صندوق كورونا.. الشبح الذي يجوب العالم

أحمد اسماعيل اسماعيل
لقد تحولتُ إلى كائن آخر، أصبحت شخصية أخرى لا تشبهني، وانقلبت من حال إلى حال، كما يحدث لبعض الشخصيات في الحكايات الشعبية والخرافات، وكما حدث لغريغور سامسا، وذلك كله بفعل كلمة واحدة:
كورونا!
كلمة السحر هذه، السوداء، هي التي فعلت فعلها العجيب في شخصي، وجعلت مني كائناً له وجه أخر غير وجهي، متوتراً ومنقبضاً، وتصدر عنه حركات أخرى غير حركاتي في الحديث والجلوس، وفي تناول الطعام أيضاً، حتى عيوني، لم تعد كالسابق، تنظر بتأمل أو دهشة أو إعجاب أو فرح، بل امتلأت بالتوجس والشك والخوف.
ولعل سريان حالة التحول هذه بين البشر، وعدواها في مدينة بوخم الألمانية التي لجأت إليها من جحيم الحرب في بلدي سوريا، في الشوارع ومراكز التسوق وداخل عربات القطارات، قد زاد الطين الذي أنا فيه بلة، فقد بدأت ألاحظ، أنا الكاتب الذي أبتلي بمراقبة حركات وسكنات الناس، بمناسبة وبلا مناسبة، ولكن ليس على طريقة عناصر المخابرات في بلدي، إن وجوه الألمان وأفواههم التي اعتدنا، نحن اللاجئين، على رؤية الابتسامات مرسومة عليها، قد امَحت، وحلَّ محلها إطباق الشفاه في تعبير غريب، ليس خوفاً من رجال البوليس، بل خشية هذا الفيروس الذي يتربص بالأفواه ليقتحم الفاغرة منها، ويتسلل إلى الرئتين. إضافة إلى نفورهم، الجديد أيضاً، من اقتراب أيّ شخص منهم، في مكان التسوق أو في عربات القطارات.. أو في أي تجمع.
ما الذي يحدث لهذه المدينة وناسها؟ 
بل ما الذي يحدث للعالم؟!
إنه فيروس كورونا، الذي كورن الوجوه الضاحكة في مسرح الحياة، جاعلاً إياها على شاكلة الوجه الباكي، لتسود التراجيديا وحدها، دون الكوميديا والضحك، في هذا المسرح الكبير.
ما يحدث غريب بحق، إنه أشبه بأفلام تروي حكاية نهاية العالم، حكاية بلا راو، ليس فيها سوى الموت المجاني والريبة والخوف العميم!
لقد أصبح ساعي البريد الذي يحمل إلينا الطرود، يطلب منا، وعلى غير العادة، أن نبتعد عنه، ليتسنى له وضع الطرد أمام الباب، ويوقع بدلنا عنا، وما أن يلاحظ نظرات الدهشة في عيوننا حتى يقول:
كورونا. 
قبلات صغيرتي في البيت كانت أولى خساراتي منذ ظهور كورونا، والتي كان صباحي يبدأ بها، قبل تناول القهوة وسماع فيروز، وأكافىء بها عند عودتي إلى البيت، لتقتصر بعدها على ابتسامة صغيرة، وقبلة مطبوعة على كفها الصغيرة وإرسالها عبر الهواء، أورثني هذا التغيير الكثير من الانزعاج، ولكنني سلمت به، وعن قناعة، خشية أن أكون السبب في إصابتها بهذا الفيروس، أو إصابة أحد أفراد العائلة، فتكون الطامة الكبرى.
أعلم أن كورونا ليس الفيروس الأول الذي يغزو البشر، ولن يكون الأخير، فقد سبقت هذا السم فايروسات كثيرة، وأوبئة أكثر خطورة وفتكاً: الطاعون والكوليرا والجدري، التي أودت بحياة مئات الملايين من البشر في زمن لم يكن الطب فيه علماً، والمجتمعات متحضرة، وانتهت تلك الأوبئة بعد حين، وانتصرت البشرية في هذا الصراع في أحيان كثيرة، ورغم ذلك، أجد نفسي نهباً لهواجس تعوي في داخلي مثل قطيع ذئاب، تفترس مشاعري وتنهش أفكاري في كل لحظة يغيب فيها حارس أقبية اللاشعور ودهاليزه.
