الدكتور رضوان حسين أسعد
إن ضعف الأمة الكوردية اليوم لا يمكن في كثرة أعدائها ولا في قوتهم الحربية المتفوقة وضخامة مصادرهم وورادتهم، بقدر ما يرجع هذا الضعف إلى بُعد المسافة التي تفصل الكورد عن منهج الكوردايتي (هكذا حسب ما كتبه الكاتب والقصد منه الكوردايتي).
والمشكلة ليست في عدم استيعاب القيادات الكوردية حقيقة ما يجري وما يُحاك وإنما المشكلة تكمن في إصرار هذه القيادات على الاحتفاظ بالهزيمة من خلال إبتلاعهم الطُعم تلو الآخر وتهيئة الظروف للإبقاء عليها بخلافاتهم اللانهائية وانقساماتهم العشوائية وإنشطارهم السرطاني.
ولا شك بأن الخط البياني لمعاناة الشعب الكوردي في الجزء الأصغر سيظل صاعداً ما دامت فكرة “الإنشقاقات” تُنسب إلى حرية الرأي وتعتبر نوعاً من الديمقراطية. ومادام الشعور بخطورة الانشقاقات شبه معدوم. ومازال القصور في البُعد السياسي هو سيد الموقف. ومادام قادة الانشقاقات يتحركون في حلقة مفرغة وفي نطاق محدود، فكلّ يرمي بالمسؤلية أمام باب الآخر.
وكلنا يعلم أن القواميس السياسية لدى الأحزاب في العالم الغربي شبه خالية من مصطلح” الانشقاق”. وحين تقع الخلافات بين أعضاء الحزب الواحد، وما أكثر هذه الخلافات، فقد تجتاز مرحلة اللّكمات والكلمات البذيئة وتصل إلى مرحلة التراشق بالكراسي.. ولكن، بخلاف جميع أحزاب الجزء الأصغر من كوردستان، فإن فكرة “الانشقاق” اللعينة لا تخطر أو بالٍ أو خاطر.
فلم نسمع مثلاً عن وقوع انشقاق في صفوفSPD حيث أصبحت تركيبته بعد الانشقاق على الشكل التالي:
1-منظمة اليمين التقدمي-تيار القاعدة، جماعة هلموت شميت.
2-حزب اليسار الديمقراطي-جناح القيادة، جماعة كيرهارد شرودر.
3-حركة القيادة المؤقتة-بقيادة فلان المنشق الشابق عن جماعة فلان…الخ.
لا شك أن هذه الظواهر مأساوية أكثر من أن تكون هزلية. إلا أن الشعب الكوردي أشبه بأن يكون قد رضي بها كواقع مفروض يحسّ به ويتذوق مرارته ولكن لم يزنه بعد.
وأخشى ما يخشاه الكثيرون أن نكون قد دخلنا حالة الإدمان لا سمح الله. وقد تحدث الملاّ المصطفى البرزاني رحمه الله عن مرحلة ما قبل الانشقاق بمنتهى الدقة والانصاف فقال بما معناه: ” إن رجحان رأي الاغلبية لا يعني صوابهم، ولا يعني أن تتخلّى الاقلية عن رأيها. بل على الاغلبية إحترام هذا الرأي، مادامت الاقلية لا تشعل فتنة ولا تستعد لطعنة ولا تخصّ على انشقاق ومادام التزامها بالقواعد وأمتثالها لرأي الأغلبية قائم”.
*عوامل الركود وأسباب الهزائم: يقول احد أعمدة الفكر القومي الوقائي الدكتور جمال نبز:”..فكلما اجتاحت أمة الكورد إلى التجديد هرباً من مرارة الواقع واللّحاق بعجلة العصر لكسب مكانة تليق بها بين الأمم، كلّما اشتدت حاجتها لمعرفة تراثها القديم، ولكي تخرج المة من دائرة السقوط في الجزء ومن محيط الانزواء والتقوقع، عليها بحذر على صهر الجديد بالقديم في بوتقة الكوردايتي”.
وما تقوم به بعض العصابات الحكومية في المناطق الكوردية من إذلال وتعريب وتهجير، يُحتمّ على الشعب الكوردي الاستعانه بالقديم والعمل على تصحين الذات الكوردية والحفاظ على ملامحه القومية بالتقيد اكثر بأسس ومبادىء الكوردايتي، التي لا غنى عنها في هذه المواجهات المصيرية.
