إبراهيم محمود
من المتداول أن الأخضر علامة الحياة وديمومتها. ومجمل الأخضر: في النبات: شجره وعشبه، يشدنا إليه، ويمنحنا حيوية وتفاؤلنا وراحة أعصاب. غير أنني من الصعب تذكُّر مثال واحد، مرئي في الحياة، استبقى فضيلة ما لهذا الأخضر، من خلال ما عرِف ويعرَف بالأخضر الكاكي، الذي لا يرمز في غالبه إلى سلطة متنفذة، وإنما إلى سطوته وبطش مرتديه.
ونحن طلاب مدرسة، كانوا يرغموننا على لبس هذا اللون، وكان مدرس الفتوة، في المرحلة الثانوية، وهو لابس السدارة لتحديد المنظور، يتعامل معنا بفوقية عالية. وفي الشارع، نلتقي بهذا الرجل أو ذاك، وهو يرتدي اللباس العسكري، ويتمنطق بالمسدس، وأي تركيز عليه يعرّض الناظر إلى محاسبة أو ما يندم عليه طويلاً.
وكانت المؤسسة العسكرية غارقة في هذا الأخضر، ولها الكلمة المطلقة، لتكون القائمة الكبرى من مآسينا، في الانقلابات العسكرية، وحالات البطش، وصورة المحقّق، والصورة المعلَّقة على الحائط، تحمل دلالة صارمة، تقوم على التهديد والوعيد.
ويمكن توسيع دائرة هذا المفهوم الذي ابتليَ بمرتديه عدا عن الألوان الأخرى في السطوة والهيمنة والقسوة، في مختلف مجالات الحياة. فبدلاً من أن ترتاح العين لرؤية الأخضر، إذا بشارة تنبيهية تمضي إلى ما وراء النظر، ويأتي رد الفعل في الحال، لترمش العين، أو تضطرب، ويعم الاضطراب جسد الناظر.
فيكون هذا اللون حكراً على من لهم نفوذ مشرَّع، كما لو أنه خارج نطاق الحياة، إذ إنه من النادر رؤية من يلبس أخضراً كهذا ” بذلة، مثلاً “، إما لأن هناك رد فعل إزاء الأخضر ذاك، أو إدراكاً لموقف الآخر: ذي السطوة، ورد فعله، كما لو أنه ارتكب جنحة بارتداء ما يخص المتعالي عليه، إلى درجة الانتحال، بطريقة ما، أو أن الأخضر يشد إلى ما هو طبيعي، وفي هذا خلاف واختلاف جهة التمايز.
نعم، علَّمنا الأخضر ونحن صغار، كيف نقول نعم، للأكبر منا، حتى لو أن هذه تصيبنا مقتلاً.
وعلَّمنا الأخضر ونحن كبار، كيف نحسب للأخضر ألف حساب، لئلا ينالنا ما لا نتمناه.
وأكاد أقول، أن اللون الأخضر في تدرجاته، وفي منطقتنا، وحيث يقيم الكرد، من الصعب إيجاد استثناء له، دون أخذ بعد سلطوي، أو آمري في الحسبان.
إنما المرعب في العلاقة، ليس أن هذا الأخضر يشكّل، وهو بدالته الطبيعية، قامع الألوان الأخرى، رغم أنه كلون، غير موجود، بل مزيج من الأصفر والأزرق، فيجري احتكار الطبيعة عينها، وإلحاقها بهذا المتشكل سياسياً. أقول، ليس أن هذا الأخضر يشكل، في متداوله اليومي فاعل عنف، أو منبهاً لاستثارة الأعصاب، وإنما عرّاب موت، عرّاب مآس، عرّاب أوجاع. ففي ظله، أو من خلاله، يمكن تخيل أنهار من الدماء التي تراق، وليس من نهاية مصب لها، لينقلب الأخضر غولاً، لا يبقي ولا يذر. وما يترتب على كل ذلك من تسطيح المواهب، وصعوبة ظهور من يفكّر كما يجب، وينام كما ينام، ويحلم ما يسر كما يجب…!