إطلالة الوجه القمعي

علي العبد الله

في لحظة سياسية دقيقة وتمور بالاحتمالات الخطيرة، أعادت السلطة السورية إنتاج سياستها التقليدية: تخويف المواطنين واللعب على الوقت.

فقد شحذت أسلحتها القديمة وبادرت إلى الهجوم على نشطاء الطيف الديمقراطي، اعتقالات واستدعاءات بالجملة، إهانات وتهديد ووعيد عالي النبرة وخشن الألفاظ، معيدة إلى الأذهان ذكريات مرحلة سوداء وكريهة أطلقت خلالها يد الأجهزة الأمنية

فتصرفت بحياة المواطنين ومصالحهم وتحكمت بمستقبلهم ومستقبل أولادهم بممارسة كل أنواع القهر الجسدي والروحي، وكل أصناف الابتزاز والاستنزاف النفسي والوجداني، وسعت إلى اللعب على تناقضات القوى السياسية والاجتماعية المعارضة.


ففي الوقت الذي توقع فيه المواطنون السوريون أن تتجه السلطة إلى موازنة الضغوط الخارجية والعجز عن مواجهة وحل المشكلات المعيشية والخدمية بمصالحة المجتمع عبر إجراء تغييرات عميقة في سياساتها والتخلي عن السياسة القمعية وتقييد الأجهزة الأمنية وتحديد صلاحياتها وإلزام كل جهاز باختصاصه، والاهتمام بتوفير احتياجات المجتمع المعيشية والخدمية، فإن السلطة كان لها رأي آخر: استعادة مجدها “التليد”، بإعادة أجواء الخوف إلى المجتمع الذي أخذ يرمم إرادته وقناعاته بحقوقه ويستعيد أحلامه في حياة حرة وكريمة وتجرأ على رفع صوته، والتغطية على عجزها عن مواجهة الضغوط الخارجية وتلبية الاستحقاقات الوطنية والمعيشية والخدمية بتخويف المواطنين وإلحاق الأذى بهم عبر إلقاء القبض على العشرات ومعاملتهم على أنهم إرهابيون خطرون، والزج بهم في أقبية لا تراها الشمس واستدعاء نشطاء الطيف الديمقراطي إلى الأجهزة الأمنية التي عاملتهم بخشونة وأسمعتهم كلمات من نوع “أسحق” “أمحق” “أقطع”… الخ.

في رسالة واضحة هدفها إعادة أجواء الخوف ودفع المواطنين للعودة خطوة إلى الوراء.


وعلى صعيد آخر دعا محافظ الحسكة وجهاء العشائر الكردية (43 وجيها) للتوجه إلى العاصمة دمشق يوم السبت(28/1/2006)، وعلى نفقة الحكومة، لمقابلة رئيس الجمهورية،في خطوة تبين أن هدفها بذر الشقاق والتناحر بين القوى السياسية والاجتماعية الكردية عن طريق تقديم مكاسب لهذه القوة كي تصعد في مواجهة القوة الأخرى.

فقد قال شكيب حاجو عضو من الوفد ل (صحيفة “الزمان” 31/1/2006): “إن السيد محمد سعيد بخيتان أبلغ الوفد بقرار قريب يقضي بمنح 300 ألف كردي الجنسية السورية”.


وهذا كشف أن هدف اللقاء الذي كان من المزمع عقده بين رئيس الجمهورية ووجهاء الأكراد، ولم يتم حيث استقبل الوجهاء الأمين القطري المساعد لحزب البعث الحاكم محمد سعيد بخيتان بسبب انشغالات الرئيس،كما قيل للوجهاء، ليس إلا استعادة ممجوجة لتكتيك “فرق تسد” في إطار سياسة كسب الوقت الذي تسعى السلطة، ومن خلال الوعود، إلى امتصاص الغضب الشعبي وتأجيل حل الملفات الساخنة إلى أن تتخلص السلطة السورية من الضغوط الخارجية فتلتفت إلى الوضع الداخلي وتتعامل معه بشروط مواتية ومن موقع قوة، وبالطريقة التي تتقنها : القمع والبطش.

وقد كان للسلطة جولات من هذا القبيل مع المواطنين عامة والمعارضة الوطنية الديمقراطية خاصة، وكان المواطنون السوريون الأكراد قد حظوا بمناورات من هذه القبيل مرات عديدة، حيث لم يمر عام دون وعود بمعالجة المشكلات العالقة وخاصة مشكلة الحرمان من الجنسية، التي تعرض لها المواطنون السوريون الأكراد بفعل الإحصاء الاستثنائي المشؤوم الذي أجري يوم (5/10/ 1962) وحولّهم إلى “بدون”.


حنق السلطة على المواطنين الأكراد ازداد بعد حصول التوافق بين القوى السياسية السورية عربية وكردية وآشورية والذي عكسته اللجنة الوطنية للدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان قبل أن يتكرس في إعلان دمشق، والتنسيق الذي جسدته النشاطات الميدانية مثل الاعتصامات في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10/12) وإعلان حالة الطوارئ (8/3/1963).

