الكورونا إطلالة فلسفية حول كتاب الكورونا كورنر لابراهيم محمود

عبدالواحد علواني
مرحلة الكورونا التي بدأت منذ عقد على نحو محدود، وتتحول اليوم إلى وباء عالمي ذي ابعاد سياسية واقتصادية وصحية هائلة، لها أيضا أبعاد ثقافية ظهرت في تجليات عنصرية ربما، لكن عادة ما تكون هذه المحنة الهائلة مجالا للدراسة والتأمل والحوار بعد فترة زمنية لا بأس بها، ربما بسبب العصر المعلوماتي كانت بعض مظاهر هذه المحنة حاضرة في تعبيرات ثقافية وفنية مختلفة. لكن أن يواكب مثقف وكاتب من طراز فريد له إسهاماته الهامة على الصعيد الفكري هذا الموضوع بأن يكرس له كتابا، فهذا أمر يقوم به أشخاص عديدون مثل الكاتب والمفكر الكردي الصديق إبراهيم محمود، فقد تلقيت منه كتابه الموسوم بعنوان إشكالي: كورونا ..
 كورنر ! حوارية زمن طارئ. الكتاب وإن وسم بالحوارية يكاد أن يكون رواية، تميزه حواراته بين شخصياته التي تنتمي لثقافات متباينة، ولعل هذا ما يذكر بالفارق بين المحاورات الفلسفية والحوارات المسرحية في التراث الإغريقي، وهي جميعها كانت مشغولة بمفاهيم فلسفية، الفارق أن المحاورات كانت نقاشاً مباشرا حول الفكرة، بينما الحوارات المسرحية تأتي في سياق درامي. لذلك فإن هذا الكتاب هو حوارية. لا شك أن من يقرأ الكتاب، يتحسس العمق الفلسفي والفكري لكاتبه، والإشارات الذكية والموحية من خلال الشخصيات المتحاورة حول قضية معاصرة هي في حقيقتها قضية صحية اقتصادية، لكنها تأخذ أبعاداً سياسية وايديولوجية.
 الكتاب أنه يقدم معلومات كثيفة في قالب من الحوار الذي يبتعد عن الجدل، أي إنه حوار يرمم الصورة من زوايا متعددة ويستكملها من أجل تكوين تصور عام، وفي سياق من (تأريخ) الوباء في مسيرة الإنسان عبر محطات فارقة.
 هناك إشارات هامة في سبيل قراءة الوباء قراءة معرفية، ترفدها المعلومات والأخبار المرتبطة بالكورونا خاصة. الأوبئة من المجالات الخصبة لمعالجات إبداعية متنوعة ومؤثرة وخالدة مثل الحب في زمن الكوليرا لماركيز، الطاعون لسارتر، العمى لساراماغو، معسكر الكوليرا لكيبلينج، موت في البندقية لتوماس مان، وغيرها، وهي أعمال تتوازى فيها الدراما الروائية مع تصاعد الفجيعة الوبائية، إذ يلعب الوباء دورا اعتباريا كشخصية رئيسة مؤثرة وقادرة على تغيير المصائر والنهايات. 
في هذه الأعمال ثمة حوارات لا يمكن التغافل عن أهميتها، لأنها تجري بين شخصيات مختلفة التوجه والثقافة والمهن والاهتمامات، مع تشابه أوجه معاناتهم من الوباء كما في طاعون سارتر، هناك صراع اجتماعي داخل البنى الاجتماعية يوازي الصراع الإنساني مع الجائحة وربما يتفوق عليه كما هو الحال في اعمى لساراماغو. وربما يشكل حاضنة لخاتمة حكاية حب تأخرت كثيراً كما في كوليرا ماركيز. في كتاب إبراهيم محمود، ولغلبة الطابع الحواري، فإن البعد الفكري والفلسفي يواكب السرد التاريخي والاحصائي المكثف في الكتاب، وثمة ربط عميق بين الاعتقادات والأحداث والمعالجات عبر تاريخ طويل وواسع من الوجود الإنساني.
