لا تجعلوا الميْت وسيطاً لكم

إبراهيم محمود
تابعتً البارحة ” الجمعة 25-10/ 2019 ” عبر قناة ” رودادو ” التلفزيونية، مشاهد من مراسيم دفن المرحوم عبدالحميد درويش، كغيري طبعاً. عاينتُ حجم الحشود المشاركة فيها. وجوه كثيرين، أعينهم، . والأهم ما تردد على ألسنة من ألقوا كلمات، أو أفصحوا عن شيم كرديتهم، وما يجب أن يكون عليه الكرد، والعمل بوصية المرحوم. إذ بمقدار ما تفاعلت مع كل ذلك، بمقدار ما برزت مخاوفي. فلا يجب أن يكون الميْت وسيطاً ليظهر المعزّون استعدادهم ليوم جديد، فكلام الميت ميْت، كما لو أن الوارد على لسانه، أو ما عبَّر عنه في لحظة الغرغرة، أو قبل وداعه الأخير، يعرّف به غير ما كان عليه على مدى عقود طويلة جهة الموقف السياسي، وكيفية تصريف الكردية قولاً وفعلاً، أي ما كان يعرَف به، وليس لأنني بذلك أقوم بنقد للحالة، إنما أذكّر بما يجب ألا يُنسى. 
إذ على الذين شدّدوا في نبرات صوتهم تأسّيهم وحماسهم لكردية منتظَرة، أن ينظروا في عيون بعضهم بعضاً، ويدَعوا من رحل، أنَّى كان. فما أكثر حماس من يشاركون في حالات كهذه: حيث تفصح ملامحهم، وتعبّر طريقة تهجئتهم للكلمات، كما لو أنهم لم يكونوا قبل حضور هذه اللحظة المؤقتة. كلٌّ منهم يعرّف بنفسه كردياً جديداً، وهو يتكلم بصوت لا يخلو من حزن، من تأثر بالموقف ” الموتي ” وينظر في ” اللاأحد ” ليكون هو ” الأحد ” الذي يكون داعية الكردية غير المسبوقة، واعيتها، رائدها، والمجسّد لها.
وإذ أتحدث بالطريقة هذه، فليس من باب التقليل لما كان عليه المرحوم من حضور في النفوس، واختلاف مواقف، إنما ما يظهر عليه المعزّون أو المرئيون تلفزيونياً، وما يتقدّمهم في كلماتهم، في نظراتهم، من حركتهم من معان دالة، لا يخطىء الناظر إليها بأنها كردية مغوارة، واعدة، مصممة على ما تقول، وتدْعو إليه .
هي لحظة ” الإقامة في غرفة العناية المشددة ” وقد رقت القلوب، ورهفت العواطف، وبرز الدمع في مؤاق العين رقراقاً، والحزن الوداعيّ، تعبيراً عن حالة غير مألوفة. سوى أن مكاشفة بسيطة لها، تعلِم بما هو الكردي معتاد عليه، ولكم أتمنى ألا تكون هذه الحالة نظيرة ما اعتاد عليه كردنا، ما تعودا في قوله، ألا يكونوا أمناء عادة، إنما أهل الآتي.أي ما يستحضر الندم في حضرة الألم، وما يجعل من الألم عرّاب الكلمة الملفوظة والوجه الناظر وسيماء المشهد المنسوب إلى الموت وليس الحياة.
في برزخ العلاقة هذه، بين حياة نفد رصيدها أو كاد، وموت يستدعي ما يناسبه من ضعف، ومن تأسفات ما سبق، وتغيُّب أو غياب لما كان عليه من تفاعل نفسياً مع الموقف العائد إلى سطوة الموت، لا يحسَب المرئي والملفوظ لحساب حياة، إلا لمن أخرج رأسه من التاريخ الحي.
في ضوء ذلك، يمكن لأي ملاحظ، وهو شاهد مواقف كثيرة كهذه، أن يربط بين حلقة وأخرى تخص الذين رحلوا، وما رافقها جميعاً من وعد بما يجب أن يكون. أعني الدعوة إلى وحدة كردية، والعمل بموجب وصية الميت. لتكون لدينا مفارقة كبيرة، وتظهِر في مأساة اللحظة مأساة متفاقمة، لها عراقة في تاريخ الكرد، في نفوسهم، في طريقة تفكيرهم، في تعابير وجوههم، في لحظة غفلة مما هم عليه واقعاً، لحظة تعرّف بهم بشراً من نوع آخر، ليسوا شقاقيين، أو متفرقين، أو متخاصمين، وعلى وقْع ” اذكروا محاسن موتاكم ” يتم ذكر محاسن ما هم مقدِمون عليه.
والقادم بعد أقل من أيام معدودات، سيكون الحكَم الفصل، ما إذا كان الذين شاركوا في الجنازة، حتى وهم في الطريق إلى دفن المرحوم، موحدين من الداخل، أم أن كلاً منهم، سوف يرسم وجهاً للكردية المنتظرة، وعليه إمضاءة شخصية له، تؤكد خاصية حزبه، أو ” جماعته ” وهو إرث ثقيل ومكلِف ومستنزِف قوى كردية كثيرة، وشاهد عيان تمزقاتها حتى اللحظة.
هل سيفعلها كردنا هؤلاء ؟ أن يكونوا أوفياء لما عاهدوا ” ميْتهم ” عليه؟ لكم أتمنى ذلك ..!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تُعتبر الدساتير المرجعية القانونية الأسمى في الدول، حيث تحدد شكل النظام السياسي، وتؤطر العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتؤسس لمبادئ المواطنة والحقوق والحريات. غير أن بعض الدساتير، ومنها مشروع الدستور الجديد للجمهورية السورية، التي يقدمها الدستور بأنها” الجمهورية العربية السورية” يحمل في طياته تناقضات جوهرية بين النصوص المعلنة والغايات الفعلية التي تهدف السلطة إلى تكريسها، بتدبير تركي…

د. علي القره داغي الحمد لله الذي جعل التوافق بين أبناء الأمة من أسمى الغايات، ورفع من شأن العدل والمصالحة، وأمر بالحوار والائتلاف، وجعل السياسة الحكيمة قائمة على العدل والإحسان والموازنة بين المصالح والمفاسد، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. في سياق المسؤولية الشرعية، والواجب الفقهي، والتقدير…

صلاح بدرالدين تحية طيبة الموضوع: اتفاق الشرع – عبدي بعد سقوط نظام الاستبداد في الثامن من كانون اول / ديسمبر الماضي ، والانتقال الى مرحلة جديدة ، بات ترتيب البيت الكردي السوري ، وتجاوز الانقسامات ، وتحقيق المصالحة ، والتوافق على مشروع قومي – وطني موحد في مقدمة أولويات مهام المرحلة الراهنة ، وهي الى جانب كونها مطلب…

إبراهيم اليوسف   لقد أصيب ملايين الكرد السوريين كما أخوتهم السوريين، داخل الوطن وخارجه، بخيبة أمل كبيرة بعد تلقيهم مسودة الدستور السوري الجديد التي أقرت من قبل السيد أحمد الشرع، دون أن تتضمن أي إشارة إلى الكرد أو حتى مضمون الاتفاق الذي تم مع السيد مظلوم عبدي. ذلك الاتفاق الذي أثار جدلاً واسعاً في الشارع الكردي بين رافضين لم يجدوا…