د. ولات ح محمد
في أواخر أكتوبر 2017 عقد برلمان إقليم كوردستان جلسة استثنائية لبحث موضوع توزيع صلاحيات الرئيس مسعود بارزاني الذي كانت ولايته ستنتهي في نهاية ذلك الشهر. جلسة البرلمان تلك انعقدت بعد أسبوعين من غزو ميليشيات الحشد الشعبي مدينة كركوك ومناطق أخرى في 16 أكتوبر 2017 مدعومة بقوات من الجيش العراقي وعلى وقع الظروف الصعبة التي عاشها الإقليم من حصار وتهديدات وحرب إعلامية داخلياً وخارجياً. كانت هناك مطالبات برلمانية وأخرى شعبية بتمديد ولاية الرئيس بوصفه الأكثر قدرة على قيادة الإقليم في تلك الظروف الصعبة، غير أن بارزاني بعث آنذاك برسالة إلى البرلمان يطالبه فيها بعدم التمديد له وبتوزيع صلاحيات الرئاسة على مؤسسات الإقليم التشريعية والتنفيذية والقضائية منعاً لحدوث فراغ قانوني في موقع رئاسة الإقليم.
الكثير من القادة والسياسيين والمحللين (منهم وزير الخارجية الأمريكي آنذاك ريكس تيلرسون والسيناتور الأمريكي جون ماكين) أشادوا بذلك القرار ووصفوا الرئيس بارزاني بـ”القائد الشجاع”. لم يقصد أولئك القادة بالطبع شجاعة بارزاني في القتال بين شعاب الجبال التي قضى شطراً مهماً من حياته فيها، بل تحدثوا عن شجاعة من نوع آخر، شجاعة الحاكم الذي يتخذ قراراً صعباً عليه على الصعيد الشخصي، ولكنه ضروري لإنقاذ شعبه والحفاظ على وحدته واحترام حكم القانون ومنع حدوث فتنة داخلية بأيادي غير نظيفة. القائد هنا لا تقوده الشجاعة وحدها، بل هو ذاته يقود عربة يجرها حصانان: الشجاعة والحكمة.
تلك هي الشجاعة التي قصدها أولئك القادة، وتلك هي الشجاعة والحكمة التي يعرفها الكوردستانيون عن البارزاني، الشجاعة التي لم تظهر فقط في ترك كرسي السلطة في الوقت المناسب، بل كذلك في إصراره قبل ذلك على إجراء الاستفتاء الذي وقف كل العالم تصريحاً أو تلميحاً ضده، كلٌ لأسبابه الخاصة والمختلفة عن أسباب الآخر، متحملاً بذلك (بصفة شخصية) كماً هائلاً من الضغط والهجوم من الأقربين والأبعدين. هذه الجرأة والشجاعة هي التي جعلت كل الفاسدين والديكتاتوريين والعنصريين والطائفيين والانتهازيين يضعون خلافاتهم وأمراضهم جانباً ليتفقوا على محاربته بشراسة فائقة خوفاً من أن تنتقل عدوى شجاعته إلى آخرين فيمدهم بجرعة من الجرأة فيفتح لهم بها طريقاً كان مغلقاً حتى ذلك الحين.
بارزاني الشجاع الحكيم عندما رأى نوايا الآخرين بتدمير الإقليم (بحجة الاستفتاء) وإنهاء تجربته والعودة به إلى نقطة الصفر، أمر بعدم الدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة معهم إلا بقصد الدفاع عن الإقليم وأهله. وقد تحمل في هذا الإطار الكثير من الانتقادات التي تجاوزت حدود الانتقاد من طرف مغرضين أو سطحيين في رؤاهم آنذاك. ولكنه بتلك الشجاعة التي قدّم عليها الحكمة حمى إقليم كوردستان الذي صار اليوم بعد عامين من ذلك القرار الشجاع والحكيم أكثر قوة وازدهاراً وتماسكاً وتطوراً.
الساسة العراقيون الذين اتهموا بارزاني ـ الاستفتاء بالخيانة ومساعي الانفصال وخدعوا العراقيين وحرضوهم عليه، ذهب إليهم بارزاني الشجاع بنفسه بعد ذلك وزارهم في بيوتهم ومقرات إقاماتهم في بغداد نفسها ليكشف نفاقهم وزيف ادعاءاتهم بحقه أمام العراقيين الذين شاهدوا أولئك القادة وهم يستقبلون بارزاني الشجاع (الذي حاربوه واتهموه) استقبال المنتصرين واستقبال الرؤساء (مع أنه كان خارج أي منصب رسمي) حين مدوا له البساط الأحمر، علماً أن بعض هؤلاء كانوا يطالبون بمحاكمته بسبب الاستفتاء. الذين حاربوا هذا القائد الحر الشجاع قبل عامين وهو رئيس إقليم عادوا فيما بعد لاسترضائه وفرشوا له بساط الرؤساء وهو فقط رئيس حزب.
