محمد مندلاوي
إن اسم “بيستون” هو تحريف لاسم “بەگستان= بەغستان= Bagstan” أنه اسم كوردي ممتزج، ملتصق من “بَگ – بَغ- Bag” أي الإله في ذلك التاريخ، و”ستان= Stan” يعني موطن أو موقع الخ. إن مضمون الاسم هنا يعني “بيت الإله” أي المكان المقدس، لكنه كأي اسم كوردي آخر مر عليه آلاف السنين فلذا جرى تحريفه على ألسنة أبناء هذه الأمة العريقة بعض الشيء، مما لا شك فيه طرأ مثل هذا التغيير اللفظي على جميع لغات الأمم الأخرى على كوكبنا الدوار ومنها اللغة الكوردية وذلك حسب متطلبات العصر وانتقال الإنسان من مرحلة إلى أخرى، لأن اللغة كائن حي، تتأثر بما يتأثر به الإنسان بالمتغيرات والابتكارات اللغوية الحديثة وغيرها من مستلزمات الحياة، التي يبدعها بعقله الجبار حتى يعبر بها عن تلك الأدوات المعرفية وعن مصادرها وفروعها الخ.
عزيزي المتابع، بما أن هدفنا هو تنفيض الغبار المتراكم عن التاريخ الكوردي المشوه من قبل المحتلين..، فلذا اسمحوا لي أن أقف هنا قليلاً وأشرح اسم “بيستون” وما آل إليه في العصور اللاحقة. أولاً، الجزئية الأولى لاسم الإله “بَگ”. إن هذا الاسم كأي اسم كوردي آخر مقدس انتقل بعد أفول نجم الديانة الكوردية إلى الإنسان، لكن ليس أي إنسان، لقد صار يطلق على ذلك الشخص الذي عنده منزلة كبيرة في المجتمع أعلى من مكانة ومرتبة عامة الناس وأقل من الإله إلا وهو الـ”بَگ” في عصرنا هذا. إما الجزء الثاني لا يحتاج أن نقف عليه كثيراً لأنه معروف لدى الجميع ماذا يعني وهو يشكل الجزء الثاني من اسم الوطن الكوردي كوردستان.
عزيزي القارئ، أن جبل بيستون الذي يقع في شرقي كوردستان في محافظة كرمانشاه المحاذية لجنوب كوردستان، في المنطقة التي يتحدث أهلها اللغة الكوردية اللهجة الكلهورية واللكية، أن أهل هذه اللهجتين الكورديتين لا يلفظون حرف الواو الذي في اسم بيستون كأبناء جلدتهم من الشريحة السورانية، أن لفظ أهل المنطقة المذكورة لهذا الحرف يطابق تماماً تلفظ حرف “الواي” الإنجليزي الذي يكون بهذه الصيغة “Y” تماماً مثل نطق حرف الواي في كلمة :City أي مدينة. وهكذا مثل تلفظ حرف الواي في اللغة السويدية في اسم: By أي قرية الخ. للعلم، أدرج بيستون عام 2006 على قائمة التراث العالمي لليونسكو.
