياح بري من الغرب، وكأن قيامة الدولتين قد قامت بين ليلة وضحاها، على الرغم من أن تلك الفصائل المعارضة لم تقم في الفترة الأخيرة بنشاطات استثنائية تستدعي كل ذلك الهجوم الغاضب والعنيف. إذاً، ما دوافع هذا الهجوم المزدوج المفاجئ؟ وما الرسائل التي يحملها؟ ولمن؟ والأهم ما علاقة ذلك بما يجري منذ أسابيع من حوار بين أطراف كوردية سورية؟
مشاورات العاصمتين التي سبقت شن الهجوم تذكّر بتحركاتهما عشية الاستفتاء الذي أجراه الإقليم (الذي ستحل ذكراه الثالثة بعد شهرين من الآن) بغية إجباره في البداية على إلغاء قرار الاستفتاء ثم على إلغاء نتائجه لاحقاً. وقد صار من الواضح أنه بغياب الطرف السوري بسبب ظروفه الخاصة وبارتهان القرار العراقي لطهران خلال السنوات الماضية بات التشاور والتنسيق في هكذا حالات لاتخاذ قرار أو إجراء بحق مسألة كوردية مقصوراً على العاصمتين المصابتين بالكثير من الغرور والعنجهية وكوابيس إمبراطوريتين زائلتين.
يبدو أن أنقرة وطهران قررتا أخيراً كسر حاجز الصمت والتحرك عملياً لإرباك المساعي الجارية لتوحيد الصف الكوردي السوري وإفشال الحوار الجاري منذ أسابيع. ويبدو أن هذا هو الدافع الأساسي لهذا الهجوم الثنائي المنسق، إذ شعر الطرفان أن قواعد اللعبة بدأت تتغير وأن بعض خيوطها بدأت تفلت من بين أصابعهما؛ فالمجلس الوطني الكوردي (وهو أحد طرفي الحوار) عضو في الائتلاف السوري المعارض الذي يحيا برعاية تامة من أنقرة. ولهذا كانت السياسة التركية تعتبر المجلس الوطني “مضموناً”، أي أنه لن يخرج عن أجندة الائتلاف، أي عن الرغبة التركية.
ما ساعد على تكوين هذا الاعتقاد التركي/ الائتلافي تلك المواقف الرخوة من قبل المجلس إزاء مجموعة من الوقائع والتجاوزات والاعتداءات التي نفذها الطرفان بحق الكورد ومناطقه، إذ اكتفى بإصدار بيانات خجولة جعلت أنقرة تظن أن هذا أقصى ما يمكن أن يذهب إليه المجلس على أية حال. السبب الآخر هو الخلافات التي تعمقت بين المجلس والاتحاد الديمقراطي، ما جعل أنقرة تطمئن بأن الطرفين لن يلتقيا أبداً.
في الجانب الآخر كانت طهران (وكذلك أنقرة) تشعر بدرجة كبيرة من الاطمئنان إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي لن يخطو أية خطوة باتجاه توحيد الصف الكوردي وإنشاء إدارة جامعة مشتركة. أسباب ذلك الاطمئنان كثيرة منها أن الحزب بالنسبة لطهران ليس معارضاً للنظام، بل كان بينهما في كثير من المراحل تعاون وتنسيق وحوار. السبب الثاني هو أن الحزب خلال السنوات الماضية عمل وحيداً من دون أي تعاون أو شراكة مع الأطراف الكوردية الرئيسة. وهذا كان محل ارتياح واطمئنان ورضى لدى كل من طهران وأنقرة. أما السبب الثالث فهو أن طهران تعتقد (بسبب ما يقال من تعاون بينها وبين حزب العمال الكوردستاني) أنها قادرة في أية لحظة على الضغط على حزب العمال كي يضغط بدوره على حزب الاتحاد لمنع أي تقارب أو حوار أو شراكة مع أي طرف كوردي لتشكيل موقف كوردي موحد.
الحوار الذي انطلق قبل أسابيع بين الطرفين الكورديين كان صدمة لهذين التصورين التركي والإيراني، إذ كسر كل آفاق التوقع لدى العاصمتين بخصوص “ضمان” الطرفين الكورديين اللذين دخلا في حوار مباشر وحقيقي بتشجع من واشنطن وعواصم أوربية، على الرغم من تحذير جاويش أوغلو للمجلس في هذا الصدد كما صرح قبل يومين. وهذا في عرف العاصمتين نوع من التمرد ويعني أيضاً أن الطرفين الكورديين في طريقهما للخروج من واقعهما الذي استمر لسنوات وخلْق واقع جديد من التعاون وتوحيد الموقف والرؤية، بغض النظر عن المسببات والدوافع.
