الشرق الأوسط بين فقدان المشروع الوطني و ضبابية المشاريع الأجنبية

صالح جعفر
بعد ان تم تأسيس الدول الشرق الاوسطية الجديدة بدعم و تأييد و اعتراف الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى و خاصة بريطانيا و فرنسا و انتدابهما استفادت شعوب هذه الدول من الجوانب الإيجابية لسياسات الانتداب المباشرة و الغير المباشرة حيث سارت هذه الدول باتجاه البناء و الاستقرار النسبي بعد ان شهدت شعوبها الحروب و الويلات و الإبادات الجماعية على أيدي سلطنة الخلافة الاسلامية من الظلم و التخلف و الفقر بحق الغالبية الساحقة من مواطنيها.
صحيح ان الدول المستعمرة او المنتدبة لم تكن مثالية في قيادة هذه الدول و لم تخلوا سياساتها هي ايضا من الكثير من السلبيات و لكنها ساعدت على تكوين البنى التحتية لهذه الدول و وضعت الدساتير لها و ساعدتها على انتخابات برلماناتها و تدريب الكوادر لتشكيل جيوشها و حكوماتها ألخ ..
رغم عدم استقرار الوضع الدولي و قدوم الحرب العالمية الثانية الا ان هذه الدول تقدمت بخطى جيدة نحو الامام و حققت الكثير من الإنجازات و حصلت العديد منها على الاستقلال الوطني و عاشت شعوبها فترة استقرار نسبية لا باس بها نتيجة إشراف و ضبط الأمور من قبل الدولة المنتدبة .
بعد ان خرجت الدول المنتدبة و عادت الى وطنها الام لبناء ما تهدم من الحرب و الانشغال بقضاياها الوطنية و ترك ادارة هذه الدول لأبنائها من الحكومات المحلية التي استولت على مؤسسات الدولة عبر استغلال الجيش و الأجهزة الأمنية و تسخيرها لمصالحهم الشخصية و التغلغل فيها و تحويلها الى شركات حزبية للنهب و السلب و من ثم كحقول و مزارع عائلية و ختاماّ كملك لشخص الدكتاتور و أسرته .
انانية وجشع و تخلف و همجية تلك الانظمة و عدم وجود مشروع وطني لتطوير الدولة و حل مشاكلها أدت الى انهيار مؤسسات الدولة رغم كل شعاراتهم البراقة و التي فشلوا حتى في تحقيق جزء بسيط منها بل عملوا عكس ذلك تماما و ادخلوا ما تبقى من الدولة في حروب بالوكالة تحت شعارات قومية و طائفية و حزبية و عشائرية و حتى عائلية مفتعلة مما انعكست بنتائج كارثية على شعوب هذه الدول بل و على جميع شعوب المنطقة و العالم اجمع .
انعكس الوضع الغير المستقر في الشرق الأوسط على الوضع العالمي بعد بروز و استفحال قوة التطرف و الاٍرهاب و انتشاره عالميا عبر دخول كل المجموعات على هذا الخط الساخن و الانطلاق منها مما دفعت الدول الكبرى للعودة مجددا الى المنطقة .
عودة الدول الكبرى الى المنطقة لم يكن وفق خطة أو مشروع استراتيجي لصياغة و ترتيب المنطقة من جديد بل جاء على شكل عمليات تأديبية لبعض الأنظمة لترتيب مصالحها المتضررة من سياساتهم الطائشة و العودة الى الاستقرار الأمني المؤقت عبر تغيير بعض وجوه النظام و تسليم الأمور الى البعض الاخر و ضبط خلافاتهم الداخلية و احيانا الى الاضطرار لتغيير بعضها للحفاظ على توازن المنطقة و استقرارها، لتقوم هذه الأنظمة من جديد بواجبها لضبط المجموعات الإرهابية و لو على حساب قمع شعوبها و ازلالهم و ممارسة ابشع السياسيات بحقهم ليصبحوا (مرغمين) لقمة صائغة و قود و سلاح فعال بيد مجموعات الإرهابية لاستخدامها لأغراض و مصالح بعيدة بل و مناقضة لطموحاتهم و احلامهم .
أسباب المشكلة الحقيقة في المنطقة تكمن في البداية الغير الصحيحة لتشكيل هذه الكيانات القسرية و الغير موفقة في تكوينها و جغرافيتها ومن ثم تركها للإدارات المحلية و التي فشلت بدورها لحل مشاكل هذه الكيانات الغير منسجمة مع حقيقة تركيبة شعوب المنطقة و تنوعها و طبيعتها هذه الأسباب أدت الى استفحال أزمات المنطقة و من ثم وصولها الى الانفجار و التشظي و الانتشار ليصل نارها الى ابعد ما كان متوقعا .
اضطرت الدول الكبرى في السنوات الاخيرة و رغم انشغالها بالعواصف التي تعصف بها ان تطرح بين الحين و الاخر مشاريع غير واضحة لإعادة الاستقرار الأمني لهذه الدول و ايجاد آلية جديدة لإدارتها بغية الحفاظ على مصالحها و وقف تداعيات الفوضى و انعكاساتها عليهم .
ليس للمحور الغربي و لا للمحور الروسي مشروع واضح كالمشروع الفرنسي – البريطاني في القرن الماضي. لم تصل سياسات هذه الدول الى مستوى مشروع لرسم خارطة جديدة لهذه المنطقة عبر تأسيس دول جديدة و تفكيك البعض القديم منها لتنسجم مع طبيعة و تنوع شعوب المنطقة التي حرمت من حقها في تقسيمة سايكس بيكو و اعادة مؤسسات الدولة الى الدول القائمة ذات اللون الواحد عبر ازالة الأنظمة القمعية و دعم مؤسسات الدولة و حمايتها و مساعدتها على النمو و التطور لخلق الأمن و الاستقرار في عموم المنطقة . ليكن للدول الكبرى مصالحها في المنطقة، و هذا حق مشروع لكن شريطة ان تراعي الحد الأدنى من مصالح و حقوق جميع القاطنين في هذه البقعة الحساسة من العالم . الخارطة القديمة و التي يتم الحفاظ عليها بحجة الشرعية ! و التي عملت على تقديم و دعم مجموعة على حساب مجموعة أخرى و ترك الأنظمة القمعية تعبث بالدولة بحجة عدم التدخل في الشؤن الداخلية اثبتت فشلها و تركت المنطقة متخبطة في صراعاتها و لم تحقق الأمن و الاستقرار و أبقتها كبركان يقذف بحممه على المحيط و يتطاير شظايا كتله على العالم اجمع . سيبقى نشاط هذا البركان قائما ما لم تفكر هذه الدول بوضع مشروع استراتيجي بعيد المدى يعمل على تحقيق الأمن و الاستقرار في المنطقة و الذي سينعكس بدوره على الأمن و الاستقرار العالمي .
03-06-2020

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…