د. ولات ح محمد
قبل أيام مرت الذكرى الثانية للاستفتاء الذي أجراه إقليم كوردستان في الخامس والعشرين من أيلول سبتمبر 2017 لمعرفة موقف الكوردستانيين من الاستقلال عن العراق. وقد سبق هذه التجربة ورافقها وتبعها جدل كثير. الغالبية العظمى من الكورد داخل الإقليم وخارجه أيدوا إجراء الاستفتاء ووقفوا معه ووجدوا فيه لحظة تاريخية في حياتهم، لكن قسماً آخر منهم (بدوافع مختلفة) رأى فيه مغامرة غير محسوبة في توقيت غير مناسب، ووصفوها بالتجربة الفاشلة. وهو الوصف الذي لطالما رددته وسائل إعلام عربية كلما جاء ذكر الاستفتاء، إذ تقول: “الاستفتاء الفاشل الذي أجراه إقليم كوردستان”. فهل كان الاستفتاء حقاً تجربة فاشلة؟.
الكورد الذين وصفوا التجربة بالفاشلة سوغوا موقفهم (بغض النظر عن الدوافع) بثلاثة أسباب أساسية: الأول أن الاستفتاء لم يؤدّ إلى قيام دولة كوردية. الثاني أنه جاء من وجهة نظرهم في توقيت خاطئ. أما الثالث فهو أن الاستفتاء تسبب في فقدان الكورد لبعض مكاسبهم بخسارتهم كركوك ومناطق أخرى. إضافة إلى أعداد الضحايا والمهجرين من الكورد جراء العملية العسكرية للجيش العراقي والميليشيات المرافقة له ضد كركوك وغيرها. وبغية الوقوف عند مفهوم “الفشل” في مثل هذه التجارب سنقوم في السطور القادمة بإجراء مقارنة سريعة بين تجربة الاستفتاء و”أنجح” تجربة في تاريخ الكورد الحديث (جمهورية مهاباد)، وذلك من حيث الخسائر والنتائج الإيجابية على حد سواء.
جمهورية مهاباد التي تم الإعلان عنها في أوائل 1946 قام الجيش الإيراني بالقضاء عليها في أواخر العام نفسه بعد أن ضمن سكوت الاتحاد السوفييتي آنذاك. وقد كان من نتائج التجربة إعدام رئيس الجمهورية مع الكثير من رفاقه الذين خاضوا معه تلك المغامرة، ووضع آخرين في السجون وفرار قسم آخر. وقد تعرض عموم الكورد نتيجة ذلك لأعمال القتل والتهجير والتضييق والملاحقة والسلب والنهب. كما أنهم فقدوا حالة السلم التي كانوا يعيشونها وصاروا مباشرة تحت سلطة العسكر الإيراني.
وفق هذه النتائج هل يمكن اعتبار قيام الجمهورية الكوردية تجربة ناجحة؟. وإذا كانت الخسائر كبيرة إلى هذه الدرجة، فلماذا يحتفل بها الكورد سنوياً ويفتخرون بقادتها وبما فعلوه؟. هل يحتفلون ويفتخرون بذلك “الفشل” والانكسار وبتلك الإعدامات وبذلك التهجير للأهالي الذي سببته “مغامرة” القائد قاضي محمد؟. وهل يكتبون عبارات الثناء بحق تلك التجربة وبحق قائدها مكافأة له على “فشله”؟.
من المؤكد أنه كان هناك من الكورد من اعترض على إعلان قاضي محمد جمهورية كوردستان بتلك الصيغة وفي تلك الظروف، وأن المعترضين وجهوا ـ بعد سقوط الجمهورية ـ سهامهم إلى القائد وإلى “مغامرته الفاشلة” وراحوا يقدمون الكثير من التنظيرات كما فعل بعضهم بخصوص الاستفتاء. ولكن الكورد يرون اليوم تجربة (مهاباد) الأفضل والأبرز في تاريخهم، يقرؤون عنها ويفتخرون بها، على الرغم من أنه لم يبق منها شيء على الأرض وأنها أدت كغيرها إلى نكسة للكورد وخسائر كبيرة.
