القاضي رياض علي
ليس غريبا أن نبدأ بهذا العنوان المثير للاستغراب طالما أن الأمم المتحدة قد أصبحت أداة طيعة في يد دول اشتركت مع النظام السوري في قتل وتهجير السوريين، وتدمير آمالهم وأمعنت في تعميق جراحهم، وأعتقد أن القارئ يعلم أن المقصود هنا هي دولة الاتحاد الروسي، هذه الدولة التي شاءت الظروف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في أن تكون من عداد الدول المنتصرة، وبالتالي تكون بين الخمس الكبار الذين أعادوا هندسة عصبة الأمم المتحدة، وأطلقوا عليها اسماً جديدا هو هيئة الأمم المتحدة بموجب ميثاق جديد كُتِبَ في سان فرانسيسكو عام 1945 ومَنحَ هؤلاء الخمس المنتصرين ومن بينهم روسيا خليفة الاتحاد السوفيتي أنفسهم حق النقض الفيتو،
هذا الحق الذي استخدمته روسيا في الحرب السورية فقط 13 مرة، لتمنع أي قرار لصالح الشعب السوري حتى لو كان متعلقا بإيقاف الحرب لمدة محدودة، أو بإدخال المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة التي اضطر الكثير من قاطنيها إلى أكل الحشائش قبل أن يفقدوا حياتهم بسبب الجوع والعطش وانعدام الأدوية، تحت أنظار الأمم المتحدة التي نشأت لتحقيق “رفاه الشعوب” وفق ما ورد في ديباجة ميثاقها.
وعملت روسيا على إفشال الأمم المتحدة في عدم إيجاد حل سياسي للمسألة السورية، وذلك بسبب دعمها المستمر لتعنت النظام ورفضه الجلوس على طاولة الحوار بشكل جدي، مع الاتكاء على عدم وجود الرغبة الجدية لدى المجتمع الدولي في الحل، أو على الأقل اللامبالاة وغض النظر عن كل ما يجري، كون أبرز الفاعلين في هذا المجتمع وجدوا أن مصالحهم تتقاطع مع مصالح الإتحاد الروسي، فنشطت البازارات والصفقات بهذا الخصوص، ومنها ما كانت تتم على الأرض السورية نفسها، كما هو حال سيطرة تركيا على أجزاء من الشمال السوري وإدارة المؤسسات في تلك المنطقة، وكذلك حال تدخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وإقامة قواعد عسكرية لها على الأراضي السورية بحجة محاربة الإرهاب والتطرف، مع ترك الحبل على غاربة لصانع الإرهاب وخالقه ألا وهو النظام السوري، وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل التي أمَّنت حدودها بشكل أكبر ولمدة أطول مع سوريا، ومنها ما كان يتم خارج الأرض السورية لكن على حساب استمرار معاناة أهلها كصفقة صواريخ إس 400 بين تركيا وروسيا.
وبعد أن تأكدت روسيا من هذا الفشل صارت تلعب بالوقت لإطالة أمد الأزمة لصالح النظام السوري، الذي ازدادت قوته العسكرية وبدأ يستعيد الكثير من الأراضي التي خرجت من سيطرته بفضل الداعمَين، الإيراني والروسي، وابتدعت مع الدول الأكثر تدخلا في الأرض السورية ( تركيا وايران) مسارا جديدا هو مسار الأستانة، هذا المسلسل الذي وصل عدد حلقاته حتى الآن إلى 13 حلقة، حيث أغرت روسيا المعارضة لسورية بما أسمته باتفاقيات “خفض التصعيد” والتي كانت نتيجتها قضم النظام السوري للكثير من المناطق التي خرجت عن سيطرته، طبعا وبدعم عسكري روسي وإيراني مرة أخرى، وسكوت الضامن التركي مقابل السماح له بالاستحواذ على عفرين وأعزاز بحجة حماية أمنه القومي، وكانت الهدف المعلن من مؤتمرات آستانه هي مناقشة الملفات العسكرية فقط دون التدخل في الحل السياسي، كونه من المفترض أن هذا المسار يبحث في جنيف تحت مظلة الامم المتحدة، ومع ذلك لم تتوان روسيا عن توزيع مسودة دستور أعدته على المجتمعين في آستانه، لكن لم تتم مناقشة هذه المسودة بسبب رفض المعارضة الدخول في أي نقاش حولها إلا بعد تطبيق شامل وكامل لاتفاق وقف اطلاق النار، لذلك عادت روسيا وأدرجت موضوع المعتقلين والمفقودين كي تكون على طاولة التفاوض إضافة إلى الموضوع الرئيس وهو “خفض التصعيد” مع إنه من المفروض أن يكون هذا الملف (المعتقلين) غير قابل للتفاوض بل هو أسمى من ذلك، لاسيما وانه يتعلق بمصير أناس مدنيين معتقلين ومفقودين بسبب آرائهم السياسية ومنهم أطفال ونساء، ومع ذلك لم نر أي تقدم في هذا الملف، بل على العكس من ذلك أرسل نظام الأسد قوائم تضم أكثر من ثمانية آلاف اسم من المعتقلين الذين توفوا تحت التعذيب إلى مديريات السجل المدني ليتم تسجيل وفاتهم، في إشارة واضحة إلى أنه لا يعير أي اهتمام للمفاوضات الجارية لا في آستانة ولا في جنيف، بل وازدادت وتيرة الاعتقالات وبشراسة أكبر، واتضح فيما بعد أن الهدف الحقيقي من كل تلك المفاوضات هو المماطلة ومحاولة سحب المزيد من الملفات من تحت عباءة الأمم المتحدة.
