د. محمود عباس
لا خلاف بين المؤرخين على أن اللغة الفهلوية الساسانية، أي لغة أردشير بن بابك بن ساسان الكردي، الذي نصب نفسه شاهنشاه على إيران بعد القضاء على أخر ملوك الإمبراطورية الاشكانية، وبدأ ببناء الإمبراطورية الساسانية، أصبحت اللغة السائدة في السلطة والإدارة، ولمراكز العبادات الدينية، كالمانوية والذي ولد نبيهم (ماني ابن فتك 216-276م) في مناطق الريف، شمال بابل، والبعض يذكر أنه ولد في مناطق ماردين، والمزدكية ونبيهم ( مزدك موبذان 487-528م) ولد في منطقة نيسابور والبعض يذكر أنه ولد في منطقة خربوت، وفيما بعد للمعابد الزرادشتية التي أصبحت ديانة الإمبراطورية، وأصولها ومنشأ نبيهم المولود في أورميه الواقعة في شرق كوردستان تعود إلى قرون عديدة قبل الميلاد، وفي هذه الديانة وتاريخها دراسات عميقة وواسعة.
مع ذلك لا يزال العديد من الباحثين والمؤرخين المعاصرين يستخدمون الخلط التاريخي بين اللغات الإيرانية المتعددة، والسلطات والحضارات التي ساهمت فيها شعوب أو كانوا روادها كما ذكرنا في الحلقة الأولى، واللغة الفارسية التي يتكلمها مكون من الشعوب الإيرانية، والذي كان، ولا شك، عند المؤرخين العنصر الرئيس في الحضارة الأخمينية، لكن وبعد انهيار الإمبراطورية المذكورة على يد الإسكندر المقدوني، لم تقم لهم قائمة كسلطة أو إدارات ضمن الحضارات اللاحقة إلا بعد ظهور الإسلام بقرون ثلاث، وتراجعت مع الزمن مكانة اللغة الفارسية، أي اللغة الفهلوية القديمة بين الشعوب الإيرانية.
فإضفاء الصفة الفارسية على كل الشعوب والحضارات والممالك الإيرانية تنم إما عن جهالة الباحث والمؤرخ أو تحريفه للتاريخ، لانتمائه للعنصر الفارسي أو تأثره بهم، وهنا لا نعني أن نسقط من جمالية اللغة الفارسية ومكانة أدبها، من الشعر والنثر والفن. لكن هذه الإشكالية سقط فيها العديد من المؤرخين والباحثين، وفي مقدمتهم المؤرخون المسلمون، الأوائل الذي عاصروا المملكة السامانية، وأتبعهم اللاحقون فيما بعد إلى أن أصبحت صورة نمطية مترسخة في ذهنهم، بخطئها، وعليه ففي معظم بحوثهم ودراساتهم، لم يجدوا معضلة في استخدام كلمة الفرس أو الفارسية على كل ما يخص الشعوب الإيرانية، فأطلقوا ولا زالوا يلصقون الفارسية مع الإمبراطورية السلوقية، علماُ أن قادتها من الأسر اليونانية الذين قضوا على الحضارة الأخمينية، ولم يسمحوا للعنصر الفارسي بالظهور من بعدها، وحكموا جميع الشعوب الإيرانية، والفرس ضمنهم كمكون مهمش ضمن الإمبراطورية. ومثلها الإمبراطورية الاشكانية القادمون من شمال شرق إيران، ولغتهم الفهلوية الشرقية، ولم يكن لهم علاقة عرقية أو لغة مع الفرس. والتحريف أو الخلط الأوسع يتم بينهم وبين الساسانيين، هؤلاء الذين يؤكد عليه العديد من المؤرخين على أنهم أجداد الشعب الكوردي الحالي، بل والرسالة التي يوردها الطبري والمرسلة من أخر ملوك الاشكانيين لأردشير بن بابك أبن ساسان الكوردي، وفيها يعيره على أصله الكوردي أكثر من واضحة، وبالتالي أصبحت القبائل الكوردية المنتمية إليها أل ساسان العنصر المسيطر على الإمبراطورية بكل مفاصلها السياسية والثقافية، ولغتهم فرع من الهندو أوروبية التي تنتمي إليها اللغة الفارسية، والخلط بين الفارسية واللغة الساسانية خطأ تاريخي لا بد من تصحيحه.
