إبراهيم محمود
حتى الأمس القريب جداً، كان الحديث يدور ويسخن، لحظة التركيز على الاستبداد السياسي في مجتمع ما، بأنه يتصّف بـ” كم الأفواه ” تعبيراً عن حجْر الألسن، تأكيداً على عدم التعبير عن الرأي، سوى أن فيروس كورونا جلَب نقمة كبرى لأغلبية العالم، ونعمة لمن يتقنون فن تصريفها، من خلال التفنن في الأكمام، والترغيب فيها، وما يتصدرها من صور وأشكال استقطابية، وأعني بها: جنسية .
ذلك يحيلنا على مفهوم ” الحجاب ” وكيف أصبحنا نشهد في العقود الأخيرة مع صعود آفة ” القاعدة ” ومشتقاتها ” داعش ” وخلافها حديثاً، ظهور مصادر ضخّ هائلة لها، من جهة البراعة في تفصيله وزخرفته، ونسيان العنف الذي يمثّله في الجسد طبعاً،
وحتى عروض أزياء ” حجابية ” تترى، ورؤية عشرات الأشكال والزخرفات التي تتصدر واجهة المحلات الكبرى، مع توابعها الزيّوية ” من الرأس إلى القدمين “، وليصبح فيروس كورونا نفسه ملهِماً لمستبدّي الجسد من المتشددين، حجة لهم، لإبراز مناقب الزي ” الإسلامي ” وعافيته وسلاميَّته وقوة المناعة التي يمنحها للمرأة هنا، وتشكّل الكمّامة عنصراً مدغماً بالنقاب هنا.
ولا بد من التنويه إلى الفارق الكبير من حيث المبدأ، بين العنصر المجسّد والمرئي في بنية الحجاب ودلالته، وسلطة الذكورة التدينية، كرمى ” محميتها ” الجسد الأنثوي ” الفاتح لشهية المأهول بفوبيا المرأة، حتى وهو ” ينكح ” مثنى وثلاثاً ورباعاً وما ملكت أيمانه وما وعِد به من ” حورعين ” الغد الغيبي المرتَقب،وما تكونه الكمامة من تعبير عن وضع طارىء ” صحة عموم الجسم ” لكلا الجنسين بالتأكيد. سوى أن مفهوم ” الطارىء ” ولمن لا يعلم، يذكّرنا بطارئية الحجاب لحظة التوقيع على ضرورة ” تناوله، وما يترتب عليه من سلوك حركي ولفظي، خشية نقل ” عدوى ” فتنة جسم المرأة، إلى جسم الرجل، والفتك بخلاياه الورعة حيث تصعب مقاومة عنف فيروس الفتنة تلك، لتكون النتيجة ضلالاً في الدنيا، وعقاباً أبدياً جهنمياً في الآخرة، ليكون ” الطارىء ” مشرعناً إلى يوم ” الدين “.
وفقَ الملحوظ، يمكن النظر إلى هذا الانتشار للقناع: الماسْك، وطريقة إخفائه لثلاثة أرباع الوجه، على أنه اختصار للحجاب بمفهومه الإسلامي، ليس لأن العالم في عمومه قد دخل دار الإسلام مسلماً، وإنما لأن الشكل المرئي يحفّز مخيال جُلّ الإسلامويين على توسيع رقعة سجالاتهم، وحتى رفع أصواتهم، وجعْل الراهن والآتي في عهدة زمن كان، باعتباره ” أفضل الأزمنة “، أولاً لكي يقوّوا قناعة أتباعهم، والمتجيشين ممن حولهم وفي الجهات الأبعد، في الوقت الذي ظهر الإسلام على خلفية التنظيمات الإرهابية معطى سلبياً في العالم، وثانياً، لكي يمنحوا أنفسهم المزيد من السكينة والدعم الذاتي، ومن ثم الاستمرار في نهجهم المتشدد.
وبالمقابل، وكما هو الملتقَط من إشارات عن طبيعة فيروس كورونا، حيث يجري خلْط السياسة بالصحة، وهو وارد، في زمن تنامي سيطرة الفضائيات وتداعياتها السلبية إشعاعياً على صحة الإنسان، إلى جانب سيطرة المحلّلات الكيماوية ونفاذ مضارها في الجسم عبر فتحاته ومساماته، وفي الواجهة تكون المتاجرة بالصحة، وبأكثر الأزمات كونية واستفحالَ خطر، ذات حضور محتسَب، من الكبير والصغير، وبالنسبة إلى الرجل والمرأة، في الوقت الذي تضعنا حروب الإيديولوجيات الكبرى والبغيضة في مواجهة الانجرافات الكبرى للقيم الإنسانية الكبرى بالمقابل، ويُلحَق بنثار رقعها ” غبارها الذرّي هنا ” كل ما هو حي في الطبيعة وماوراءها أيضاً.
