ابراهيم محمود
16- بورتريهات وجوه
14″- وجه لوند داليني، والرهان على ألم الخريف
كيف يمكنني تجسيد ألم الخريف، أو كما يبدو لي ذلك، حيث أخصص هذه الحلقة عنه، باسمه؟ هل تخيَّل شخص ما يكون عليه ألم الخريف ؟ أعني بذلك ورقه الذي لا يتساقط، إنما دموعه المسطحة والتي ييبسها الفراق، وحنينه إلى أصله الذي يتمم رحلة العودة عبر التحلل في التراب والظهور مجدداً إلى شجره، وقد أكساه أخضرَه اليانع. الصديق الكاتب الفنان لوند داليني ” سيف داود،اسمه الفعلي ” خريفيّ المذهب، وإن شئت، فهو ينقّب فيه، ليعايش أخوته الفصول الأخرى.
ثمة مسافة تتطب جهداً لقطعها، حين يتحدث بوصفه كاتب قصة، أو قصيدة، أو رسام لوحة كردياً، وحتى في اهتمامه بما هو فولكلوري. بالطريقة هذه، يكون له ركنه الفني الأدبي.
سنين تسلسلت، ولقاءات تتابعت، حيث كان بيته، في ” حي القصور ” إنما مكتبه القريب من السوق على مرمى حجر من المشفى الحكومي القديم ” أيام زمان “، كان مكتبه، مكتب عمل، إنما شهد الكثير من تجاذبات أحاديث وطرب عند اللزوم ” أتذكر هنا ذا الصوت الجميل، واللحن الدفاق أبو حسن، أتذكر وجوهاً كثيرة كان لها إيقاعاتها الحياتية. تلاشى المكتب، تبلَّد الشارع، اختفى المشفى، تفرّق الصحب، حتى الصديق لوند أصبح في جهة أخرى: برتغالياً فألمانياً. وكان من مآثر الصدف أننا التقينا في هذا الصيف، كنّا ننقب في أوراق تبكي شجرها، وفي شجر يبكي ناشديه، ليُسمع كل منا للآخر ما يجد صاده في روحه، وكأن قامشلي تحملنا معاً طيّ صفاء كان.
فيما ينشغل به الصديق سيف، أعني به الفنان الكاتب أو الكاتب الفنان من اهتمامات بين أن يقيم علاقة مع التصوير الفوتوغرافي، أو اللوحة الفنية حيث تكون ألوانه وأدوات رسمه بين يديه، أو يخرج بعيداًعما هو فيه واقعاً، معايشاً خيالات خاصة، للقاء نص شعري، قصصي، أو خاطرة، فإنما يتجاوب مع ميل نفسي لديه إلى تطويع واقع، لا أظنه مأخوذاً بواقعيته. فما أكثر ما يؤلمه فيه، ومن هنا، تتلمس في لوحته قبل كل شيء، كما في المثال المذكور انغلاقاً على عالم، أعني به التعامل مع عالم يشكو عالَمه، ثمة أكثر من انتحار المرتجى، من نزيف لمستقبل، من آخر، هو كرديُّه، هو كائنه الإنسان المتعدد، ولم يعد هو نفسه، هناك تصدعات في لوحته، انقسامات واقع، حيث يتحرك الأصفر بتدرجاته، أو الأصفر الذي يصدُم بخروجه من نطاق اللوحة، كما لو أنه علامة تشهير بالواقع نفسه، وليس في مقدور أي كان، ببساطة، أن يأتنس بلوحته، مدركاً أمر نفسها في نفسها وزوبعية أصفره، بموازاة الواقع المقلوب، بإنسانه المقلوب والمغلوب على أمره، ويده على جمره.
بالمقابل، إذ تجالس الصديق سيف، تتلمس فيه مرحاً، وميلاً إلى الضحك، وفي حساب رؤيتي، يكون لهذه المفارقة مجالها الدلالي، وهو ما يريد من إطلاق ٍلعالمه، من سعي إلى التوازن، ومن محاولة مستميتة لأن يبقى أكثر انبناء.
في الجانب المضيء لهذه العلاقة، وأنا أرتد إلى خاصية الخريف ونزفه الخاص. لم أجد في بيته المنطوي على نفسه، ما يبعث على الفرح الذي ينعش يوم صاحبه، ومن يصغي إلى صمته، وهو جميل بمحتوياته، وما يقود الناظر إلى رموز وعلامات كردية: صوراً وفولكلوريات في الغرفة/ الملحق ببيته، حيث الواجهة الزجاجية تبقي الجالس فيه على اتصال بالخارج، وفي بهوه الأثري، ثمة شعور بالراحة، على وقع الحضور الجم واللافت لمقتنيات: صور، أدوات تتكلم الكردية. لكنه البيت وحيد، والحديقة الخلفية عارية أرضاً وشجراً، ولكم كانت تضحك بألوانها وعبقها وتناسقها سابقاً، وقد أصبح هو وعائلته خارجاً. كما لو أن أرضية الحديقة الهندسية، كما لو أن خلفية البيت ذات الفراغ الموحش، كما لو أن غرف البيت الصامتة بدورها، تبقي الناظر فيها مستمعاً إلى خريف من نوع آخر، يبكيه ورقه، كما يبكي هو ورقه، بكاء أكثر من كونه دمعاً، على أمل ما، ليعود الكساء الأخضر من جديد.
” ثمة الكثير مما يمكن سماعه، رؤيته، الارتحال إلى ماوراء المرئي والمسموع المقدار هنا. إنه فراغ وليس بفراغ وسط المرئي عالياً وما دونه. أردتُ من صورتي هذه تثبيتاً لكل ذلك، من هنا كانت الصورة “.
15″- وجه برهان محمود ” أبو شاكر ” الباحث عن وجهه