ابراهيم محمود
16- بورتريهات وجوه 1-وجه بافي رشيد
تتقاسمه أوجاع وآلام ” مفاصلية- صدرية ” يجالس وحدة ضاغطة عليه. حتى الأمس القريب كان يرجو أملاً من آلامه، راهناً، يرجو لطفاً منها ليس إلا. بعمر السبعين عاماً، وخطو ثقيل، ونظرات تترجم وهن الجسد الموجوع، يؤاسي نفسه بالكتابة، سعياً منه إلى نسيان تصدعات مجتمعه، ومن يعبثون به داخلاً وخارجاً. هوذا Bavê Reşîd، كما يعرَف في وسطه، والمقربين منه، أعني به الكاتب محمد سيد حسين، صاحب أكثر من عشرين كتاباً مراثي كرده.
التقيته بعد غياب دام سنوات طويلة جداً، لحظة النظر فيها نفسياً، وقد كان هو وزوجته في تشيك حيث يعيش أولاده الشباب منذ عقود من الزمن، ولكن الـ” تشيك ” هذه، وهو المأهول بمناخات مجتمعه، ومجالسه، أورثته المزيد من الآلام هو وزوجته” ديا رشيد “، فكانت الكتابة ولساعات، كما كنا نتحادث ” واتسابياً ” بصورة دورية، خندقه الجبهوي المفتوح مع هذه الغربة التشيكية الضارية، ويحاول ترويض عزلته الجغرافية، في مدينة لا تعبأ بهمومه الكردية، وتداعيات أفكاره وخيالاته بطابعها الأدبي وهو يودعها الشاشة البيضاء الباردة بدورها.
ليرجع هو وزوجته إلى قامشلي حيث تقيم ابنتاه، وأهله في الجوار، منقسماً بين الانشغال القسري بمطالب جسمه المواظب على إيلامه، وتناول الدواء تقليلاً من سطوة آلامه، والنظر إلى الأمام، مستشرفاً ما يجري، والكتابة، تعويضاً عن عالم كثير نزفه بحكم الوضع المتردي، ويدع شأن المعني المجهول بعمره، حياته، سلطة لا يعبأ بها .
لا أكتب عن بافي رشيد رغم معرفتي الطويلة به، فهو كغيره ممن يكابدون الحياة، وهم بالآلاف، في وحدة طاغية كوحدته، إنما عن بافي رشيد، محمد سيد حسين الكاتب، الذي له تصورات معهودة بالكثير من الدقة وبعد النظر، وأسلوب أدبي ذي نسج شعري وليد بيئة محلية، ويتناسب وقهر المكان بالذات، واعتماد ذاتي، فهو لم يتخرج في جامعة، كانت جامعته الحياة، ومكتبته المفتوحة لقاءاته بالآخرين، وما أكثرهم، وقد حصّل موسوعة لغوية، ما أكثر الذين استفادوا منها، ومنهم من ” أخذها ” منه، ولا يعرَف ما إذا سينزلها على الورق باسمه أم لا. وهي تضم آلاف الكلمات التي لم تعهدها قواميس اللغة الكردية، ولقارىء كتبه التي عرّفتُ بها قبل شهور، وتوقفت عند بعض منها، ملاحظة هذه الميزة ” البرّية ” الرحبة تحديداً.
ملياً كنت أنظر إليه، وهو يتحدث ببطء، وأحياناً يعيد ما قاله سابقاً ” التقيت به عدة مرات، وقد زرته في بيته “، وللمعنيين بأمور نفسية تقدير ذلك، ليس لأن هناك ضعفاً عضوياً يصيب الذاكرة على وقع عمر ليس بالمديد مقارنة بآخرين، وإنما لأن مرضاً آخر، أكثر من كونه عضوياً تفعَّل سلباً في كيانه النفسي، فكان هذا النزف في بنية ذاكرته، هذا التعرض لقصف عاديات الزمان ” وللزمان الكردي ومكانه، مفارقات تعدَم عند سواهم !” كان يتوقف أحياناً، ويشرد، وهو شبه منطو على نفسه، وفي وجه ذبول، وفي نظراته ذبول، وحتى في كلماته ذلك الذبول الملموس جرّاء قحط واقع وشرس، لا يعرف عنفه سوى معايشيه، وهو لابس جلابية بيضاء، لإراحة جسمه أكثر طبعاً .
كان ينتقل من حديث إلى آخر، ربما شعوراً ذاتياً منه، أن ما يمكنه قوله الآن، قد لا يفلح في سرده بعد حين، أو لأن لقاءنا وقتي، كان يسعى جاهداً إلى نوع من التفريغ النفسي، شعوراً آخر منه، أنني أصغي إليه بكلّيتي، وتقديراً منه أنني أتفاعل معه، وهو ما كان يحصل، وأنا أوزع حواسي، وأحياناً أفقد سوية العلاقة بينها، بين أن أصغي إليه كلمة كلمة، وأن أنظر إليه، متحرياً ما وراء محياه وقد غارت عيناه، وحين يريد الوقوف يترنح ويمشي على حذر، طفلاً في بدء مشيه، خوفاً من السقوط، لكن خوفه مغاير، حيث الحياة تضيق الخناق عليه، في وحدته تلك، وأشرد، ماضياً إلى زمان كان، وهو يفيض صحة نسبياً، ويتأنق، ونخرج معاً، أو نشرب الشاي، ونمضي وقتاً طويلاً في تقاسم أحاديث شتى لها صلة بهاوية الزمن الكردي، والمكان الكردي، والأمل الكردي المرفوع بالخيبات، ومعنا، صديق عمره ” صبري بافي آزاد ” الذي تستنزفه أوربا الآن، وينفخ في رماد سنّي عمره السالف، كي يلطّف ثقل يومه ورطوبة وسطه .
بافي رشيد، محمد سيد حسين، الكاتب، والبعيد عن الدعويات، والإعلاميات المنفاخة، والذين ينفخون في قرَب منفوخة، ويعظّمون ذواتهم بكلمات لا تخفي عقم معناها، لكم أشغلني بما هو فيه، بما هو عليه، في مفارقاته العمرية، وصراعه مع آلامه، بعيداً، أعني: مبعداً عن دائرة انشغالات من يعيشون خارج تغطية التاريخ الحي، وهم يوهمون أنفسهم، وفي فرص واتتهم، أو مسالك مهّدت لهم، ليصبح ذوي ألقاب، ونجوميين، وهم نجومية قاعية ومحسوباتية، حتى على أعلى مستوى. لكم أشغلني بما كان يسمّي ويقارن، ويتحدث في موضوعات شتى، بعيداً عن تنميقات كلامية أو زخرفات مشاعر. أي احتفاء يُخص به الكاتب السبعيني، وبمراثيه الكردية التي ستمتد إلى الأمام، وستبقيه، بمقدار ما أنها تعرّي وستستمر في تعرية من لم يبصر صورته من الداخل بعد، ومن يغض الطرف عما يجري.
ما كتبته، ما أكتبه، هو بعض من الانشغال الوجداني، والتقدير الوجداني، والتأريخ الوجداني، لرجل، هو سجلُّ مشاهد إنسانية، ومرجعها كثيراً، أعني به الكردي أماً وأباً، لساناً ووجداناً، قلباً وروحاً، دماً ولحماً وعظماً: محمد سيد حسين !
…….. يتبع
16/2- زيارة فرهاد عجمو في مثواه الأخير