وفي الوقت نفسه، لا ينبغي علينا بُعْد آخر لمفهوم القناع/ الماسك، وهو الذي يشدَّد على النظر فيه، وأعني به: الترغيب في الحياة، والاجتهاد في الخيارات المفتوحة، تلك التي تصل أي منّا بالحياة، حتى في أكثرها خصوصية وحميمية، أي ما يجعل من القناع ذاته، أكثر من كونه قناعاً، وهو يتسخن، أو يُشحَن في نسيجه المختلف طبعاً بأنفاس مرتديه، أومرتديته، كما لو أن القناع يصبح في الحالة هذه فلتراً، يكتفي بنفَس الآخر، أو النَفَسين، وقد امتزجا، وحالة التجاذب من من وراءهما، ومن ثم لتوسيع سياسة التعامل مع الجسد نفسه، طالما أن الفيروس الكوروني، ماض ٍ في ” ارتكاب موبقاته “، كما يمكن إيجاز المتردَّد عنه هنا وهناك. دون ذلك، أجد أنه من الصعب بمكان التفاعل مع تخريجات ماسْكية كهذه، أو الإقبال على ارتداء القناع، والذي يقدّم ” موضاتياً ” وما في ذلك من كسْر جمود اللحظة الزمنية التي يؤرَّخ لها بولادة فيروس كورونا وعولمته مشرقاً ومغرباً، واكتشاف الآخر، من جهة كلّ جنس لمقابله، أو التوق إلى لقياه، لأن هذا المرئي البرزخي لا يخلو من فاعل إثارة واستقطاب وحتى ” استقلاب ” شهية إيروسية نفّاحة، بما أن الذي يعايَن من خلاله غير مسبوق، فلا بد أن يستشرف جسد الآخر أكثر من وراء خاصية التباعد المحرّمة لمصلحة وقائية مجتمعية، واعتماد سياسة موازية، تعنى بعملية الوصال والاتصال ولو بالخيال، أو ما يضاعِف من ديناميكية القرْب، وما يمكن تصوره للجانب المخفي والأكبر من الوجه نفسه، وهو فضول لا يجارى هنا، ما يعزّز أحياناً من تماسك ” الماسْكي ” إن جاز التعبير، وهو يتنشط: حرك، أو كلاماً، دون أن يخشى على فمه، أو شفتيه، ومظهر أسنانه ولسانه، وشهيقه وزفيره، وحتى نشاطه الأنفي، والذي يؤثّر في تلوين المقابلة/ المناظرة، بالنسبة لمن يجهل الآخر، أو لم يكن رآه من قبل، أو رآه، وقد بات في هيئة مختلفة، من خلال الشكل الذي يبرز فيه استواء أو دانتيلية، صورة قلبية أو ثديوية، أو حتى ما يكونقريب الشبه لأكثر الأعضاء الجنسية قُرْباً أو مجاورة أو مشابهة، أو مادة صنع ٍ، أو شفافية، أو رقة، أو سماكة، أو طبيعة تأثير في الملمس…الخ
ولعلّي على قناعة معرفية ما، بأن الذين يقومون بوضع تصاميم لماسْكات، أو طرق خياطتها وطرْزها، ومن ثم إظهارها للملأ، أو طرحها للاستعراض، تنويع لا يمكن تجاهل مرجعياته الثقافية: النفسية، التربوية، السياسية والرمزية أيضاً.
وهذا يفتح في المجال واسعاً، ليأتي في الإثْر علماء اجتماع وساسة، وفلاسفة، مقبْلين على تحرّي القوى الفاعلى في مسرحة مظهر معمَّم كهذا، وممارسة أوجه شتى من التحليل والتركيب، السبر التاريخي والفلسفي والنقد الثقافي….الخ.
هل سنشهد قريباً، وفي أكثر من سياق: قل لي أي ماسْك ترتدي أقل لك من أنت؟