في ثقافة التكريم مرة أخرى.. من يوميات الحديث عن رحيل الفنان سعيد يوسف

د. ولات ح محمد
    في ظل الحديث والكتابة عن حدث كبير كرحيل الفنان سعيد يوسف قبل أيام عن عالمنا المليء بالصخب والمشاحنات والعنتريات والنفاق وأشياء أخرى، من الطبيعي أن تتردد على الفكر والتأمل مسألة تكريم المبدع، سواء أصرح المرء بأفكاره تلك (عن طريق الكتابة للجمهور أو مناقشتها في جلسات خاصة) أم أبقاها كتيمة نفسه التي تحتوي مكبوتات كثيرة تموت غالباً مع صاحبها دون أن تجد لنفسها طريقاً للخروج. 
    دار مثل هذا الحديث عند رحيل المبدع محمد شيخو، وها هو يعود هذه الأيام من جديد بمناسبة رحيل الفنان سعيد يوسف. جدل التكريم هذا لن يتوقف ما دام في الوسط الكوردي أمران: الأول هو ربط كل شيء بالسياسة والموقف السياسي أو الانتماء السياسي للمبدع وعدم الفصل بين إبداعه وبين ذلك الموقف.
 أما الثاني فهو غياب المؤسسات الراعية التي تُعنى برعاية المبدع وبتكريمه سواء في حياته أم بعد رحيله؛ فبغياب المؤسسات المعنية العامة (كوردياً) يبقى الأمر مرهوناً بمبادرة الأحزاب السياسية التي لا تستطيع بدورها أن تجتمع فيما بينها على أمر من جهة (ناهيك عن تكريم مبدع)، ولا تستطيع من جهة ثانية أن تتصرف مع هكذا أمر بحيادية بعيداً عن الموقف السياسي للمبدع أو من دون توظيف رعايته له لمصلحتها الحزبية، إذ تعتبر ذلك تكريماً مجانياً لا يستحقه غير أعضاء الحزب. 
    في سياق الكتابة عن رحيل الفنان سعيد يوسف قرأت مقالين تصديا للكتابة عن هذا الموضوع، كل من زاويته الخاصة والمغايرة: الأول للكاتبة نارين عمر وتذكر فيه أن الفنان الراحل قال لها في أحد الملتقيات الأدبية إن الكورد يتهمونه الآن بمختلف الاتهامات ويجردونه من كورديته ولا يعترفون بكل ما قدمه لهم،  ولكنهم سيقولون عنه بعد رحيله إنه الفنان الكوردي والكوردستاني الكبير وعملاق الفن، الملحن والشاعر والموسيقار المتميز، سفير الأغنية الكوردية إلى العالم سعيد يوسف. وتقول الكاتبة إن هذا ما قد حصل فعلاً.
    أما المقال الثاني فيدعو فيه الباحث والكاتب إبراهيم محمود بعض من يبدون صدمتهم من رحيل الفنان إلى أن يخففوا من صدماتهم، إذ يقول: “خففوا من صدماتكم يا أصدقاء، لأنكم بالطريقة هذه سترهقون أنفسكم وأهلكم وأصدقاءكم، إذ هكذا كان الحال مع الذين سبقوا الفنان الكبير، وهكذا سيكون الحال مع من سيأتي من بعده”. إذاً، لم يكن الحال مختلفاً مع من سبق سعيد يوسف في الرحيل ولن يكون مختلفاً مع من سيأتي “دوره” لاحقاً: لا مبالاة ولا اهتمام بالمبدع في حياته، بل في كثير من الأحيان يتلقى (بدلاً من التكريم) تشهيراً وإساءة وتشكيكاً وتشويهاً لاسمه ولسمعته. أما بعد الرحيل فيزداد محبوه ومعجبوه ومعارفه الذين يتفاخرون بمعرفته أو بجلسة معه أو حتى بتلقي تحية منه يوماً ما أو بالتقاط صورة معه بالمصادفة. 
    “الصدمة” المعبر عنها في الواقع ليست فقط في حدث رحيل الفنان، بل في التفاعل معه أيضاً؛ فعلى المستوى الشعبي العام يبقى الوضع كما كان في حياة الراحل قبل رحيله. أما على المستويين الفردي والرسمي فإن الكثير من الأفراد والأطراف سيحاولون القول إن الراحل الكبير كان يخصهم بهذه الدرجة أو تلك. ذلك هو حال المبدع الكوردي مع بيئته الاجتماعية والسياسية ولن يتغير شيء مع راحل قادم. ولهذا يدعو محمود إلى التخفيف من الصدمة لأن الأمر بات معتاداً ولأن بعضهم لا يعيش فعلاً هذه الصدمة.
    هذه المفارقة التي أشار إليها الكاتبان محمود وعمر باتت جزءاً من ممارستنا اليومية ليس على صعيد الرحيل والتكريم فقط، بل على كل الصعد، إذ لا نعرف قيمة لمبدع إلا بعد أن نفقده ولا يعود لنا أمل في لقائه. أما وهو بيننا فإننا نختلق له ألف عيب وعيب كي لا نقول فيه حسنة واحدة، ثم تنقلب الصورة بعد رحيله ليصبح صاحب ألف حسنة وحسنة ونتغاضى عما كان فيه من عيوب، وكأننا نبدأ اكتشاف عبقريته وأهميته في اللحظة التالية للرحيل مباشرة!!! 
    قبل سنوات نشرت مقالاً تحت عنوان “ثقافة التكريم” دعوت فيه إلى تكريم المبدعين بصفة دائمة في وسطنا الكوردي، على ألا يقتصر التكريم على احتفال في قاعة وإلقاء بعض الكلمات وتقديم بعض الهدايا؛ وأنه لا يجب أن يبدأ التكريم بدخول قاعة الاحتفال وينتهي بالخروج منها، بل يجب أن يشعر المبدع (الذي يستحق التكريم) بتقدير الناس له ولعمله ولإنجازه كل يوم، أن يستشعر ذلك في كلامهم وفي عيونهم وفي مواقفهم منه وفي احترامهم له، لأنه إنسان غير عادي ويخدم شعبه بفنه وفكره وكتابته وإبداعه عموماً أياً يكن نوع هذا الإبداع أو مجاله.
    من هنا أرانا من جديد بحاجة للدعوة إلى ثقافة التكريم في حياة المبدع وبعد رحيله على حد سواء. ولكن ثقافة التكريم لا تأتي ولا توجد ولا تنبت ولا تعيش في بيئة لا يعترف فيها أحد بأحد، ولا يرى فيها أحد أحداً، ولا يحترم فيها أحد اختلاف أحد، ولا يحب فيها أحد غير نفسه. إذا قال أحد ما إن هذا الكلام الأخير فيه مبالغة فقد يكون على حق.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…