علما أن بعض المؤرخين المسلمين الأوائل في بحوثهم انتبهوا إلى هذه الجدلية الخاطئة، وبينهم الطبري وأبن الأثير، كما وتجاوز هذا الخطأ التاريخي معظم المؤرخون الأوربيون عن معرفة وإدراك، فمعظم كتبهم المترجمة حرفت أثناء الترجمة ولم يتقيد بحرفيتها المترجمون، لوجود الصورة النمطية المسبقة عن هذا الدمج ما بين الإيرانيين والفرس، وبين العجم والفرس، فالفرس عندهم يحمل كل هذه الصفات، ولا بد من التنويه إليها وإلا فتاريخ الشعوب الإيرانية ستظل محرفة مثلما تم تحريف تاريخ السلطات الإسلامية العربية وعلى مدى قرون عديدة، إلى أن أصبحت، جميع الشعوب التي تعيش على الجغرافية المسمى جدلا بالوطن العربي، تعرف بالشعب العربي، وكثيرا ما يدحضون حتى مفهوم الشعوب العربية، وبها يتم إلغاء كل الأمم الأخرى الخاضعة لسلطاتهم بعدما كانوا أصحاب الأرض قبل الغزوات العربية الإسلامية، وذلك تحت نظرية مطعونة فيها، قيلت في بدايات الإسلام، كل من يتكلم العربية فهو عربي، ومثلها درج فارسيا كل الشعوب الإيرانية، وكذلك الذين كانوا تحت حكم الإمبراطورية العثمانية عد عثمانيا واليوم جميع من تحت سيطرة السلطة التركية تركي.
وهذه من المعضلات التي تواجه المؤرخين والباحثين الذين يحاولون تصحيح هذا التحريف الممتد على مدى قرون عديدة، وخاصة عند الاعتماد على المراجع المترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية والفارسية والتركية، فعلى سبيل المثال كتاب (إيران في عهد الساسانيين) يميز الكاتب أرثر كريستنسن بدقة عندما يتحدث عن الشعوب الإيرانية أو الفرس أو الساسانيين، وكذلك كتاب المؤرخ العالمي ويل ديورانت في كتابه (قصة الحضارة) دقيق في مصطلحاته، وكذلك المؤرخون الروس أمثال فاسيلي بارتولد، وميخائيل بتروفسكي، وباسيل نيكتين ومينورسكي. والألمان زيفريد هونكه وثيودور نولدكه، والفرنسي هنري لاوست، والهولندي هنري ألبرت شولتز، وغيرهم.
حرفت السلطات الفارسية السامانية تاريخ الشعوب الإيرانية إلى أن أصبحت على ما هي عليه، ومثلها شوهت نصوص الأديان المذكورة وأدب الحضارة الساسانية على قدر ما تمكنت منه، عندما فرضوا على الفردوسي كتابة (شاهنامه) الملحمة التي أحيت فيها تاريخ الأخمينيين، وروجت للمكون الفارس وللغتهم، علما أنها واللغة الكوردية من نفس العائلة، أصولهما كما هي معروفة هندو أوروبية، ولم يختلف عليها أي مؤرخ أو باحث، ولمعرفة هندستهما أنظر كتاب المهندس محمد توفيق علي (اللغة الكوردية، انحدارها وتشعّب لهجاتها ومشروع لتوحيدها) بمجموع صفحاته ألـ 26، إلا أن المملكة السامانية والغزنوية والفارسية منذ الصفوية وحتى اليوم، لم تراعي هذا التقارب الثقافي واللغوي، بل امتصت تاريخ الشعوب الإيرانية ولغاتهم وفي مقدمتهم تاريخ ولغة الشعب الكوردي إلى درجة لم يتمكن أي كاتب أو سلطة في التاريخ تقديم مثل ما قدمته هذه الممالك والسلطات وخاصة السامانية والغزنوية لشعبها، باستثناء السلطات العربية الإسلامية.
