إبراهيم محمود
في أكثر من مناسبة ونشاط- هنا- في إقليم كردستان، قلت إن ما عاناه المفكر التركي اسماعيل بيشكجي” 80 عاماً ” في سجون نظامه من اعتقالات ومضايقات وإهانات، على مدى أكثر من ” 17 ” عاماً، دفاعاً عن الكرد والقضية الكردية، يبقيه حتى الآن صديق الشعب الكردي الأوحد ” من العيار الثقيل “، مهما جرى انتقاده هنا وهناك، كما أثرت ذلك في كتابي عنه “الدرع الواقي: اسماعيل بيشكجي وكتابة القضية الكردية، جامعة دهوك-2017 ” وفي مختلف مقدماتي للكتب التي ترجمتها له هنا. ولايزال مثابراً في تأكيده على مشروعية حق الكرد ببناء كيان سياسي مستقل لهم.
ولا يزال بيشكجي يتكلم عدالة القضية الكردية، رغم وطأة الـ” ثمانين ” عاماً، دون أن يسأمها!
وهذا ما تلمسناه في زيارته الراهنة إلى الإقليم، وضمناً في محاضرته التي ألقاها باسم مركزنا: مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، وحملت عنواناً ملحمياً” القضية الكردية في خضم الصراعات الإقليمية ما بين عامي 1920-2017 “: الخميس، 28-11/ 2019، وهي تأشيرة تأريخية تعلم بثقل حمولتها السياسية لمن لديه اهتمام بها. ولعل هذا الوصل بين الحدثين ليس بالأمر السهل، وقد أضاء مفكرنا بيشكجي هذا الجانب مفصحاً عن استثنائية موقع الكرد وكردستان، خلاف أي شعب أو جغرافيا قومية أخرى، وهو ما نتلمسه في السياسات الاستعمارية لمن تقاسموها قديماً، ومن أنزلوا فيها تقسيماً حديثاً، من قبل الدول الامبريالية، وحتى ما يخطّط ضدها حتى الآن، فتكون ما دون المستعمَرة، حيث لا وجود لحدود سياسية، وما دون قومية، حيث جرى تفتيت الكرد بين دول المنطقة.
صورة جماعية، وبجانب بيشكجي من جهة اليمين مدير وقْف بيشكجي في استنبول السيد إبراهيم كَوركُوز، وزملاء عاملين في مركز بيشكجي- جامعة دهوك ” بوفيه قاعة المحاضرات “
وما يستخلَص من كلامه، هو لزوم التيقظ عند تناول هذه القضية، وعدم ربطها بقضية أي شعب آخر، في قارات العالم، استناداً من هذه الخاصية، وهو ما يشرّع لتنفيذ مختلف أساليب البطش، القمع، والتهميش، وحتى ارتكاب المجازر بحق الشعب الكردي، ذلك من شأنه، اكتشاف مؤثرات هذه الخصوصية، وكيف تشكلت هكذا تاريخياً .
هذا يدفع بي إلى التذكير بما أفصحتُ عنه، لقناة ” زاغروس ” التلفزيونية قبيل بدء المحاضرة، حين طلِب مني الحديث قليلاً عن مغزى هذه الزيارة، وباللغة العربية، فتطرقت إلى وجاهتها، إنما ما ركَّزت عليه أكثر، ولو سريعاً، هو وجوب قراءة متشابهات التاريخ ومفارقاتها، ففي عام 1917، فضح الاتحاد السوفيتي اتفاقية ” سايكس- بيكو “، كما لو أن هناك إشارة إلى أن ” المؤامرة ” مستمرة، مع اختلاف الأساليب، وأن هناك في ” 1920 ” حضوراً لـ” سيفر ” الوعد بمنح الكرد كياناً سياسياً دولتياً، وهو ما تطالَب به القوى المتنفذة في العالم اليوم، أي ما يجري من إيقاظ لـ” سيفر “، وأنه في عام 1919، أعلن أتاتورك الحرب على اليونان وحلفائها ” حربه تحريره الكبرى ” مخادعاً الكرد، وما يجري اليوم، هو ما تحاول تركيا القيام به، بأساليب ديماغوجية: دينية في الواجهة، وما ينبغي على الكرد التنبه له .
صورة جماعية أخرى، أمام التمثال النصفي له في الجامعة، وفي الخلفية جانب من مكتبة الجامعة المركزية، وأعلاها مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية
ولعل الذي أفادني به هذا المفكر شخصياً، في مجلس ودي، في ” البوفيه ” ولبعض الوقت، قيل فيه الكثير عن هذه القضية، هو ما ورد في جوابه عن سؤالي الموجه إليه: كيف تقيّم الغزو التركي لروجآفا وقد مضى عليه أكثر من شهر ونصف ؟ أعلمني- والحضور- بداية، أنه سيتحدث عن ذلك، وبتوسع خلال محاضرة له، سيلقيها في أربيل، بعد أيام، غير أن الذي أوجزه هو التالي: تستمر سياسة تركيا تجاه الكرد، كما هي في بدايتها ” كيفية القضاء عليهم “، وبالنسبة لروجآفا، فإنه إذا كانت حكومة البعث في سوريا ستينيات القرن الماضي، قد عجزت عن تعريب المناطق الكردية، وصهر الكرد، كما هو مطلوب منها، وفق سياسة تصفوية، تحاول تركيا الآن القيام به: كيفية إخلاء المنطقة الحدودية وبعمقها المحدد، من أهاليها الكرد، وإحلال العرب وغير العرب محلهم، لئلا يجري الحديث بعد الآن عن أي وجود كردي هناك. وهي سياسة تطهير عرقية، لم تتردد تركيا في تطبيقها مذ تشكلت، وهذا يتناغم مع سياسات الدول الأخرى التي تستبد بالكرد .
مع مدير وقْف بيشكجي المشار إليه سالفاً
والفطين وحده يعلم بخطورة هذه الحرب التي تشارك فيها قوى دولية وإقليمية، وما يخطط باسمها وراء الكواليس، والأخطر- طبعاً- هذا التجاهل الدولي لهذه الحرب التركية المشرعنة، كما يبدو دولياً، طبعاً لإسكات أي صوت ينطق بالكردية، ويطالب بحقه في البقاء مختلفاً عن الآخرين، وأن نزْف روجآفا هو تهديد لحيوات عموم الكرد ومصيرهم في الجهات الجغرافية الأخرى. كما لو أننا بصدد تفعيل ” لوزان ” معممة، لا قيامة للكرد بعدها أبداً، أبداً…!