وجوه قامشلي التي لم تكنْها «في زيارتي السنوية إليها صيف 2019 »

 ابراهيم محمود
 
16- بورتريهات وجوه  
3″- وجه أبو نضال ” أنيس مديوايه “
لا أسهل من أن تجد من يخالفه في معتقده السياسي، من أن تجد من يختلف معه في موقفه الفكري من وسطه الاجتماعي والثقافي عموماً. سوى أن الذي يمكن التأكيد عليه، ولمن يحتكم إلى وجدانه التاريخي، هو أنه علَمٌ ثقافي وناشر للثقافة التي تغذّت عليها أجيال تتالت وعلى مدى عقود من الزمن، في أهم وأشهر مكتبة عرفتها الجزيرة، وقامشلي بالذات، وقد بلغ من العمر قرناً تقريباً، أعني به الأستاذ أنيس مديوايه، والمعروف في وسطنا بـ” أبو نضال “
بين بيته ومكتبته أمضى جل عمره، كما لو أنه يتنفس رائحة الكتاب، ويريد لقاء الآخرين، في مكتبته ” اللواء ” نسبة إلى لواء اسكندرون، حيث تعمدت ذاكرته الجغرافية بها، وفي موقع ملحوظ في أهم شارع رئيس في المدينة ” الجسرين”. ومن الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، التذكير من قبل أيّ كان، ممن يتعاطون الثقافة، ويتابعون قراءة الكتاب، ومنذ أكثر من نصف قرن، دون أن يأتي على ذكر هذه المكتبة، وكيف أن ” أبو نضال ” كان يعرض أهم العناوين الثقافية العربية الجديدة في مكتبته، وفي واجهتها: فكرية، تاريخية، فلسفية، أدبية، نقدية، وعلمية…الخ، عدا الصحف والمجلات التي تردُه من داخل سوريا وخارجها، وقد شكَّلت روافد لمن كوَّن في ذاته اسماً له طابع ثقافي، أو إبداعي، أو فكري عرِف به.
بوسع أي كان ” وهنا أستعيد ما بدأتُ به ” أن ينتقده في توجهه الحزبي ” القومي السوري “، وفي ربطه كل شيء بهذا الإيمان الحزبي، لكنه انتقاد لا يسد طريق إقامة علاقة مختلفة معه، من منظور اختلافي، وهو ما يمكن التشديد عليه راهناً أكثر، حيث التعدد الاثني في البلد، وثراء الثقافات المتعددة، وحيويتها، إن دقِّق فيها، يجيز، كما يعزّز مثل هذا التفاعل الحواري .
لا أتحدث باسم أي كان، إنما ما عشته في هذه المدينة، ما شممتُه من هوائها، وشربته من مائها، وتعلمتُ السباحة في ” خنيسها: ذات يوم ” وحتى ” جغجغها: ذات يوم ” وما حملته من غنى طبيعتها التي كانت تعج بالأخضر والماء النقي، وجمال الإنسان فيها، قبل أن تجف ينابيعها، ويتلاشى نهر خنيس، بمقدار ما يصبح جغجغ مجاريرياً، وتغور ينابيعها، وكأنها أعلنت حداداً على منطقة كانت تتباهى بحياة قل نظيرها في رقعة جغرافية أخرى، وها هي تشكو ظمأ ماء واعتبار مكان، وانحسار خضرة، وفجيعة إنسانها في نفسه، وفيما يعيشه أرضاً وسماء .
يشكّل أبو نضال ذاكرة مكانية، لا تخلو من طابع حكواتي بخصوص سرديات تاريخ المدينة، وليس من عبارة يقولها، إلا وتُرفَق بها ابتسامة، وهو ما يحفّز مقابله على التفاعل معه.
وما أقوله ليس انطباعاً، إنما حصيلة تاريخ طويل، فقاعدة مكتبتي الأولى تحمل بصمة مكتبته العامرة بعناوين شتى، عدا المجلات والجرائد التي كانت تأتي من جهات بعيدة ” أذكّر بـ” أنباء موسكو، الصين المصورة، مثلاً ” عدا العربية، وما أكثرها. ما أقوله لصيق بمراحل عمرية تجد رئتها الثقافية، على صعيد مصادقة الكتابة عبر باب مكتبته الواسع، مذ كنت طالب إعدادية، وهأنذا متعدّي الستين عاماً. أليس من باب الوفاء التذكير بذلك؟