الكورد اليوم كذلك لا يقولون إن مهاباد كانت مغامرة من شخص أو أشخاص في غير وقتها المناسب وإنها كانت ضحية حساباتهم الخاطئة وعدم تقديرهم للتوازنات الدولية وتحالفاتهم الآنية الهشة، ولا يقولون إن قاضي محمد لم يحسب أن روسيا قد تتخلى عنه وعن جمهوريته في لحظة ما، بل يستشهدون بأقواله وينشرون صوره ويفتخرون بتجربته. وهو أمر طبيعي لأنهم يحتفلون بالجانب السار من التجربة الذي يعبر عن الإرادة الحرة للشخصية الكوردية ويتركون الجانب المؤلم بوصفه ثمناً طبيعياً لأي نضال يخوضه أي شعب في أي زمان وأي مكان.
إذا كان مقياس نجاح حركات الشعوب هو فقط تحرير البلدان أو إقامة الدول فإن الغالبية العظمى من تلك التجارب فاشلة؛ فثورة أحمد عرابي مثلاً في مصر وإبراهيم هنانو في سوريا وعمر المختار في ليبيا ورشيد عالي الكيلاني في العراق وغيرها كثير لم تحرر بلادهم من الاستعمار، بل تم القضاء عليها ولم يبق منها شيء وكانت أثمانها باهظة. ومع ذلك تعتبرها تلك الشعوب صفحات بيضاء في تواريخها وتعبيراً عن إرادتها وتوقها إلى الحرية والاستقلال. من هذه الزاوية كانت محاولات محمود الحفيد وقاضي محمد وشيخ سعيد والملا مصطفى البارزاني وغيرها تجارب فاشلة في حينها من حيث النتيجة على الأرض، ولكنها جزء مشرف من التاريخ الذي يحتاجه أي شعب كي يمضي إلى الأمام. هذا هو مقياس النجاح هنا، ولهذا يحتفل الكورد بهؤلاء جميعاً وبمهاباد وبقائدها أيضاً.
خطوة الاستفتاء من جهتها كانت حلقة ضمن سلسلة التجارب والمحاولات الكوردية المستمرة، وتشترك معها في ما خلفته وراءها من مآسٍ وخسائر. ولكن ما يميز الاستفتاء عن غيرها من التجارب (وخصوصاً مهاباد) هو أن الأخيرة قامت في ظروف وانتهت في ظروف ولن يترتب عليها شيء ولم يبقَ منها إلا ما تروي كتب التاريخ. أما نتائج الاستفتاء فإنها ليست كياناً يمكن إزالته والقضاء عليه، بل ورقة وأرقاماً محفوظة في خزائن الكورد وسجلات الهيئات العالمية وإنجازاً يمكن البناء عليه في أي ظرف قادم. أضف إلى ذلك أن تجربة الاستفتاء حققت للشخصية الكوردية على الصعيد المعنوي مجموعة من المكاسب والمزايا لم تحققها التجارب السابقة، ويمكن أن نوجزها في النقاط الآتية:
1ـ اتخاذ قرار إجراء الاستفتاء كان كوردياً ومعبراً عن إرادة كوردية خالصة، وليس بدفع أو تحريض من أحد، بل واجه اعتراضاً من كل الجهات. وقد كشف ذلك عن إرادة الكوردي الحرة وعن شخصيته السياسية القوية وعن إيمانه القوي بحقه المشروع.
2ـ تنظيم إجراءات الاستفتاء وإدارتها كان كوردياً خالصاً وتم بنجاح باهر. وقد أثبت الكوردي بذلك قدرته الفائقة على تنظيم شؤونه الذاتية وإنجاحها إدارياً وأمنياً وعلى قدرته على التواصل والتنسيق مع المنظمات الدولية ذات الشأن رغم كل الصعوبات.
3ـ ذهب الكوردي لأول مرة إلى صناديق الاقتراع للتصويت على تقرير مصيره.
