سعيد يوسف ومحنة المبدع الكردي الاستثنائي.. مقاربات وعلامات فارقة

إبراهيم اليوسف
  لا يمكن تناول منجز وسيرة الفنان الكردي الكبير: سعيد يوسف، من خلال مجرد مقال، أو حتى دراسة سريعة، إذ إنه أحد هؤلاء الفنانين متعددي المواهب، وكيف لا وهو الذي كان رساماً وخطاطاً في مطلع حياته، ومتكلماً بارعاً، وخطيباً مفوهاً، وذاكرة للتراث والفلكلور، كما أنه شاعر غنائي، بالإضافة إلى أنه أحد أهم عازفي آلة البزق، وهو أحد أهم الملحنين، وأنتج مئات الأعمال الغنائية، من أشعاره وألحانه، وقد غنى كبار الفنانين الكرد بعض أعماله الفنية التي أصبحت علامة فارقة، بحيث إن مجرد الاستماع إلى موسيقاه. عزفه، فإن ذلك يدعو المستمع لمعرفة اسم مبدع هذا العمل حتى وإن كان يتلقاه لأول مرة، وقبل سماع نبرة صوته العميق، وهذه إحدى العلامات الفارقة لهذا الفنان الكبير الذي امتاز بعبقرية فنية كبرى.
وسبب  عدم الفلاح في إمكان الإحاطة بروح هذا المبدع، خلال شريط لغوي كهذا يعود إلى أن روحه هذه كانت استثنائية. روح الفنان المبدع الحقيقي التي تتطلب القراءة المتأنية، وقد كان كل ذلك يظهر في سيماء شخصيته. ملامحه، فهو كان إنساناً بسيطاً في حياته، مع المقربين من حوله. مع البسطاء، بالقدرالذي كانت  فيه إنساناً معتداً  بذاته، وهو ما لايمكن معرفته تماماً إلا من خلال إتباع سيرته، إذ لم يكن ليتنازل عن كبرياء ذاته أمام حاجة ما، شأن بعضهم ممن انهاروا في محطات ما، كما أنه في الوقت ذاته كان يعدُّ  نفسه مسؤولاً عن ذويه. أهله، وهو الفنان المستقل، إلا في ما يتعلق بحب أهله، ماكان يدعوه إلا ينظرإلى قضيته إلا من منظاره. إلا من خلال رؤيته، بالرغم من علاقاته المتجذرة مع الحركة السياسية الكردية التاريخية، التي لم ينتم إليها، بعد تجربة سريعة له في صفوف الحزب الشيوعي الذي انضمَّ  إليه في شبابه، بعد تجربته في تعلم القرآن على يدي أحد رجال الدين ماجعله أحد الفصحاء الكرد، وقد كتبت في مقدمة أحد مقابلاتي معه مامعناه: 
خلال حواري مع الفنان أبي زورو لم أعان البتة من تصويب عباراته التي راح يمليها علي بثقة إذ كان ينطقها بلغة عربية عالية، كما كان ذلك شأن عبارته بلغته الأم التي كتب بها.
ثمة علامات فارقة كانت في شخصية أبي زورو، ومن ذلك أنه كان يتمتع بروح ساخرة، بل إن روحه الساخرة هذه كان يمارسها في مواجهة محيطه، ولربما كانت هذه السمة مدعاة اتخاذ بعضهم مواقفهم منه، إذ إنه لم يكن ليجامل أحداً، كما أنه كان يمتُّ بعلاقات عميقة مع الوسط الثقافي والفني والسياسي والعوام من حوله، لكنه، خلال كل ذلك كان مهاب الشخصية، يعنى بأناقته، وجمال مظهره، كما كان يعنى بأناقة منزله البسيط الذي يسكنه في الحي الغربي في مدينته: قامشلوكا أفيني، كما سماها، يستقبل في بيته بعض أصدقائه، وكل من يطرق بابه. يزور بعضهم هو الآخر، يعنى بشؤونهم، من دون أن ينقطع عنهم، فهو لم يكن من طراز أولئك الفنانين الذين يتحصنون في أبراج عاجية، لأنه كان في الدرجة الأولى كائناً اجتماعياً جد ناجح.