ماذا لو أن فيروس كورونا كان سلاحاً بيولوجياً هجومياً تم تصنيعه وتطويره في تقنيات مزدوجة، تجمع بين التطوير البيولوجي والتعديل الجيني؟
هذه ليست من بنات نظرية المؤامرة، أو شيطنة القوى الكبرى، وخاصة الرأسمالية المتوحشة وأباطرة المال والسلاح، بل قراءة لتاريخ الشر عند البشر، ومنذ القديم، فقد فعلها في الغرب القديم القائد اليوناني صولون، وذلك في القرن السابع قبل الميلاد، إذ قام بتسميم مياه خصومه في مدينة “كيراه” بوساطة عشب مميت، ولجأ الأشوريون في الشرق القديم إلى وضع فطراً ساماً في آبار أعدائهم، لتصيب من يتناول مياهها بالهلوسة، ولعل أبشع جريمة بيولوجية لجأ إليها البشر؛ تمثلت بإلقاء المغول جثث جنودهم المصابين بالطاعون إلى داخل أسوار مدينة “كافا” في شبه جزيرة القرم، إحدى بوابات الدخول إلى أوربا، وذلك في القرن الرابع عشر الميلادي، فكانت نتيجة ذلك كارثية: انتشار الطاعون في كل أنحاء أوربا، وموت نصف سكانها.
ولم يكن ذلك نهاية المطاف، ولم يكف البشر عن هذا الفعل الشنيع، بل استمر في العصر الحديث أيضاً، وفي حروب عديدة، كبيرة وصغيرة، إذ استخدم النازيون الألمان في حروبهم المجنونة الجمرة الخبيثة، ولجأ اليابانيون إلى تسميم المياه في الصين، ونشر حشرات ضخمة في مدنه، إضافة إلى البكتيريا المصنعة في فرنسا، وإيبولا السوفياتية.. وغيرها كثير، وما خفي أعظم.
كل شيء جائز، وقد لا يكون فايروس كورونا استثناءً في هذا الاتجاه، وقد تظهر الحقيقة بعد زمن، أو بعد أن يذوب الثلج في مرج السياسة العالمية.  
ولكن كورونا لم تستثن أحداً، أي أحد من دول العالم، فهل يمكن أن يفعل مجنون ما، وهو يعلم سلفاً، إن العالم قد أصبح قرية صغيرة، وإن التواصل بين البشر عبر وسائل النقل الحديثة جار على قدم وساق، في كل ثانية، وليس في كل يوم؟
ممكن، لا غرابة في ذلك في عالم أصبح أشبه بمصحة نفسية، بل بمشفى مجانين، يقود أكبر جناح فيه مجنون اسمه ترامب، وليس فيه سوى القتل والدم وبيع الإنسان وهدر كرامته في أسواق النخاسة المحلية والعالمية وبورصاتها.
اليوم، التاسع والعشرون من مارس- آذار، انتحر وزير مالية ولاية هيسن الألمانية، واسمه توماس شيفر، والسبب كما يشاع: صدمة نفسية… وكورونا.
لا استغرب أن تكثر حالات الانتحار قريباً، وذلك بعد أن يصاب الجميع بلوثة الخوف والهلوسة. تخيلوا العالم وقد تحول إلى مشفى مجانين! 
هل هذه نتيجة طبيعية لافتقار العالم إلى القيم الأخلاقية؟ أهي عقوبة من الرب كما يحلو القول لبعض العاجزين ؟ أم انتقام الطبيعة من جنون البشر الذين أساؤوا إليها، فأرسلت أحد جنودها كي يكبح تماديهم، ولقد اختارت أجهزة التنفس لدى البشر بالذات هدفاً لها، عبرة وعظة للبشر كي يكفوا عن الإساءة لأجهزة تنفس لديها، من هواء وغلاف جوي وشجر وسماء، بفعل ما تنفثه مصانعهم من أبخرة سامة، وتنشره أسلحتهم من دمار؟
ثمة هواجس بدأت تستبد بي وتجعلني أتخيل في أوقات كثيرة، موت الإنسان على الأرض، وإنني آخر رجل يشهد هذا الحدث الجلل، تماماً كما لو أنني أشاهد فيلماً سينمائياً عن نهاية العالم مثل فيلم حرب الزومبي العالمية من بطولة براد بيت، أو فيلم نوح، بطولة راسل كرو وانتوني هوبكنز، رغم معرفتي، بل ويقيني، من أن هذا ليس زمن المعجزات، وإن نوحاً ميت، وإن سفينته على جبل جودي قد اندثرت، حتى أنني تخيلت نفسي في موقف “برنجيه” في مسرحية الخرتيت ليوجين يونسكو، والناس حولي تتبدل وتتحول إلى كائنات غريبة.