 لا يستسلم محمود للتصورات المسبقة ذات البعد الأيديولوجي عندما يحدد شخصياته، فهو لا يريد لها نسقية معتادة، إنما متجاوزة لثقافات خاصة لأنها تشتغل على هم عام كما جاء في حديث ألبرتو: ” تماماً تماماً يا نوبين، كحالنا نحن معاً. كحال منتظري الذي عن نفسه أنه فارسي، ولكن في عروقه دماء بلوشية وآذرية، وكذلك نوبين، الذي يعرّف بنفسه كردياً، سوى أنه لا يستطيع الجزم بأصل نشأته، وأرنست، قال عن أن أباه إيرلندي، وأمه من أصول هندية، وهومي، أعلَمنا أن أباه انكليزي، وأمه أفريقية، أما صديقنا ألبرتو، فهو ينحدر من أصول صقلّية، وقد أخبرنا كما تذكرون، أن أحد أجداده كان من العرب منذ أيام بدايات انتشار الإسلام في أوربا، وهذا ينطبق على يانغ بدوره، ألم يقل لنا عن أنه صيني، مع فيتنامي، مع ماليزي، فتصوروا أي خلطاتنا تميّزنا.” يتحدث محمود عن عدد من مدن العالم اليوم: ووهان، وبوسطن ودهوك وفيرونا وجوهانسبرغ وأصفهان، من خلال الشخصيات الرئيسية المنتمية لمدن مختلفة. وكأنه يؤكد أن اختلافها لا ينفي أوجه تشابهها، فهي بالمحصلة مدن أهلة بسكانها من البشر: ” عبر المسافات البعيدة نستمع إلى بعضنا بعضاً، والعجينة، هي هذه المدن التي تضمنا، وهي مدن نعيشها، وقد حاولنا التعبير عنها، ولكل منا أسلوبه.” 
يدلف محمود إلى تاريخ الأوبئة ليبين حقيقة أن الوباء يوحد العالم، لأنه يهدد الجميع. ويرصد في فصل مسهب تاريخ المرض والأوبئة على المستوى الإنساني العام. ليتابع بعدها وحتى نهاية الكتاب ذلك الترابط الوثيق بين المرض والاختلالات الإنسانية المختلفة. يحاول محمود أن يقدم رؤية بانورامية تضيء الجوانب المختلفة، يتحدث عن الصين وتاريخها مع الأوبئة، لينتقل بعدها إلى الطب وتقاليده، وكيف انتقلت الأوبئة عبر الهجرات والحروب، ولا يهمل الجانب البيئي للأوبئة بالحديث عن الطب والنبات، وعلاقة الأوبئة بالحيوان، ليختتم كتابه بفصلين هامين حول الطب والسياسات الدولية، وعلاقة التشريح بالسياسة. ويشير إلى مسؤولية التناقضات التي تلف الإجراءات الرسمية بين متطلبات الصحة العامة، وبين مصالح الشركات الرأسمالية كما نرى في الكلمات التي ترد على لسان ألبيرتو: ” وعلى الرغم من أن هذا الوباء لا يتم إدراكه محليًا بقوة ، إلا أن هناك ارتباكًا بين السكان بسبب تلازم الرسائل التي تنقلها السياسات المحلية: من جهة ، الرسائل الطبية الحيوية التي تدعو السكان إلى فقدان الوزن والأكل الصحي ، وعلى الجانب الآخر إمكانية الوصول على نطاق واسع إلى الأغذية المعلبة والجاهزة المعلبة ، المستوردة بكميات كبيرة ، وذلك بفضل الاتفاقيات التجارية مع العالم الأول.” 
كتاب الكورونا كورنر، ليس بكتاب علمي نحاسبه على إغفاله للمراجع والمصادر وتوثيق المعلومات الكثيفة الواردة فيه، لكنه برأيي يفتقد حضور المرأة، فالشخصيات الرئيسة هم ذكور فحسب، ووجود المرأة في حوارات كهذه ليس من باب حقها ووجوب مشاركتها، إنما لإضاءة الجانب الآخر من أي مسألة حياتية تتعلق بحياة البشر. ثمة شعور يخالجني، بأن الكورونا على الرغم من كارثيته كوباء، سيفرز شيئاً من الأعمال الإبداعية الهامة، ويذكر البشر بوحدة مصائرهم، ولعله يكون مدخلاً لفهم أوبئة أخرى قد لا تكون طبية، كالعنف والجهل والعنصرية. أعني مدخلاً لفهمها على أنها كلها أوبئة متنقلة، والسكوت عنها في بقعة من العالم لا يعني أنها لن تطال بقية العالم.
قراءة في كورونا … كورنر !!!” حوارية زمن طارىء “  للكاتب إبراهيم محمود أمازون 2020

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…