ولكي تتوّج نتائج أي عمل كوردستاني بالنجاح لا بدّ من أن يتوفر فيه شرطان اساسيان هما: الإخلاص والصواب.
وغن فقدان أحد الشرطين يؤدي بالضرورة إلى نتائج معكوسة غير مرضية.
-الإخلاص: نقول عن فلان من الناس إنه كوردي مخلص إذا كان ذو نيّة صادقة، مزّودة بالاستعداد للتضحية بكل غالٍ ونفيس لتعلو راية الكوردايتي. فالاخلاص بهذا المعنى هو التأهب لبذل الروح والمال فداءً للعقيدة. لذا فأن النيّة الصادقة الخالية من الشوائب، المؤمنة بمبادىء الكورداتيةتي، الساعية والمستعدة لتسخير جميع طاقاتها في خدمة هذا الايمان هي المخلصة. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون المخلص-صائب. وإلا لكان الكورد اليوم أصحاب عدة الدول ودويلات، كما تحدث الاستاذ جواد ملاّ عن ذلك.
-الصواب: هو تطابق العملية الديناميكية مع قيم ومبادىء الكوراديةتي، بحيث أن لا يتجاوز العمل بهذه الشريعة مهما كان صادقاً، ومهما كان مخلصاً. وأن يكون القائم بهذا العمل ملتزم بضوابط وقواعد الكوردايتي.
وقد أشار الاستاذ جواد ملاّ إلى مكانة”الصواب” وأهميته في تقييمه للثورات والانتقاضات الكوردية في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مقالٍ وكتاب حيث قال: “…وإن فقدان الصواب ساهم بشكل فعال وأساسي في عدم نجاح الحركات الكوردية في التحرير وحرم الشعب الكوردي من فرص المراجعة والاعتبارة وساهم أيضاً بتكرار اخطاءه وعدم انتفاعه بتجاربه الغنية”.
فغياب أحد الشرطين (الإخلاص أو الصواب) يؤدي بلا شك إلى غياب عن الهدف عند أول امتحان لها. وهذا ما لمسناه لدى بعض الحركات الكوردية، التي تخلّت عن بعض الهدف عند أول امتحان لها. ذلك الهدف الذي طالما نادت به وإليه لكسب رأي ورضى الجماهير في الشارع الكوردي.
وقد شاهدنا بعد ذلك أن عشرات الآلاف الذي ناصروا تلك القوى وأخلصوا لها دون معرفة الجوهر وماهية الكوردايتي، كيف وقعوا ضحية أخطاء الآخرين. وقد تحدث الدكتور جمال نبز عن أمثال هؤلاء قائلاً: ” إن الذين يسخّرون اليوم طاقاتهم وقدراتهم في خدمة الكوردايتي دون معرفة شرائعها وقواعدها والإلتزام بهذه الشرائع، إنما اولئك قوم جانبهم الصواب، فقد لا يخدمون الكوردايتي بقدر ما يضرونها”.
ومن هؤلاء الضحايا من اجتهد في صياغة شعارات جديدة تتماشى وواقع التنازلات الجديد. ومنهم من انساق وراء هذه الشعارات بسبب إيمان مخلص أعمى أو قراءة خاطئة على جلد أو حفاظاً على مكانة. ومنهم من أنقلب رأساً على عقب عائداً من جديد إلى حالة اللاّمبالاة الخطيرة، مستسلماً لواقع اليأس والإحباط الذي خلّفه غبار جزيرة ايمرالي من ناحية ومن جراء ضعفهم العقائدي وتأرجهم على أرضية هشة غير مجبولة بتراب الكوردايتي من ناحية أخرى.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الإفراط في المحبة والبعض حتى الإفتراء صفتان تدلان على قلة الاطلاع والميل إلى الانخداع. وللأسف الشديد فقد لاحظنا طغيان هاتين الصفتين على سلوك وتصرفات الكثيرين.