ونتيجة لتوقف عجلة مسار جنيف أو بالأحرى دورانها بدون فائدة تذكر، ابتدع المبعوث الأممي الخاص لسوريا السيد ستيفان ديمستورا في جولة جنيف الرابعة السلال الأربع (الانتقال السياسي، العملية الدستورية، الانتخابات، الإرهاب) وكان من المفترض البدء بإنشاء هيئة حكم انتقالي كي تقوم الأخيرة بإيجاد البيئة الآمنة والمحايدة لتطبيق السلال الثلاث الأخرى، لكن لم تجر الرياح وفق ما تمنى المبعوث الأممي وبقيت المفاوضات تراوح مكانها بسبب رفض وفد النظام الدخول بمناقشة سلة هيئة الحكم الانتقالي قبل سلة الإرهاب، والأخيرة تمت إضافتها أيضا بطلب من النظام ليستفيد منها لاحقا في تعطيل العملية التفاوضية، وهنا أيضاً تدخلت روسيا لتحاول فرض مسار جديد مهمته الانطلاق بالعملية الدستورية، بعد أن فشلت في فرضه في آستانه، وأقصد هنا مسار سوتشي والذي حظي بمباركة تركية إيرانية، والذي نتج عنه فكرة إنشاء لجنة دستورية موزعة بين النظام والمعارضة وممثلي المجتمع المدني الذين كان من المفترض أن تسميهم الأمم المتحدة، لكن الدول الثلاث الضامنة استطاعت مرة أخرى سلب هذه الورقة من الأمم المتحدة وقامت بتسميتهم، بالإضافة إلى استبدال بعض الأسماء في قائمة ممثلي المعارضة والموافقة على البقية.
وهكذا تم اختزال العملية السياسية كلها باللجنة الدستورية التي أثارت الكثير من الانتقادات في طريقة تشكيلها ومشروعيتها ومهامها واختيار أعضائها، إلا أن الأمم المتحدة باركت هذه العملية وبادرت إلى الإعلان عن تشكيل هذه اللجنة، التي لم يكن لها (الأمم المتحدة) أي دور يذكر في تشكيلها، بل لعبت روسيا بالتعاون مع الدولتين الضامنتين هذا الدور وأدته بما يخدم مصالح النظام ويساعده في تثبيت أركان حكمه في الفترة المقبلة، أي الفترة التي ستشهد نقاشات عقيمة بين أعضاء اللجنة في غرف الأمم المتحدة في جنيف، بدليل أنه وحتى بعد إعلان تشكيل اللجنة وتحديد آليات اتخاذ القرارات داخلها وما إلى هنالك من تفاصيل تُعزز فرص بقاء النظام لفترة أطول، لم يتوقف نظام الأسد وداعميه روسيا وإيران عن قصف المدن والقرى الخارجة عن سيطرته وما يخلفه هذا القصف من سقوط ضحايا مدنيين وتدمير للبنية التحتية، ناهيك عن طريقة التصويت داخل اللجنة والتي ستجعل من تمرير أي مقترح صعباً للغاية إن لم نقل مستحيلاً.
وما إعلان الأمم المتحدة بتحقيق خرق في السبات الذي خيَّمَ على العملية التفاوضية سوى محاولة يائسة للتملص من مسؤولية عجزها عن إيجاد الحل طوال السنوات الماضية، وبالتالي التخلص من الحرج الذي وجدتْ نفسها فيه بسبب البلطجة التي تمارس عليها من قبل دولٍ أعضاء فيها من المفترض أن مهمتهم هي “الحفاظ على السلم والأمن الدوليين” لا زعزعته، وان افترضنا جدلاً انه قد تم هذا الخرق، فانه كان من مخرجات مؤتمر سوتشي ومن قبله وبعده الآستانة، ورأت الأمم المتحدة أن تبني تلك المخرجات على علَّاتها وكوارثها أفضل من الإعلان عن حالة الفشل الذريع الذي مُنيتْ به، وألبسوا تلك اللجنة ثوب القرار 2254 وبيان جنيف لعام 2012 مع إن تشكيلها ومنحها الأولوية على هيئة الحكم الانتقالي يتناقض تماما مع القرار والبيان المذكورين، وهكذا حاول مسار جنيف الذي يتم برعاية الأمم المتحدة الاحتماء بمساري الآستانة وسوتشي حفظاً لماء الوجه لا أكثر.