هذا هو بارزاني الذي قرر قبل عامين الابتعاد عن أي منصب رسمي حفاظاً على الإقليم وشعبه ومكتسباته ولسد الذرائع أمام القريبين والبعيدين الذين أرادوا إلحاق الأذى بالكوردستانيين، في الوقت الذي تشبث خصومه ومنتقدوه بكراسيهم وقاتلوا من أجلها حتى أهلكوا شعبهم وضيعوا دولتهم. لهذا نال مسعود بارزاني إعجاب الجميع، خصوصاً أنه ترك كرسي السلطة جانباً، ولكنه لم يتخل عن مسؤولياته كقائد تجاه شعبه حتى هذه اللحظة، وأثبت بذلك أن همه هو خدمة ذلك الشعب سواء أكان في موقع رسمي أو خارجه. وفي هذا درس بالغ لمن أراد أن يتعلم.
على الرغم من كل الضغوط التي مورست عليه من قَبلُ ومن بَعدُ وعلى الرغم من ابتعاده عن أي منصب رسمي لم يتنازل بارزاني عن أي من المبادئ والطموحات التي وعد بها شعبه. وهذا ما أكده نوري المالكي في مقابلة مع قناة إيرانية (بعد زيارة بارزاني بغداد عقب الانتخابات الماضية) عندما قال: “بارزاني لم يتراجع عن موقفه من حق تقرير المصير لكوردستان وعن التزامه بنتائج الاستفتاء الذي أجراه لهذا الغرض… وخلال الاجتماعات التي عقدها (بارزاني) لم يصرح بأنه تخلى عن مسار الاستفتاء نحو استقلال كوردستان العراق”. وهو ما أكده بارزاني نفسه بعد تلك الزيارة عندما قال: “إن أي موقف أو خطوة من جانبنا لن يكون على حساب المبادئ والأهداف الاستراتيجية لشعب كوردستان” في إشارة إلى أولوية مصلحة الشعب الكوردستاني في كل خطوة يخطوها أو قرار يتخذه أو تحالف يعقده مع هذا الطرف أو ذاك.
بارزاني بعد تخليه عن المناصب الرسمية زاره كبار الشخصيات السياسية من الدول الفاعلة في ملفات المنطقة، وكان آخرها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ثم نظيره الفرنسي جان إيف لودريان. وهذا دليل على أن قيمة بارزاني ليست في المنصب الذي يشغله، بل في ما يتصف به من خبرة وحكمة وشجاعة وإخلاص. وهو في كل لقاءاته مع قادة العالم لا يتباحث مع صناع القرار حول وضع إقليم كوردستان فقط بل يقوم دائماً بإطلاع الشركاء والأصدقاء على وضع الكورد في كل مكان ويوصيهم ويحثهم على أن يكونوا دائماً على جدول حساباتهم.
كان إصرار بارزاني على الاستفتاء رغم مخاطره المعلومة شجاعة، وكان رفضه طلب تيلرسون ودول الجوار بإلغاء قرار الاستفتاء شجاعة، وكان رفضه لإلغاء نتائج الاستفتاء وفاء للشعب واحتراماً لإرادته شجاعة، وكان زهده بأي منصب رسمي شجاعة. كما كانت زيارته فيما بعد لخصومه في بغداد شجاعة. قالوا إنهم سيلقون القبض على بارزاني وسيقدمونه للمحاكمة فذهب إليهم بنفسه وزارهم في دورهم ومقارهم هناك.
تلك الشجاعة استمدها بارزاني من شجاعة شعبه الذي أثبت بدوره للقريب والبعيد في الانتخابات التي تلت إجراء الاستفتاء وغزو كركوك أنه متمسك بحقوقه المشروعة وأنه يقف مع القائد الذي يعمل مخلصاً لنيل تلك الحقوق والذي يمتلك الشجاعة لاتخاذ قرارات مصيرية تخدم شعبه بالقدر الذي يمتلكها لترك موقع القيادة إذا كان في ذلك وحدة شعبه وسلامته. تلك هي الشجاعة التي لا يعرف معناها كثيرون.
بارزاني الذي امتلك كل تلك الشجاعة للقيام بكل ذلك أكد للقاصي والداني أن السلطة بالنسبة إليه من سَقْط المتاع وأنها عنده وسيلة لتحقيق هدف نبيل يسعى إليه وليست غاية في ذاتها، وأنها تكبر به ولا يصغر بدونها أبداً.