ابراهيم محمود
11- Du girê، مرة أخرى :
ليس المكان واحداً، إنما متفاوت في الاعتبار. هناك تاريخ وعلاقات تلوّن فيه. تلك بداهة. لهذا أقول عن أنه إذا كانت المقبرة تحتفظ بعموميتها. المقبرة هي المقبرة، أينما كانت، سوى أنها كانتماء مكاني، تتفاوت قيمةً جهةَ الذين تضم إليها رفاتهم. تصبح المقبرة شاهدة وعي مستقبلي، مثلما أن شاهدة القبر الواحد تعرَف بالمقيم الأبدي فيه. من هنا، كان تركيزي على Du girê، إنها أكثر من شاهدة تاريخ حي، وذات مقام اجتماعي وثقافي وقومي في الصميم .
وإذا كنت قد كتبت عنها في العام الفائت، فإن حيوية المقبرة بمجتمعها الذي يحمل أسماء لا تنسى في الذاكرة التاريخ، في الوجدان الكردي، فإن الأهمية هذه هي التي حفّزتني على أن أجدد زيارتي إليها، حيث الطريق الذي يصل ما بين قامشلي وتربه سبي، يشير إليها يساراً بالنسبة إلى المنطلق من قامشلي. إن المرتفع التلَّيْني يعزّز مقامه للنظر، ويخرج المنتشر عالياً وعلى أكثر من جانب، إلى حيّز المعيش اليومي. فلا نعود أمام ما كان، وإنما ما يجدد ما يكون .
كانت صحبتنا السعيدة، رغم المكان اللاطلَلي الباعث على الألم، دافعاً مؤثراً على إبقاء ما كان أكثر من كونه ما كان. يوم الأربعاء 24 تموز 2019، وفي المساء الذي تشرَّب بعضاً من الهدوء المكاني، وخفَّف من وطأة الحر التموزي. صحبة ثالوثية: زيور حاجو، سيف الدين داود، وأنا، وفي سيارة زيور. أصدقاء ثلاثة، انشغل بنا المكان المتجاوز لمساحة الطريق الطولية، مثلما انشغلنا بالمكان، لأن بيننا قرابة ذكريات تصلنا بنسبة معلومة من المقيمين الأبديين في المقبرة التي شكَّلت وجهتنا. أسماء علِمنا بها حين امتلأ وعينا بالمكان وأهليه، سبقتنا عمراً بعقود مديدة من الزمن، كان لنا حظوة حين تعرفنا إليها، وشهدت أيام، مناسبات، جلسات فاضت بها الجغرافية المكانية وتجاوز الحدود المصطنعة، وها نحن نمضي إليها، كما لو أنها مقيمة بين جنبينا، وأسماء تنتمي إلى جيلنا عُمرياً، وربما دونها، مضت سريعاً، وأبقت أثرها ملحوظاً، ليكون العمر الآخر: الأثر، القيمة، هبة الروح الكردية للمكان ومجتمعه، عرّاب التلاقي .
سيقال، سيتردد أن هناك أمكنة مقابرية أخرى، تستحق مثل هذا الانشغال، وهي تضم إليها أكثر من رفاة، لأكثر من اسم يقاوم صمت قبره: مقبرة قدور بك، هلالية..الخ، وهذا صحيح. غير أن وهجاً تاريخياً لا يخبو، يسمّي على وقع وميضه الأسهمي أكثر من شارة في أكثر من اتجاه، قبل أن تكون الحدود المصطنعة مسماة بنقاط رصدها، وألغامها، ووجوه حرّاسها المتجهمة، لأن تاريخاً يعلِم بما كان، ويلغي هذا الانقسام، عبر أسمائه التي تحيل إليها جهات: جهة واحدة .انشغلتنا بالمرتفع ” الدوكِري ” بالشاهدات القبرية عالياً، ولكم تأسينا بتلك الشاهدات التي شوهّت، أو أقصيت عن أضرحتها” هكذا أسمي، كما تستحق “، شاهدات ثمة آثار تعرّف بها، ولا بد أنها، فيما لو استمرت هكذا، أن تعدَم بصلاتها مع أضرحتها، وما في ذلك من إيلام. كما في حال شاهدة عبدالرحمن آغا يونس. ألا ما أبأس الوعي المكاني باستراتيجية مكان كهذا !
لست في مجاملة مع أي كان، حين أشير إلى التحدي الكبير الذي تطرحه مقبرة ثرية بمقيميها، على من يريدون تلغيم المكان، أو يصعب عليهم تفهَّم ما يقرّره هؤلاء الموتى/ الأحياء على مستوى الرمز، مستوى الحافز الوجداني، التاريخي، والدلالي الكردي. لحظات هي توائم الألم الواحد، الأمل الواحد، الحسرة الواحدة. وأنا أسمي من يستحقون التسمية، كأمثلة، وليس إحصاء:حمزة بك ، عبدالرحمن آغا يونس، عباس محمد عباس، حاجو آغا، أحمد نافذ..
شاهدات القبور جذبت انتباهنا إلى تواريخها، ثمة منها، أوقعتنا في بلبلة التحديد الزمني لها، أو حقيقة أسمائها، وهذه علامة حيّة على حضور كردي كان له مجتمعه الحي ذات يوم .
توجَّعنا كثيراً إزاء ساحة مرتفعية مكشوفة وهي مرصودة، دون أن تنال الاهتمام الكافي، أن يكون لدرسها الاعتباري فعل الاستقطاب الوجداني. فعل المكان الموحد لاسمه ومسمّاه .
استوقفتني شاهدة قبر المرحومة فريدة حسن حاجو، والدة الصديق الكبير باسمه، الراحل الدكتور بنكي حاجو، الذي توفي كمداً، ودفِن بعيداً عن مكان عزيز عليه، ولا أظنني بعيداً عن واقعة مؤلمة ببنيتها، وهي أن دفْنه في أرض الغربة، ليس أكثر من شهادة آلمة مؤلمة، على واقع مؤلم، جهة عوائق، أخِذت بالحسبان، أحالت دون دفنه بجوار أفراد عائلته، والدته !
تبدو المقبرة بتقسيماتها الثلاثة: في الأعلى، يكون للتاريخ القديم نكهته ومرارة لحظته، في الأسفل، مساحة أرضية أضيق مكاناً، وفي الجانب الأقصى، في فسحة أرضية منبسطة، تأخذ مقبرة ” شهداء الإدارة الذاتية ” موقعها المحروس، والمعتنى بها جيداً، وهي مفارقة لافتة، على مستوى الانشغال بالتاريخ، ومن كانوا ألسنة حاله، وشهود عيان وقائعه لعقود مديدة من الزمن .
هنا، نجد أنفسنا أمام ذاكرة كردية، وقد انقسمت على نفسها، لتكون هي وليست هي، ناحية المكان الجاري تصريفه بمعايير تزيد في غربته، وإيلامه هو نفسه، إذا كان يتكلم لغة واحدة، لا أظن أهل الحل والعقد الكرد، بجاهلين عن جرْح هذه اللغة الملتهب، وأي التهاب .
ملاحظة: تعرضت مجموعة كبيرة من الصور التي التقطتُها عن المقبرة، للتلف، لهذا، لم أفلح في نشر أي منها، حتى أن الصورة المنشورة ترتد إلى العام الفائد، إلى أن تصلني مجموعة من هذه الصور لدن الصديقين زيور حاجو وسيف الدين داود، لأوثق الحلقة بها .
12- في معرض زانا قامشلي للكتاب :