التعايش في الدول المركبة قومياً ودينياً (سوريا نموذجاً)

مصطفى أوسو
التعدد والتنوع القومي والديني حالة طبيعية قائمة وموجودة في معظم مجتمعات دول عالمنا المعاصر، إذ لا توجد دولة فيها تعد نقية أو صافية عرقياً أو دينياً في تكوينها. وهي قد تكون عامل قوة الدولة وثرائها وتؤدي إلى نموها وتقدمها وتطورها وازدهارها – الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا الغربية – أو عامل ضعفها وتخلفها ونشوب الصراعات والانقسامات فيها وتفككها أيضاً – جهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً ودول البلقان وغيرها في العقد الأخير من القرن العشرين الماضي وعدد من دول منطقة الشرق الأوسط، منها سوريا راهناً – وذلك استناداً للسياسة المتبعة حيالها وطريقة التعامل معها ومعالجتها ومدى الرغبة والإرادة في تحقيق التعايش والانسجام بين هذه المكونات ومفاصل النسيج المجتمعي في الدولة. 
والتعايش بين المكونات القومية والدينية في الدولة الواحدة يتطلب بذل الكثير من الجهود الكفيلة بخلق بيئة قائمة على التفاعل والتناغم فيما بينها وقبول الاختلافات على أساس الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات واحترام الخصوصية، وإيجاد القواسم المشتركة التي يلتقي عليها الجميع، ونبذ العقلية والذهنية القائمة على الإلغاء والإقصاء والحرمان من الحقوق والتعبير عن الذات..، إضافة إلى وجود رؤية واضحة للحاضر والمستقبل، مصاغة بآفاق إنسانية مستندة للقوانين والمواثيق والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، تنعكس في دساتيرها وقوانينها، تكفل تعزيزها وحمايتها وتوفر لها عوامل الأمان والاستقرار والسلام.
ونظراً لأهمية قضايا التعايش بين المكونات المتعددة والمتنوعة في مجتمعات دول العالم وتأثيراتها المباشرة على قضايا السلم والأمن الدوليين، فأنها كانت حاضرة على الدوام في صلب اهتمامات المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة، التي أكدت عليها في العديد من القوانين والقرارات والوثائق الصادرة عنها، وأيضاً في قضايا ومناسبات مرتبطة بها عضوياً، مثل: يوم التسامح الدولي المصادف في 16 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام، واليوم الدولي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية الذي يصادف في 21 أيار/مايو من كل عام.
وفي سوريا، البلد الذي يزخر بالتعددية والتنوع القومي والديني والطائفي والمذهبي..، تعرض التعايش فيها بين هذه المكونات للكثير من العبث والإساءة، وأيضاً للكثير من الضربات الموجعة التي تناولت أركانه ومقوماته من قبل جميع الحكومات التي تعاقبت على السلطة فيها، بسبب سياساتها العنصرية وممارساتها القائمة على العنف والقمع والتجاهل والإنكار والإقصاء والإلغاء..، والمنع من التعبير عن الخصوصية وإبرازها والحرمان من حقوقها. وجاءت التطورات التي أعقبت اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، وظهور المجموعات المسلحة الإسلامية المتشددة فيها، وتبنيها في هذا المجال سياسات وممارسات فاقت حتى تلك التي قامت بها السلطات السورية التي توالت على السلطة من حيث البشاعة والعنصرية والطائفية والإجرام..، لتترك تأثيرات أسوء بكثير من سابقتها على قضايا تعايش مكونات المجتمع فيها، إلى حد أنها باتت تنذر بعواقب وتداعيات خطيرة جداً على قضايا الأمن والاستقرار والسلام..، والتي لا يمكن التكهن أبداً بنتائجها وتداعياتها ومآلاتها الخطيرة.
ويبقى الوصول إلى التعايش المنشود بين المكونات القومية والدينية للمجتمع السوري مرهون إلى حد كبير ببذل المزيد من العمل والجهود من قبل عموم أفراده ومؤسساته المختلفة – خاصة الأسرة والتعليم والدين والمجتمع المدني – لإزالة الأفكار والرواسب الناجمة عن سياسات وممارسات القمع والإنكار والإلغاء والإقصاء والحرمان..، المتراكمة في الأذهان والعقول خلال المراحل التاريخية الماضية، والعمل على تجسيد المبادئ والقيم التي تقويها وترسخها وتعززها، وكذلك تأمين المناخات مناسبة لها، تضمن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والتي بدورها تحتاج إلى ضمانات دستورية وقانونية تحميها وتعمل على رعايتها وحمايتها وتطورها وتنميتها، وتكفل تحقيق العدالة والمساواة بينها جميعاً دون أي شكل من أشكال التمييز على أساس القومية أو الدين أو الطائفة أو المذهب.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عبدالرحمن كلو على مدارِ السنواتِ السابِقةِ، وفي مرحلةِ النظامِ السابِقِ، كان العديدُ من الوطنيينَ والشرفاءِ الكوردِ من خارجِ نطاقِ منظومةِ حزبِ العمالِ الكوردستانيِّ (ب ك ك) ومن خارجِ دائرةِ المجلسِ الوطنيِّ الكورديِّ، يُطالبونَ بحمايةٍ دوليةٍ لعفرينَ والمناطقِ الأخرى التي تخضعُ للاحتلالِ التركيِّ. هذهِ المطالبُ جاءتْ كردِّ فعلٍ على ما كان يجري في تلكَ المناطقِ من ممارساتٍ إرهابيةٍ تهدفُ إلى التغييرِ…

فرحان كلش الأسئلة الأكثر إلحاحاً في الراهن الزماني، حول ما ولدته وأفرزته الثورة السورية، تكمن في إمكانية الربط المعرفي بين الثورة كخلق جماهيري والسلطة كناتج ثوروي، إذ يمكننا أن نلقي أسئلتنا في حلقة ضوابط تتعلق بالنشوء والفناء الثوري، هل ما نشهده اليوم من وجود إدارة سياسية في دمشق ناتج موضوعي لما شهدته الثورة السورية، أم هذا تدحرج لفكرة الالتفاف على…

ادريس عمر النظام الفيدرالي مفهوم سياسي وإداري يتم فيه توزيع السلطة بين حكومة مركزية (اتحادية) وحكومات محلية(إقليمية أو ولايات)، بحيث يكون لكل مستوى من مستويات الحكم صلاحيات واختصاصات محددة وفق دستور أو اتفاق قانوني. وقد يبدو معقداً للكثيرين، خاصة في البلدان التي لم تجرب هذا النظام من قبل، مثل سوريا. ففي النظام الفيدرالي، تتعاون الحكومة المركزية والحكومات المحلية بشكل مشترك،…

حازم صاغية غالباً ما استُخدمت، في تناول الوضع السوريّ، نظريّة مؤدّاها أنّ الثورة الحقيقيّة هي التي تغيّر مجتمعاً، لا التي تغيّر نظاماً. والنظريّة هذه تبقى أقرب إلى شعار، بمعنى أنّ الشعار يقول كلّ شيء ولا يقول شيئاً. فمن البديهيّ أن تقاس الثورات بمدى تغييرها العلاقات الاجتماعيّة والأفكار والثقافة والتعليم ومسائل الجنس والجندر، ومن ثمّ النظرة إلى الذات وإلى العالم. لكنْ…