ارقد بسلام أيها الأمير

د آلان كيكاني
آل بنا المآل، إلى أن نفكر كل يوم ونحن في طريق عودتنا من العمل بالفجيعة التي تنتظرنا في البيت: 
ترى دور من في الرحيل اليوم؟
وهل هو قريب، أم صديق، أم شخصية عامة أدمنا عليها؟
وأية كارثة حلت بالبلد خلال الساعات الماضية؟
وهل لا زالت بيوت أهالينا صامدة، أم أنها سويت بالأرض جراء إصابتها بصاروخ مدمر أو قذيفة مدفع؟
هكذا نعيش في بلاد الاغتراب: قلق على قلق، وتوتر في توتر، وحزن على حزن. وذرة سعادتنا هي عندما يمر علينا يوم لا نسمع فيه نعياً، أو نتفاجأ فيه بكارثة.
ومن حيث لا أحتسب كان اليوم نعي الموسيقار الكبير سعيد يوسف. فكان وقع الفجيعة على الذات كبيراً إلى حدٍ شعرت فيه أن نفسي تأبى تناول الغداء رغم الساعات التسع التي قضيتها في العمل دون أن أتناول فيها شيئاً. 
وفي لحظة شرود مفعمة بالحزن، سمعتني أدندن:
Kofî girêda
Hate ji wê de
Li ba min rûnişt
Ketim keyfê de.
………
Meşî û meşî
Meşî û meşî
Fistan li ber bê ket.
Aqilê””””m firî
Aqile””””m firî
غ pê re bi rê ket.
……….
Ya dilê xwe””””j mi re bêje
Te ez kirme weke gêja.
Ez geriyam pir li dine
M”””” nedî wek te rind û heja.
بمثل هذه الأشعار البسيطة وبجهد فردي محض أنعش سعيد يوسف أرواح الملايين، وبألحانه العذبة الشجية أطرب قلوب أمة من البشر، حتى بنى له مسكناً في كل قلب كردي.
وأذكر أنني في أواسط ثمانينات القرن الماضي وفي باكورة مراهقتي، استمعت إلى أغانيه اول مرة من خلال كاسيت استعرته من أحد الأصدقاء. وبعد ذلك رأيتني أفتش عن بزق لأقوم بتقليده. ولولا دراسة الطب التي، ولصعوبتها واستهلاكها الكثير من الوقت، أجبرتني على التضحية بكثير من هواياتي، لربما كنت الآن من تلاميذ سعيد يوسف. 
وفي عام 1994 وبينما كنت طالباً في السنة الرابعة من كلية الطب في جامعة حلب تناهى إلى مسامعي خبر نية الفنان سعيد يوسف إقامة حفلة غنائية على مسرح نقابة الفنانين في حلب، فاقتطعت جزءاً من مصروفي الشخصي، واشتريت تذكرة بقيمة مئتي ليرة سورية، أيام كان هذا المبلغ معتبراً. وفي اليوم الموعود وعند باب المسرح فتشت جيوبي وإذا بالتذكرة قد ضاعت مني. كم كانت صدمتي كبيرة آنذاك حتى كاد يغمى عليّ من شدة الحنق. لم يكن في مقدوري شراء تذكرة أخرى لكن كان عليّ أن أرى سعيد يوسف بأي ثمن، إنها فرصتي الوحيدة، فأنا مدمن على الاستماع إلى عزفه واغانيه، وأنتظر كل سنة كاسيته الجديد بفارغ الصبر، وأشتريه حال وصوله إلى استيريو الشرق الأوسط في باب الفرج الذي كان يديره آنذاك الفنان عامر أبو النور. 
والحق أنني لم أستسلم. ومن حسن حظي أن ابنه زورو كان على الباب يشرف على دخول الضيوف، فشرحت له ما جرى معي. فقال لي بعدما صدَّق روايتي: “لكن المقاعد نفدت وإذا جلست في أي مقعد سيأتي صاحبه وسيطلب منك مكانه”. قلت له: “لكني أعرف رقمي، إنه الكرسي رقم 16” فسمح لي بالدخول.
وكانت ليلة من ليالي العمر، أرى فيها أمير البزق اول مرة. 
رحم الله ثراك أيها الفنان
وألهم اهلك ومحبيك الصبر والسلوان.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس تأملات في الزمن والموت ومأساة الوعي الإنساني. لا شيء يُجبر الإنسان على النظر في عيون الفناء، كما تفعل لحظة نادرة نقف فيها على تخوم الذات، لا لنحدّق إلى الغد الذي لا نعرفه، بل لننقّب فيما تبقى من الأمس الذي لم نفهمه. لحظة صمت داخلي، تتكثّف فيها كل تجاربنا، وتتحوّل فيها الحياة من سلسلة أيام إلى…

مروان سليمان من أهم القضايا الشائكة في المجتمعات الشرقية هو التطرف العنيف الذي يعمل بها أناس ليل نهار من أجل شق وحدة الصف و أنقسامات داخل المجتمع و إنعدام حقوق الإنسان و من هنا كان لزاماً على الطبقات المثقفة و التي تحمل هموم شعوبها أن تعمل من أجل الحوارات المجتمعية و تقديم المبادرات السلمية و تحافظ على حقوق…

بوتان زيباري   في دهاليز السلطة، حيث تتهامس الأقدار وتتصارع الإرادات، تُحاك خيوط اللعبة السياسية ببراعة الحكّاء الذي يعيد سرد المأساة ذاتها بلغة جديدة. تُشبه تركيا اليوم مسرحًا تراجيديًا تُعاد كتابة فصوله بأقلام القوة الغاشمة، حيث تُختزل الديمقراطية إلى مجرد ظلٍّ يلوح في خطابٍ مُزيّف، بينما تُحضَر في الخفاء عُدّة القمع بأدواتٍ قانونيةٍ مُتقَنة. إنها سردية قديمة جديدة، تتناسخ…

خالد بهلوي بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وإرساء أسس بناء الاشتراكية وظهور المعسكر الاشتراكي كقوة اقتصادية وعسكرية تنافس الدول الرأسمالية ومعسكر الحلف الأطلسي، انعكس هذا التوازن على العديد من الدول، فحصلت على استقلالها، ومن بينها الدول العربية. كما خلقت هذه التحولات قاعدة جماهيرية تنادي بضرورة الاشتراكية، وأصبحت بعض هذه الدول، وحتى الأحزاب القومية التي تشكلت فيها، تدّعي…