   استطاع الفنان الكبير سعيد يوسف، خلال سبعة عقود ونيف من حياته- وفي الواقع خلال مايقارب ستة عقود من الإبداع والعطاء الفني والحياتي- أن يحفرعالياً، حتى يتمكن من إيجاد صوته الخاص، فقد غنى لقضيته الكردية. لشعبه. لثورة البارزاني الخالد، في أواسط وأواخرستينيات القرن الماضي، عندما كان مجرد ذكر كلمة: كرد، أو كلمة كردستان يدعو إلى الاعتقال، في ذلك الزمن الرهيب، كما أنه غنى لقيم الحب والجمال. غنى للمرأة وفق مفهوم متقدم بما يؤهله ليكون رائد الدعوة إلى تحرر المرأة في الأغنية الكردية في ذلك الزمن الصعب الذي كانت فيه المرأة مثقلة بالأغلال، وكان عبر أغنيته التي يكتبها بنفسه ينجز معجمه. معجم لغة آبائه، وأجداده، الكرد، تلك اللغة البسيطة، الشفافة، اليومية، وحتى تلك المهددة بالانقراض، ليبعث فيها الحياة، وذلك لأن أغنيته التي كان يقدمها سهلة الاستظهار، من قبل أوساط واسعة، بحيث أن أجيالاً متتالية، منذ أواخر الستينيات وحتى العقد الثاني من الألفية الثالثة يرددون أغنيته.
وما دمت في إطار مقاربة شخصية استثنائية، فريدة، فإنه لابد من الإشارة إلى محنة سعيد يوسف التي واجهها، منذ وقت مبكر من حياته، من قبل أوساط محددة، وهو ما استمر في مواجهته، وهي ما يمكن أن أسميه عدوانية بعض أصحاب النفوس تجاه المبدع، إذ إنه تم التأليب عليه- كما يتم بحق سواه من أكثرالبارزين في مجتمعنا ولم ينج من ذلك  الراحل الكبير محمد شيخو ولا أي مبدع ومضح آخر- بطريقة جد أليمة، جد جارحة، لاسيما عندما كان يتم استغلال بعض المحطات التي كان يبدي خلالها رؤيته تجاه معادلة: القومي- الوطني بمفهوم الخريطة التي ضمته، وكان كثيرون من نقاد رؤاه يحاولون إطلاق رصاصهم عليه، جراء إقدامه على اتخاذ موقف ما، يبيحون لأنفسهم إن قاموا باقتراف، أو ارتكاب، ما يشبهه، وهنا فأنا أراه-كما سواه- ممن يعملون، ويصيبون أو يخطئون، لكن خط عطائه الفني- الجمالي- خط حبه لإنسانه- كان في تصاعد- وأن هدفه- وكما سألته ذات مرة عن أحد تلك المواقف التي لم يستسغها بعضهم، وتم استثمارها ضده، كان في إطار خدمة شعبه، كما رافع عن نفسه أمامي حين سألته، مع أن موقفي الشخصي كان مختلفاً، وفي الاتجاه المضاد لهذا الموقف. 
ومن هنا، فإن هناك معاناة حقيقية تعرض لها الفنان سعيد يوسف الذي لم يكن ليرضى أن يمالق أحداً، وهو ما جعل وسائل الإعلام تبتعد عن تجربته الفنية العريقة التي كانت تعد أقدم، وأعرق تجربة، بين الفنانين  الكبار الذين كانوا أحياء في مكاننا، إلى الدرجة التي يمكننا الحديث عن حصار غير مفهوم فرض عليه، وهو- في عمومه- من قبل صغار العقول، أو ضيقي الأفق، وهوما لم يؤثر في إيمانه برسالته، وحبه لشعبه!
ماطرحته من عدوانية مرضية تجاه مبدعنا. تجاه كل صوت مميز هو ما سأتوقف عنده، وأتناوله، لأنه يشكل ظاهرة جد خطيرة، تفتك ببنيان مجتمعنا، ويمكن للباحث الكردي تتبع أثرذلك من خلال قراءة التاريخ البعيد والقريب، وهوما يجب أن نقرع الأجراس للتخلص منه،  لاسيما في زمن  ثورة المعلومات، و ظهور بعض المتحررين من أميتهم الذين يقدمون أنفسهم في هيئات الفلاسفة والمفكرين والوعاظ  والثوار، وإن كنت مع فتح باب النقد، على مصاريعه، ونحاورأية قامة كردية، إبداعية، أو سواها، من دون أي تحفظ، شريطة أن يكون كل ذلك، ضمن دائرة الاحترام.
يتبع….. جريدة كردستان
——————- 
  إذا اعجبتك المادة يرجى مشاركتها مع اصدقاءك من خلال النقر على رموز وسائل التواصل الاجتماعي في اعلى الصفحة 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…