هل سيحول هذا الوباء العالم إلى وحوش وخراتيت؟ وهل سأكون الناجي الوحيد، أم ضحية مثل غيري؟
لأول مرة تنعكس فائدة مطالعاتي ومشاهداتي السينمائية على فكري وروحي، إلى الضد مني، لتثير قلقي، وفزعي. مشاهد من أفلام ونصوص مسرحية وروايات، ليس فيها سوى القتل والصراخ والموت الجماعي، لقطات وحوارات وشخصيات ومشاهد في فوضى غريبة، فونومانتاج موضوعه كورونا، وكل ذلك وأنا في بيتي، عالمي الصغير الذي أصابه كورونا بالضيق، والزمن فيه بالعطالة، فجعل منه زمن عجيب، مركب وإشكالي، أشبه بلوحة الزمن لسلفادور دالي، زمن مائع، ساعات متساقطة، ساعات ذائبة، وساعات ثابتة أيضاً، لا تتحرك، معطلة ومتسارعة، اللحظة الحاضرة هي الأبد، لحظة أطول من قرن، لا علاقة لها بما سبقها من زمن، ولا علاقة لها أيضاً بما سيتلوها، نفسياً كان هذا الزمن أم تاريخياً أو حضارياً، لحظة طارئة في زمن يراوح في مكانه، دائري وشاقولي.
رغم كل المعلومات التي استظهرتها عن ظهر قلب عن هذا الوباء، والتي حصلت عليها من خلال متابعتي للقنوات الفضائية، ومن قراءات في المواقع الالكترونية، وكذلك تلك التي تصلني عبر الواتس آب والماسنجر، من مشاهد مضحكة ومحزنة، سخيفة وقيمة، إلا أنني أتعامل مع هذا الوباء في كل يوم وكأنه حدث للتو. طارئ وجديد.
أغسل يدي في اليوم مرات عديدة بالماء الساخن والصابون، لا أقترب من أحد، لا أخالط أحداً، أمارس رياضة المشي في اليوم ساعة واحدة، وأحياناً ساعتين، أتناول مشروبات ساخنة، لم أكن أتناول الكثير منها قبل زمن كورونا، حتى أني كنت أجهل وجود بعضها. في الحديقة لا أجلس رغم ما يصيبني من تعب، أنا الرجل الذي أُجريت له ثلاث عمليات جراحية في العمود الفقري، وفي طريق الذهاب إلى الحديقة والعودة منها، أضغط على كبسة إشارة المرور بركبتي كطفل مشاغب، لا ألمس أي شيء، وفور دخولي إلى البيت، أبدأ بحفلة التعقيم: المفتاح، الكفين، خلع الثياب، أو بالعكس، كثيراً ما يحدث أن أخطىئ في ترتيب الأولويات، أبدأ بتعقيم المفتاح، ثم أنسى تعقيم الهاتف الذي أكثر من استعماله، وأذهب إلى الباب وأعقمه، ثم أعقم الكرسي الذي جلست عليه حين دخلت إلى البيت، والطاولة التي أستندت عليها قبل لحظات، ثم أتذكر الجوارب، ولأن الجوارب على تماس مباشر مع الحذاء، والذي جبت فيه الحديقة مرات كثيرة، والشوارع المؤدية إليه..أنزعهما وأغسل يدي مرة ثانية، وأفعل ذلك مرة ثالثة ورابعة بالماء الساخن والصابون السائل لمجرد الشك، والذي لايزول بالماء والضابون والتقيد بالتعليمات، وهكذا يستمر الوسواس في افتراسي.