وأنت قادم من مدينتي “کەنگاوەر و هەرسین= Kangawer and Harsin” الكورديتان إلى مدينة كرمانشاه يوجد على الجانب الأيسر من جبل بيستون “كاروانسراي صفوي= Karwansaray Safawi” عبارة عن خان كبير بنيت في العهد الصفوي كنقطة استراحة ولمبيت القوافل التي تأتي من أصفهان وتجتاز أراضي شرق وجنوب كوردستان في مسيرتها الطويلة إلى جنوب العراق لزيارة العتبات الشيعية المقدسة. إن عدد هذه الخانات من أصفهان إلى النجف كبير جداً ربما تعد بالمئات. أدناه صورة للخان (كاروانسرا) المذكور وخلفه جبل بيستون:
دعونا الآن نأتي إلى البيت القصيد في موضوعنا، إلا وهو نصب داريوش الأخميني الفارسي. حيث نرى في أعلى النصب تمثالاً للملاك الزرادشتي (فروهر). أدنانه صورته كما هي في نصب بيستون وحولها وتحتها كتابة بالخط المسماري:
وتحت قدمي الملاك (فروهر) يقف الملك الفارسي “داريوش= Daryush” وخلفه اثنان من نجباء الفرس، ويشاهد داريوش في النصب وهو يدوس بقدمه اليسرى على صدر رجل الدين الزرادشتي الميدي (گەومات = Gawmat) لاحظ عزيزي المتابع، في الوقت الذي يرفع داريوش يده اليمنى تذرعاً بالملاك الزرادشتي”فروهر” تجده في ذات اللحظة يضع قدمه اليسرى على صدر رجل الدين الزرادشتي الميدي “گەومات”؟؟!! الذي أعلن الثورة عليه وعلى نظام حكمه الجائر. هؤلاء هم ملوك الفرس ظلام قديماً وحديثا؟. لقد تم إخماد ثورة “گەومات” ضد الشاه الظالم بالحديد والنار، وشارك في هذه الثورة أناساً من كل الشعوب التي كانت ترزح تحت نير الحكم الأخميني الفارسي الجائر. لاحظ النصب أدناه، أن أيدي الأسرى مكبلة من خلف ورقابهم مشدودة بالحبال. المكبل الأول من الثوار: اسمه آترين، من إيلام (عيلام). الثاني: اسمه ندئيت بئير، من بابل. الثالث: فرورتيش، من ماد (ميديا). الرابع: مرتي ي، من إيلام أيضاً. الخامس: جيترتخم، من ساگارت المنطقة التي تقع قرب مدينة سيستان وبلوجستان الحالية التي تقع في جنوب شرق إيران التي تقع جزيرة طبس بينها وبين محافظة خراسان. كان جيترتخم قائداً لمجموعته الثائرة. يقول عنه داريوش، بعد إلقاء القبض عليه سمل عيناه، وقطعت أذنيه وأنفه الخ. السادس: وەیزدات، من إقليم فارس، تصور عزيزي المتابع بسبب ظلم الأخميين للرعية حتى أبناء جلدتهم ثاروا عليهم. السابع أرخ، من بابل أيضا. الثامن: فراد، من ماز (ماژ). التاسع: سكونخا، من سكا، كان موطنهم جبال قوقاز وآسيا الوسطى. أنظر صورة النصب أدناه وتعرف على الثائرين الذين ذكرنا أسمائهم بالتسلسل واحداً بعد الآخر:
بما أننا ذكرنا الخط المسماري، يستحسن بنا أن نذكر اسم ذلك الشخص المغامر الذي استطاع بمساعدة شاب كوردي شجاع بالوصول إلى تلك الكتابة التي ترتفع عن سطح الأرض عدة أمتار، لقد استطاع الشاب الإنجليزي ” Henry Rawlinson- هنري راولسون” 1810 – 1895م الذي كان مستشاراً عسكرياً لحاكم شرق كوردستان ومقره كرمانشاه من فك رموز هذا الخط المسماري عام 1844م أي بعد مرور أكثر من 2000 عام على كتابته في جبل بيستون. لقد نقش راولسون اسمه على سفح بيستون كي يخلد عبر التاريخ بجانب اسم الشاه الأخميني داريوش والثوار الأسرى الذين انتفضوا ضد الحكم الأخميني الفارسي.