وما ينبغي التذكير به، ولمن يريد المتابعة، هو أنني حين كنت في إعدادية عبدالأحد يونان، في قامشلي، أواسط 1985، طلِب مني أن أؤسس نواة مكتبة، فكان ما كان، إذ بـ” 400 ” ليرة سورية فقط، اشتريت أكثر من مائة كتاب، انتقيتها من المستودع في الأسفل، بأسعار زهيدة جداً، أسهم هو نفسه في ذلك. وفي مجالات شتى. تصوروا مفارقة المبلغ وعدد الكتب اللافت ! 
لكم استأنستُ به، وهو أنيس، حين توجهتُ إليه فكان كعادته خلف طاولته في مواجهة الباب، ومقابله الصديق الأستاذ بشير سعدي القيادي في المنظمة الآثورية الديمقراطية، الذي لطالما تبادلنا الزيارات في مناسبات مختلفة، ربما انطلاقاً من آصرة التنوع، والشعور بالحاجة الماسة إلى الآخر، وهو ليس سوى المقيم في الذات، فكان هناك عناق وحوار ودي، يصعب إيجاد نظيره راهناً. الغربة، قسوة الدائر، العمر المهدور، التفاعل الثقافي، الاحترام المتبادل.. عناوين سريعة أخرجتنا من زوابيق الدائر، وأودعتنا رحابة ما أردناه، وما استشعرناه راحة لنا معاً.
ربما كانت لحظة مؤاساة، لحظة غفلة من تاريخ صادم، من رصاص هواء يثقِل على الروح، ويبلسم جراحات، لا أظنها تجد متنفساً لها، وقرْب وعْد مأمول برأب الصدع.
هذه الصورة الملتقطة في مكتبه داخل مكتبته، أريدَ منها أن تكون اختلاساً لزمن، قد يؤاسي غربة، ولو لبعض حين، في مواجهة زمن، يزيد تعب العمر، ووطأةَ اللحظات، ونزف المكان فينا هنا وهناك، وللصورة الأخرى، في ثلاثيتها، أن ترفَق بالأولى، تعزيزاً للحظة الزمنية تلك، وتخفيفاً لقسوة الوحدة، الوحدة الاضطرارية، والانقسام في الروح.
سلام لك أبو نضال، تحية لك أستاذ بشير، محبتي لكما وسْع المكان الذي يثرينا معاً .
……. يتبع
4″- وجه سليم بركات، هل حقاً هو أخطر من الحزام العربي على القضية الكردية ؟؟!!
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه- لا كحرفة أو هواية- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة. لقد كنتُ- وما…

عبد الجابر حبيب ـ ذاكرة التهميش ومسار التغيير بعد عقدين من اندلاع الأزمة السورية، وتحوّلها من انتفاضة مطلبية إلى صراع إقليمي ودولي، ما زال السوريون يتأرجحون بين الحلم بوطن حر تعددي عادل، وبين واقع تمزقه الانقسامات، وتثقله التدخلات الأجنبية والمصالح المتضاربة. سوريا اليوم لم تعد كما كانت، لكن السؤال يبقى: إلى أين تسير؟ وهل ثمة أمل في التحول نحو…

حوران حم في زوايا الحديث السوري اليومي، في المنشورات السريعة على مواقع التواصل، في تصريحات بعض “القيادات” ومواقف فصائل تدّعي تمثيل الثورة أو الدولة، يتسلل الخطاب الطائفي كسمّ بطيء، يتغلغل في الروح قبل أن يظهر في العلن. لم تعد العبارات الجارحة التي تطال الطوائف والأقليات، والمناطق، والمذاهب، تُقال همساً أو تُلقى في لحظة غضب، بل باتت تُصرّح جهاراً، وتُرفع على…

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…