لقد شاهدت الفيروس وهو ملتصقاً بيدي، لم يكن الأمر كابوساً أو أضغاث أحلام، لقد رأيته بعيني هاتين، حدث ذلك قبل أيام، شاهدته وهو ملتصق في كفي فور هبوطي من القطار، لاشكّ أنه انتقل إليّ عندما لمست مكان ما في القطار كان عالقاً عليه: الكرسي، الزر، الباب، الأعمدة، لا يمكنني تحديد المكان بالضبط، كان يتمدد على كفي كصرصار منقلب على ظهر وهو يغني، انتباني الفزع وأنا أنظر إليه، والحنق، فجأة التقت نظراتنا، كانت نظراته غريبة، مخيفة كما في أفلام الرعب، أسرعت نحو البيت وأنا أراقبه كي لا يزحف نحو مكان آخر في جسدي، اقتحمت البيت كرجال المخابرات في بلدي، وعلى الفور، توجهت إلى صنبور الماء، فتحت الصنبور بحركة من كوع يدي، فانطلق الماء الساخن، وقبل أن أشرع بالغسيل، سمعت قهقة غريبة، بل كان صريراً من نوع مثير للأعصاب، كان هو من يقهقه، وراح يتشبث بكفي بوقاحة، قلت له وأنا أدعك يدي اللتين أحمرتا من شدة حرارة الماء، وأشاهد الدهن الذي يحيط به وهو يتفكك: لتصحبك رغوة الصابوة مثل كفن إلى مكانك الطبيعي أيها الفايروس اللئيم، لقد انتهيت، وأحسست بنشوة الانتصار تغمرني، ولكن فرحتي لم تكتمل، بل سرعان ما انقلبت إلى وجوم وحزن عندما أطلقت زوجتي ضحكة ساخرة وهي تقول لي: وهل قضيت على آخر فيروس في العالم يا بطل؟ 
أنا خائف، ولهذا الخوف خصوصيته، لقد أُجريت ثلاثة عمليات جراحية، كانت آخرها خطرة جداً، وكنت مهدداً فيها بالشلل، وأجريت العملية بلا خوف يماثل هذا الخوف الذي استبد بي من كورونا.
إنني خائف على عائلتي، لا على نفسي، وهذه هي بعض خصوصية خوفي، فأنا رجل عاطفي، ودمعتي حاضرة دائماً، كما يقال، تسقط أمام أي مشهد مؤثر، حتى لو كان في فيلم هندي، ولهذا الخوف أسبابه التي يطول شرحها: اليتم المبكر، والطفولة الشقية.
غير أن ذلك ليس كل شيء، وماذا عن الناس الذين في بلدي، وفي مدينتي قامشلي، ماذا لو وصل الفيروس إلى هناك وانتشر بين الناس، حيث لا دواء ولا مستشفيات ولا مؤنا ولا غذاء يساعدهم على تقوية المناعة! 
حتى في هذا البلد، ألمانيا، تحول كورونا إلى شبح يجوب العالم، ليس القارات والمدن والشوارع وحسب، بل البيوت والخزائن والأدراج والأجسام.. وحتى في مسامات الجلد. 
روى لي أخي الذي يسكن في مدينة بريمن الألمانية أنه شاهد أمس الأول جاره العجوز واقفاً أمام باب البناية، كان العجوز على غير عادته المرحة، حزيناً وكئيباً، بل أشبه بجثة حية، قال أخي، سألته عن سبب حزنه.
فصمت الرجل للحظات ثم اختنق صوته بالعبرات، استغربت منه ذلك، إذ لم يحدث أن وجدته على هذه الحال قط، بل لم أجد ألمانياً يبكي، الألمان ليسوا مثلنا نحن الذين نبكي لأبسط الأمور، وفي حالات لا تحتاج إلى البكاء عادة، سألته عن السبب، فقال: بعد أن خدمنا البلد عشرات السنوات، وأفنينا أعمارنا من أجله، قلنا لأنفسنا: بعد التقاعد سنلتقط أنفاسنا ونعوض بعض ما فاتنا، سنستريح، سنخرج في نزهات عائلية، أنا وزوجتي، ونتجول في بعض بلدان، أسبانيا وبعض بلاد الشرق، غير أننا كنا واهمين، الآن عرفنا أنهم يريدون التخلص منا، لابد أن يكون هذا الفايروس من صنعهم، إنهم لا يريدون لنا أن نعيش.