وقد سعت السلطة السورية إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عن طريق دق إسفين بين قوى المعارضة على أسس عرقية.

تجلت هذه السياسة أول مرة في مناسبة بارزة يوم (10/12/2003) عندما قامت القوى الوطنية الديمقراطية السورية باعتصام أمام مقر رئاسة الوزراء بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وشكلت وفدا من 5 أشخاص (كرديين وثلاثة عرب) تقدم لمقابلة رئيس الوزراء وتسليمه مذكرة تطالب برفع حالة الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية وتطبيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان فرفض أمن رئاسة الوزراء السماح للوفد بالدخول، ثم سمح لهم بالدخول إلى بهو المبنى وأبلغهم أن رئيس الوزراء ليس موجودا وطلب أن يسلموا المذكرة للأمن وعندما رفض الوفد ذلك اختلى مدير مكتب رئيس الوزراء بالكرديين وقال لهم لماذا أتيتم مع العرب، لو جئتم لوحدكم لكنا استقبلناكم كما حصل في المرة السابقة، حيث كان وفد كردي قد قدّم مذكرة يوم (5/10/2003) بشأن المحرومين من الجنسية من الأكراد السوريين، واختلى بالعرب وقال لهم لماذا أتيتم مع هؤلاء الأكراد لو جئتم لوحدكم لأدخلناكم وقابلتم رئيس الوزراء.


وقد سعت السلطة عبر استغلال أحداث شغب الملاعب التي وقعت في مدينة القامشلي يوم (12/3/2004) وتداعياتها (اعتداءات على الرموز الوطنية والممتلكات العامة والخاصة من قبل بعض المواطنين الأكراد… الخ) بتأليب العرب على الأكراد حيث لعب الإعلام الرسمي، عبر الروايات والصور والاتهامات، دورا كبيرا في تشويه صورة المواطنين الأكراد السوريين إلى درجة التشكيك في وطنيتهم وإخلاصهم، وإحداث شرخ بينهم وبين بقية المواطنين السوريين.


ولما فشلت السلطة في إحداث شرخ بين قوى الطيف الديمقراطي السوري فإنها تحاول الآن إضعاف الحركة السياسية الكردية من خلال الإيقاع بين هذه القوى والقوى الاجتماعية بالتحاور مع القوى الأخيرة والسعي لتهميش الأولى وإعطاء القوى الاجتماعية ورقة الحرمان من الجنسية، لتقوية موقعها في الوسط الكردي.


من المكرر والمعاد القول إن السلطة السورية تختار الأداة الخطأ في الزمن الخطأ وان إطلالة الوجه القمعي القبيح مصيرها الفشل.
الخليج

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الكردية السورية جُهوداً متقدمةً لتوحيد الصفوف من خلال عقد “كونفراس ” كردي جامع يضم مختلف القوى السياسية والمنظمات المدنية والفعاليات المجتمعية، بالتوازي مع الاتفاق المبرم في العاشر من آذار بين قائد قوات سوريا الديمقراطية وحكومة أحمد الشرع الانتقالية، تفاجأ المواطنون في مناطق “الإدارة الذاتية” بقرارٍ غيرِ مدروس ، يقضي برفع…

عزالدين ملا بعد ما يقارب عقد ونصف من الحرب والتشظي والخذلان، وبعد أن استُنزفت الجغرافيا وتفتتت الروح، سقط بشار الأسد كأنّه خريفٌ تأخر كثيراً عن موعده، تاركاً وراءه بلاداً تبدو كأنها خرجت للتو من كابوس طويل، تحمل آثار القصف على جدرانها، وآثار الصمت على وجوه ناسها. لم يكن هذا الرحيل مجرّد انتقال في السلطة، بل لحظة نادرة في…

إبراهيم اليوسف ليس من اليسير فهم أولئك الذين اتخذوا من الولاء لأية سلطة قائمة مبدأً أسمى، يتبدل مع تبدل الرياح. لا تحكمهم قناعة فكرية، ولا تربطهم علاقة وجدانية بمنظومة قيم، بل يتكئون على سلطة ما، يستمدون منها شعورهم بالتفوق الزائف، ويتوسلون بها لإذلال المختلف، وتحصيل ما يتوهمونه امتيازاً أو مكانة. في لحظة ما، يبدون لك من أكثر الناس…

د. محمود عباس   في زمنٍ تشتد فيه الحاجة إلى الكلمة الحرة، والفكر المُلهم، نواجه ما يشبه الفقد الثقافي العميق، حين يغيب أحد الذين حملوا في يومٍ ما عبء الجمال والشعر، ومشقة النقد النزيه، إنها لحظة صامتة وموجعة، لا لأن أحدًا رحل بالجسد، بل لأن صوتًا كان يمكن له أن يثري حياتنا الفكرية انسحب إلى متاهات لا تشبهه. نخسر أحيانًا…