هذا التحرك الكوردي الجديد بتشجيع من دول كبرى أزعج بطبيعة الحال أنقرة وطهران على حد سواء، لأنه أولاً يجعل للطرف الكوردي صوتاً موحداً وكلمة مسموعة ووزناً على الطاولة، وثانياً لأنه سيقطع أية حجة جديدة لأنقرة لاحتلال مدن سورية أخرى بذريعة محاربة الإرهاب، وثالثاً لأنه سيقطع أي أمل لطهران في ممارسة التأثير على حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه الحالة. ولهذا من الطبيعي أن تفكر العاصمتان فوراً في كيفية إفشال هذا الحوار.
الأطراف المشجعة للحوار هي واشنطن وعواصم أوربية وأربيل. أنقرة وطهران لا تستطيعان منع الدول الكبرى من دعم هذا الحوار، وبالتالي ستذهبان باتجاه ممارسة الضغط على الأضعف من بين تلك الأطراف الداعمة. ولهذا اتخذت العاصمتان قراراً بشن هجوم جوي وبري مشترك و”جاد” على أراضي الإقليم بغية إرسال رسائل وتحقيق أهداف على مستويات عدة، أهمها إيقاف الحوار الكوردي، وذلك وفق التصور التالي:
تركيا ستضرب حزب العمال الكوردستاني وإيران ستضرب توأمه بيجاك (وأحزاباً أخرى) على أرض إقليم كوردستان. وبذلك سترسلان رسالتين: الأولى تركية وإيرانية لحكومة الإقليم مفادها أنها إذا لم تسحب دعمها للحوار القائم بين الكورد السوريين فإنها ستدفع الضريبة من استقرارها وأمن سكان الإقليم. أما الرسالة الثانية فهي إيرانية موجهة لحزب العمال مفادها أنه إذا لم يضغط باتجاه إفشال الحوار فإنه (حزب العمال) سيبقى مستهدفاً هو وفرعه الإيراني بيجاك.
إضافة إلى الرسالتين يحقق الهجوم ما يلي: أولاً ضرب استقرار الإقليم وإحداث بلبلة داخلية لإحراج الحكومة أمام السكان. وهذا في رأي أصحاب الهجوم سيضع الحكومة والحزب الديمقراطي الكوردستاني تحديداً تحت الضغط وأمام خيارين: إما إيقاف الحوار وإما تحمل استمرار الهجوم وتبعاته. ثانياً (وهذا هو الأهم في هذا السياق) خلق فتنة بين الأطراف الكوردية ووضعها في حالة من الاتهام المتبادل والتراشق الإعلامي من جديد؛ فأصحاب الخطة يتوقعون أن هذا الهجوم سيدفع بعض أنصار حزب العمال إلى شن هجوم إعلامي على حكومة الإقليم والحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي بدوره سيقوم بتحميل حزب العمال مسؤولية الهجوم التركي وقتل المدنيين وزعزعة الاستقرار وتهجير السكان. وهذا بدوره سيجر آلياً طرفي الحوار (حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني) إلى هذه المشاحنات والاتهامات المتبادلة الكفيلة وحدها بإفشال الحوار وبأيدي كوردية، مادام الضغط والحصار والتهديد العسكري لم ينجح في ذلك.
تلك هي الخطة وذلك هو الهدف من العملية العسكرية المزدوجة من وجهة نظر هذه القراءة: قصف الحوار الكوردي الكوردي السوري داخل أراضي إقليم كوردستان؛ فقرار الدولتين بشن الهجوم المشترك والمتزامن يهدف إلى خلق هذه الأجواء من الإرتباك والشك وتبادل الاتهامات بين الأطراف الكوردية من جهة، ووضع حكومة الإقليم والحزب الديمقراطي وكذلك حزب العمال تحت الضغط بغية إيقاف الحوار من جهة ثانية. ومن المؤسف أن قسماً من الكورد قد ينجر (بحسن نية) إلى الوقوع في الفخ التركي الإيراني، وأن قسماً آخر قد يساعد (بسوء نية) الخطة على إفشال الحوار. وإذا تم ذلك فإن كلاً من طرفي الحوار سيعود إلى موقعه الأول وسيبقى الوضع على ما هو عليه.. وهو المطلوب تركياً وإيرانياً وبصفة عاجلة.