وأكمل أخي: لقد حاولت أن أشرح له الأمر، وحجم الكارثة التي لا تقتصر على بلد أو سن معينة، إلا أنه لم يتجاوب معي، بل أصرّ على أن حكومة بلاده تريد التخلص من المسنين، وأبدى ندماً وخيبة أمل ببلده، ثم تركني عاجزاً عن الشرح، خاصة وأن لغتي الألمانية غير جيدة، ولا تساعدني في التعبير عن كل ما يجول في داخلي.
 التمزق الذي أعيشه بين أسرتي وأبناء بلدي والعالم أيضاً، وأنا أتابع ما يحدث لهذا العالم الذي أحببته بحزن، يجعلني فريسة سهلة للخوف، والذي بدوره يسلمني للقلق، ويجعلني في كل يوم أعاني من صداع لا يكفُّ حتى استسلم للنوم.
ليبدأ كل شيء في الصباح.
وفي كل صباح أقرر أن أدع القلق وأبدا الحياة من جديد، بتحد وإيمان بالإنسانية، أو ما تبقى للبشر من إنسانية، وذلك عبر الثقافة والفن والمسرح الذي أحبه وأعمل له.
ثمة أمل. أمل حقيقي وليس وهمياً وزائفاً مثل أمل البعض ممن يتوقعون أن الحياة ستصبح أفضل بعد كورونا، وإن كورونا أعطت للبشرية درساً تاريخياً عن ضرورة التعاون والتعاضد، وإن للطبيعة علينا حق، وللجار حق، وللفقراء والمحتاجين والمساكين، فلا خيار للبشرية في الخلاص سوى ذلك: الحب.
ولكن ذلك كله وهم. وعلة ذلك يكمن في أن كورونا ليس الفايروس الوحيد الذي أصاب البشرية في مقتل، وإن أوبئة كثيرة ومرعبة ذهب ضحيتها الملايين من البشر، أصابت البشرية في مكان القلب، لم يحدث ذلك في بلد واحد وزمان واحد، بل في أمكنة كثيرة أزمنة محتلفة، وما أن انتهت الكارثة، وذهب الهلع والجوع، حتى امتنع الناس عن الاستفادة من الدرس، ونشبت الحروب وعاد الاستغلال والجشع وسياسة اضطهاد الشعوب، والكسل الفكري وتبلد الأحاسيس، لتعود الأنا مرة أخرى إلى إطلاق العواء، الأقوى من نداء العقل، واستغاثة الأخلاق. نعم سيحدث تغيير بعد الانتهاء من كورونا، لن تفنى البشرية، ولكن التغيير الحاصل سيكون في أساليب استثمار روؤس الأموال، وسيبدل أباطرة المال والحروب والسياسة قوانين اللعب، قد يولون أهمية أكبر للإستثمار في مجالات المختبرات الطبية والعلمية، وفي مكافحات الفيروسات، وفي العقول، وسنتغير نحن الهامشيين أيضاً، وكالعادة، فإن تغيرنا سيكون مناسباً لمكانتنا وأدوارنا في هذه الحياة، ولعبة الكبار، ولعل ما يحدث اليوم يشكل فرصة للبشرية كي تتأمل شرطها الوجودي والحضاري. 
فلم يعد السكوت عن هذا التهريج السياسي ممكناً، والذي حول العالم إلى سيرك في سبيله إلى الانقراض، وتجار الحروب وأباطرة المال والسياسة هم الفاعلون.       
غير أن الأمل الذي كان قد بقيَّ لنا في صندوق باندورا، في زمن ما، وهمي أو خيالي، وجعلنا نعيش طوال هذه القرون، هو نفسه: الأمل، سيبقى في صندوق كورونا بعد أن يُفرغ هذا الفيروس كل شروره، وحتى شرورنا، وبه سنحيا مرة أخرى، وأتمنى أن نفعل ذلك هذه المرة بشكل أفضل. 
“فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة”. 
عليها أطفالنا وأوطاننا.. ونحن.
موقع مجلة الجديد اللندنية.
3-4-2020

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…