سرقوا أساطير شعوب المنطقة ومن بينهم فنون وحوليات وقصص الشعب الكوردي، كما وحرفوا تاريخ الشعوب الإيرانية لخدمة الشعب الفارسي، إلى درجة نسبوا كتاب (زندي آڤيستا) لتاريخهم الروحي والثقافي، وهو شرح لأفيستا، فهي وجميع ملحقاتها المنسوخة على 12000 قطعة من جلود البقر، والبالغ 21 جزءاً، مكتوبة باللغة الفهلوية الساسانية وليست الفهلوية الأخمينية، وكانت تقرأ باللغة الفهلوية الساسانية حتى القرن التاسع الميلادي قبل أن تضيع أغلبيتها، أما عن أفيستا، كتاب زرادشت، فمعظم المؤرخين، بينهم الباحث ( أنكتيل ديوبيرون 1735-1805م) أول من حصل على النسخة الأصلية لأڤيستا من أحد الكهنة الزرادشتيين في الهند، يؤكدون أنها كانت مكتوبة بلغة قريبة من السنسكريتية، وهذه أصل لعدة لغات من ضمنهم الكوردية والفارسية، ويقول الدكتور خليل عبد الرحمن في حاشية مقدمة كتابه (أفيستا الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية) والمترجمة من قبل كل من السادة: د. عبد الرحمن نعمان، خالدة حسن، سليمان عثمان، عبد الرحيم مقداد، الصفحة 7 ” أفيستا: تعني ” الأساس، الأصل، الحمى، الملاذ” كونها مشتقة من كلمة Upasta بمعنى الأساس، وأفيستا تعني “بداية الحياة” في اللغة الكوردية الهورامانية، وفي الكوردية الكرمانجية تحمل دلالة ” الحمل Avis….” “.
ومعظم تأويلات المؤرخين أمثال إدوارد براون في كتابه (تاريخ الأدب في إيران) وحسن بيرنياس في كتابه (إيران باستاندا) الذي يحلل الربط بين لغة أفيستا والكردية الحالية، والشيخ محمد آية الله، الذي يقول أن أفيستا مكتوبة بلغة الماديين المطابقة للغة الموكريانيين، وآرثر كريستنسن (إيران في عهد الساسانيين) وغيرهم كثر تتناقض ما آل إليه خانلري في كتابه (تاريخ اللغة الفارسية) وأيده فيها الدكتور ذبيح الله صفا في كتابه (تاريخ الأدب الفارسي) على إن اللغة الساسانية هي أصل الثاني للغة الفارسية، ويسميها بالفارسية الدرية (الحديثة) المجمعة من معظم اللغات السابقة بعدما أصابها الضمور على مدى القرون الطويلة من هيمنة اللغة اليونانية والفهلوية الجنوبية والشرقية واللغات الأخرى للإمبراطوريات المتتالية على المنطقة مع غياب العنصر البارسي منها. علما أنه يناقض نفسه فيما بعد عندما يقول، أن اللغة الفارسية الحديثة هي “صورة متطورة من إحدى اللهجات الفارسية الموازية للغة الفهلوية التي بقيت منتشرة في أنحاء ايران الشرقية والشمالية ولاسيما المناطق التي اعتنقت الإسلام طوعاً دون حرب والتي بقي حكامها من أهلها الإيرانيين فلم تتأثر باللغة العربية كسائر المناطق حتى القرن الثاني الهجري” فما بين الموازاة والأصل مسافات، كما وأن التناقض واضح في البعد الأخر، وهو أن الفرس لم يسكنوا يوما إيران الشرقية الشمالية، ولئلا يزج نفسه في الخطأ لا يذكر أسم الفرس هنا، بل يبدلها بسكان إيران، لئلا يأتي على ذكر الكورد، كشعب من شعوب المناطق الشمالية لإيران…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/5/2020م