4ـ نبه الاستفتاء العالمين القريب والبعيد من جديد على قضية شعب يقيم على أرضه التاريخية، وعلى حقوقه المشروعة التي كادت أن تصبح في طي النسيان وأن تقتصر في أحاديث العالم فقط على قضية حقوق المواطنة.
5ـ أعاد حدث الاستفتاء القضية الكوردية من جديد لدائرة اهتمام العالم وجعلها لمدة أسابيع أحد المحاور الأساسية في الإعلام العالمي. ناهيك عن استعراض ذلك الإعلام لتاريخ الكورد وأهم محطات نضالهم. إضافة إلى المناقشات التي تمت بهذا الخصوص في برلمانات أوربية وأمريكية.
6ـ أثبت الكورد من خلال خطوة الاستفتاء أنهم من أجل نيل حقوقهم انتقلوا من الكفاح المسلح الذي خاضوه بجدارة لعقود إلى النضال السلمي والمدني والدبلوماسي، وأنهم كما أثبتوا مقدرة في الأول قادرون على خوض الثاني بنجاح. وفي هذا رسالة إلى العالم تكشف الهوية السلمية والحضارية لهذا الشعب العريق.
7ـ أثبتت نتيجة الاستفتاء (93%) أن كوردستان مستقلة هي رغبة الغالبية الساحقة من الكورد وحلمهم الذي لن يموت مهما طال الزمن وتغيرت الظروف، وأنها ليست فقط طموحاً شخصياً لبعض القادة الكورد كما تروج الأنظمة الحاكمة.
8ـ صوّتَ عدد كبير من غير الكورد (عرب، آشوريين وغيرهم) لصالح الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها. وهو ما يحدث لأول مرة ويدل على أن حل القضية الكوردية لا تخص الكورد وحدهم، بل تشمل كل الشعوب المتعايشة معهم وأن تلك الشعوب تؤيد حصول الكوردي على حقوقه المشروعة، وأن المشكلة فقط في الأنظمة الحاكمة التي تتاجر بعواطف الناس وتعمل على بث الفرقة والعداء في نفوسهم تجاه الآخر.
9ـ الاستفتاء في جنوب كوردستان فتح الطريق أمام الكورد في جغرافياتهم الأخرى للذهاب إلى هكذا إجراء عندما تكون ظروفهم ملائمة وأوضاعهم تتطلب ذلك، ووضعَ الأنظمة الحاكمة تحت ضغط هذا الاحتمال.
مقياس النجاح والفشل في الثورات والانتفاضات ومحاولات التحرر ليس ما تحققه فعلياً على الأرض ولا ما تتركه وراءها من خسائر، بل يكمن في كونها خطوة لا بد منها في مسيرة هذا الشعب أو ذاك. النجاح كامن في المحاولة ذاتها لأن الركون في حد ذاته هو الفشل. وإذا كان الكورد يفخرون بكل ثوراتهم وحركاتهم وبجمهورية مهاباد التي أصبحت أثراً بعد عين، فمن الطبيعي أن يفخروا بالاستفتاء لما يحمله معه من أثر للمستقبل.
هذا وذاك هو ما يميز الاستفتاء عن غيره من التجارب الكوردية، وتلك هي قيمته وخصيصته التي أشار إليها بعض كبار الساسة والمحللين آنذاك، ومنهم ستيفن كينغ العضو البارز في الكونغرس الأمريكي الذي قال في حينه لقناة كوردستان 24: “إن الشعب الكوردي نال استقلاله بالفعل بمجرد أن صوتت الغالبية لصالح الاستفتاء”. وهذا هو سبب السعار الذي أصاب أنظمة المنطقة آنذاك وسعيها الحثيث من أجل إلغاء نتائج الاستفتاء بعد أن فشلت في إلغائه بدايةً، ولكنها فشلت في الحالتين معاً ونجح الاستفتاء. فهل يدرك الكورد قيمته كما يعرفها الآخر القريب والبعيد؟.