ابراهيم محمود
16- بورتريهات وجوه ب- حيث ينتصب الجدار ” التركي ” ساطوراً
من المفارقات الكبرى لمن يمعن النظر في الحدود الفاصلة، وهي سياسة ” بين تركيا وسوريا طبعاً “، وحيث يتواجد الكرد، أن تركيا الدولة ” الجمهورية، الحداثية، العلمانية ” لم تعرف استقراراً من لحظة إعلانها جمهورية قبل قرابة قرن من الزمان. فالشبح الكردي يطاردها. ولم يكفِها تلغيم الحدود منذ ثلاثة أرباع القرن، إنما ها هي تتمترس وراء جدار سميك متوج بأسلاك شائكة، حيث يُرى بالعين المجردة، كما أمعنتُ النظر فيه عن قرب. لتؤكد أنها تخاف إذ تخيف. أن تحُولَ دون تسلل ” إرهابيي الكرد ” بالجدار المحصَّن، وتحفّز على عبور حر لأصولييها الإرهابيين الفعليين أتراكاً وخلافهم، فتلك الشقيقة الكبرى الأخرى للمفارقة السالفة .
كرد على مد النظر ، وكرد أنّى التفتَ ساسة الترك، وكرد، كيفما حسبها هؤلاء سياسياً. وليس من فتوى تكفيرية موجهة تركياً إلا ويكون للكرد السهم الأوفر منها، إن لم تكن مستحدثة، ومعزَّزة بسببهم، وفرة عائدة إلى وفرة حضور الكرد، وإقلاقهم لمن قسَّموهم تاريخياً. وللجدار الذي استوقفني، حين كنا” بافي رشيد وأنا ” في زيارة قبر الراحل فرهاد عجمو، القدْح المعلَّى في إبراز خوف من الطراز التركي، حيث إن ” لوزان ” لم يفلح حتى الآن، رغم الدسم الجغرافي والبشري الذي نالته تركيا، في دفن شبح “سيفر” التاريخ والصوت الكردي ذي الصدى.
من على المرتفع الذي تحتل المقبرة مساحة وافرة منه، استرسلتُ مع خيالي الحي ناحية نصيبين وعلى مسافة قريبة، حيث يكون الكرد الذين يعيشون كرديتهم مثلنا، وبلسان كلساننا، وهواجس لها صلة بما نحن فيه وعليه، والجدار شاهد حي على إرث مشترك طغيانيّ مقسّم شعب ٍواحد، وبشكل مضاعف، كانت الأسلاك الشائكة التي تلمع تشهِرُ عتوَّها وغلوّها في الكيدية، وهي مثل الجدار لا حيلة لها فيما يجري باسمها، ولا بد أنها تسمّي المضمر، وهو أن ليس في الوسع الاستمرار في هذا التلغيم والتعتيم والتعزيم والتغشيم، وباتجاه واحد، كما تعلّمنا دروس التاريخ القديم والحديث، أي ما يبقي العنف عقيماً، ومن النوع المتداول أنظمياً في المنطقة.
يستوقفني هذا المشهد، ويستدعي ما قرأته بلسان كاتب أجنبي بارع حين أشار إلى أن امبراطور الصين قديماً” قبل 23 قرناً تقريباً ” أراد بناء سور ضخم وطويل ومحصن للحيلولة دون وصول أعداء الصين إلى الداخل، وبالمقابل، أصدر أمراً بحرق كل الكتب حتى عهده، لتكون بدايته بداية التاريخ. لكن السور لم يفلح في صد الأعداء، ولا حرب إبادة الكتب أحالت دون ظهور الكتب التي تذمه. وهذا ينطبق على الساسة الترك ومرادفيهم. فليس من حاجز حدودي بقادر على إرغام الكرد بأنهم ليسوا شعباً مقسّماً، ولا سياسة إبادة ثقافة شعب، أفلحت في قمع ذاكرته، ومن ثم مساعيه لنشر لغته، وتداول الكتب التي تسمّي أعداءه من هذا النمط .
في الطرف الآخر من الجدار، كان مرصد حراسة تركي مرتفعاً، وبدا لي الحارس بزيه العسكري، وسلاحه، وهو يمد بنظره إلى ما وراء الجدار” جهتنا ” ولعلّي كنت على دراية نسبية بأنه كان يعيش مخاوف كل لحظة، رغم المدجج به من تصورات وتحفيزات بما يجب عليه فعله: أن يقتل دون حساب، أن يطلق الرصاص دون إذن من أحد، لأن ” عدواً ” شرساً يرصد له. أو ربما يفكّر مختلفاً، لكنه مأمور، وهو يراقب تحركاتنا، ونحن نقف في مواجهة الجدار، ونحن نمد بأبصارنا إلى ما وراء الجدار، حيث يتثاءب السهل النصيبيني مأخوذاً بنداوة مسائية، وننظر في نصيبين المدينة التاريخية، كما لو أننا نعبر الجدار ومن بنوا الجدار، ومن يحرسونه .
أعادني الجدار إلى الوراء حين كانت الحدود مفتوحة، وكان يسهل عبورها في نقاط معينة، من قبل ” القاجاغجية: مهربي الدخان وسواه، ومن يتوجهون لزيارة أهلهم، أو لأغراض أخرى. هذه الحدود ومن خلال تحولاتها، تترجم تحولات السياسة القائمة وتلويناتها على الأرض.
إن حدوداً يجري تحصينها بالطريقة هذه، تعني في الحال وجود إرادة فاعلة، كردية المنشأ، بغضّ النظر عن طبيعتها، تعني أن هناك وحدة ذاكرة شعبية، وتأكيداً على أن نظاماً بمثل هذا الجبروت والعتو، يتنفس بصعوبة، متهالكاً وراء جدار، لا يمكنه التأمين على حياته اليومية، أو نومه من كوابيس أحلام، فهو إذ يحجب الآخر، يحجب نفسه ويعزلها. ليكون خوفٌ أعمق .
هذه اللحظة التي اختزنتْ بالنسبة إلي، عقوداً من الزمن، فرضت علي طعمها المر، وذائقتها الحادة، ورائحتها اللاسعة، حفَّزتني على تأبيدها بعدة صور فردية ومع بافي رشيد بالمقابل.
لنودّع الصديق الراحل، ونطلق لخيالنا شهوة القفز، وكتابة: لن تدوم، ملصقة على الجدار بامتداده، وحتى آخر الحدود، حيث الطاغية لا يسود !
3- وجه أبو نضال ” أنيس مديوايه “