في الحقيقة هناك نُصب وآثار كثيرة في جبل “بيستون” هناك نصب لميترادات الثاني الأشكاني.إن هؤلاء الإشكانيين يقال لهم “بارت= Part” أيضاً سبقوا الساسانيين في حكم إيران. هناك نصب آخر لـ”ولگش = ولخش” البارتي= Parti- Al. يوجد أيضاً نصب لموقد النار الزرادشتي المقدس وعليه كتابة باللغة البارتية. هناك أيضاً جدار ساساني في بيستون بالقرب من نهر”گاماسی= Gamasi”. ويوجد أيضاً جسر قديم على نهر “گاماسی= Gamasi” معروف بالجسر الخسروي نسبة للملك الساساني “خسرو برويز”. وبالقرب من جبل بيستون هناك قرية بيستون وفيها أبنية قديمة من العصر الساساني الخ الخ الخ.
وعلى مقربة من الخان على سفح جبل بيستون يوجد نصب حجري لـ(هرقل) العظيم وخلفه لوحة كتابية من الحجر دونت باللغة اليونانية القديمة وعلى مقربة من هرقل يوجد تمثال لأسد، لكنه غير ظاهر في الصورة. لقد عثر على تمثال (هرقل) تحت الأرض قبل عدة عقود إبان شق هضبة نادري إلى نصفين وحفر طريق همدان – كرمانشاه لتبليطها. بلا شك وجود مثل هذه الآثار القديمة أنها دليل آخر على أن أرض كوردستان كانت تنبض بالحياة منذ عصور قديمة جداً، ولا زال شعبها المسالم يكافح في كل مناحي الحياة ويشارك البشرية في بناء صرح الحضارة العالمية. أدناه صورة لنصب (هرقل) يحمل بيده اليسرى جام خمر وبجانبه هراوة مدببة. وفيما يخص المعارك التي وقعت بين إيران والروم، لقد ذكرت لنا كتب التاريخ عدة معارك ضارية وقعت بين جيشي هرقل والملك الساساني الكوردي خسرو برويز، لكن في النهاية حكما عقليهما ووقعا صلحاً بينهما، وبهذا الصلح حافظت إيران على حدودها التي كانت تمتد من سواحل البحر الإسود حتى نهر الفرات في جنوب العراق. أدناه نصب هرقل:
وحول جبل بيستون حدثت قصة الحب الكوردية الشهيرة “شرين وفرهاد” التي خلدها الشعراء الكورد ومؤرخيهم عبر التاريخ، كما أسلفت وقعت أحداثها في هذه المنطقة، وتحديداً في هذا الجبل، الذي يسمى بيستون. إحياءً لقصة الحب هذه وربطها بمعاناة الشعب الكوردي على أيدي محتلي وطنه كوردستان نسجت الأنامل الكوردية كلمات معبرة لأغنية مؤثرة معروفة في أوساط عموم الشعب الكوردي اسمها “شرين گيان” يؤديها المطرب الكوردي (شهاب جزايری) وهي تخلد قصة الحب التي دارت أحداثها هناك بين عاشقين فرق بينهما الواشي والنمام وانتهت القصة بنهاية مأساوية. إن تأدية الأغنية الحماسية من قبل المطرب تثير عند سماعها الوجدان والمشاعر الكوردية. عزيزي المتابع، حتى أن الطبيعة هي الأخرى شاركت الشعب الكوردي بتأليف ملحمة “شرين وفرهاد” وذلك من خلال مؤثرتها الزمنية التي نحتت نحتها الإبداعي للجبل الذي يعانق السحاب، حيث ترى بكل وضوح وأنت قادم من مدينة “کەنگاوەر و هەرسین= Kangawer and Harsin” الكورديتان إلى مدينة كرمانشاه، تظهر أمامك على بعد عدة كيلومترات قمة جبل “بيستون= Bistun” مع جبل “پەراو= Paraw” كأنها لوحة رسمت لفتاة ملقاة على ظهرها ترنو بنظرها نحو السماء بأنوثة مثيرة كأنها إلهة من آلِهة الرومان.
“نصحني النصحاء، ووعظني الوعاظ شفقة وتأديباً، فلم يعظني شيء مثل شيبي، ولا نصحني مثل فكري” (بزرجمهر= بزرگمهر)
17 12 2019