-المثل الأعلى: دخل رجلان على أمير كوردي يرويان ما لديهما من أدلة وبراهين لإقناع الأمير بالقدرة والكفاءة في إدارة احدى الولايات، فيعد أن سمع الأمير كلاهما جيداً وسألهم بعض الأسئلة…قال للأول: لك صلاحيات خدم القوم في الولاية. والتفت إلى الآخر قائلاً: إن من لا يملك قابلية الاعتبار بالدرس التاريخي ليس مؤهلاً بعد لقيادة الأمة.
وكأن الأمير الكوردي أراد أن يقول: إن مشكلتنا لا تكمن في قلة التجارب، فالكورد أصحاب سجل تاريخي عريق ذو تجارب لا تعد ولا تحصى، وإنما مشكلتنا تكمن في عدم الاستفادة من هذه التجارب الغنية.
لقد كان توفر الشرط الأول(الإخلاص) في عهد النبوة كافياً لنجاح العقيدة وإعلان كلمة الحق، لأن الانبياء معصومين عن الخطأ. أما اليوم فالأمر يختلف، فما من أمرء على اليابسة يمتلك العصمة، وإن المثل الأعلى حين يكون خاطئاً وإن كان مدججاً بعشرات الآلاف ذوي الخدمة والإخلاص قد يحقق فعلاً بعض النجاحات الآنية، إلا أنه سيتهاوى بلا شك لإن هذه النجاحات مؤقتة. والنجاح المؤقت لأمة هو طُعم وخطوة تمهيدية لبداية النهاية، فإن فرحة الأمة يجب أن تكون عظيمة كعظمة الأمة نفسها وكبيرة ككبر الوطن وحقيقية كتلك التي تستقر في قلوب أولئك الذين يشعرون بها حتى النهاية.
وكم من قدوة صالحة استطاعت بعزيمتها الصادقة(الإخلاص) وإيمانها الراسخ بالكوردايتي (الصواب) أن تترك بصماتها وأثرها العميق في ذاكرة ووجدان الامة الكوردية وأن تنال الحب والإعجاب والتقدير.. وأصبحت خالدة حتى راح البعض يقسم بها.
أما ما يخص أصحاب النوايا الحسنة، الهاربين من تحمّل مسؤلياتهم والساعين إلى بناء زعامات دون جهد يذكر، الذي سارعوا في الآوانة الأخيرة إلى إعداد موسوعة طويلة من المؤامرات التي تحيكها وتدبرها بعض الجهات في حكومة البعث وفهارس من التهم الموجهة إلى العاملين في الأحزاب الكوردية والكوردستانية وإبراز نواقصهم والإنتظار لاصطياد الأخطاء ثم تثبيتها تحت المجهر دون التوقف عند هذه الأخطاء والتمعن في أسبابها والإشتراك في تحديد السبل لمعالجتها وبالتالي الحيلولة دون تكرارها، فهؤلاء “صنّاع الحماسات الشفوية”، إنما مثلهم كمثل الدمشقي إثناء الحراك/الخناقة/، الذي إذا شعر ان الأمور قد تخرج عن إطار الكلام الفارغ والصوت العالي وقد تدخل مرحلى جديدة تتخللها بعض اللّكمات قال: تمشي ولاّ أمشي؟
وأرى أنه لا طائل من اعمال أناس كهؤلاء، فهم يوبّخون أنفسهم بقولٍ يخالف الفعل وحل ينافي المنطق وشعارٍ دون إيمان.
ويبقى أن نذكرّ هؤلاء: إن الشعب الكوردي لا يفتخر ببطولات صُنعت من فراغ. ونذّكر أنفسنا: إن الفراغ القيادي البطولي الذي يشكو منه بعض الساحات الكوردية ترك أثراً سلبياً في نفوس الجماهير التي مازالت توّاقه لرؤية من يقف في أول المسير.
-أزمة حقيقية: إن غياب الدراسات التقويمية والابحاث الاقتصادية والسياسية والاحصاءات التاريخية حال دون إجابة منطقية بناءّة عاى أحد أهم الاسئلة على الإطلاق وهو: أين الخلل؟
فلن نفلح حتى اليوم في البحث عم أسباب الهزائم التي أصابتنا. ولم نستنبط العبر منها لنتمكن من بناء الحواجز لعدم تكرارها.
ولم نفكر بجدية في تكوين أبحاث ودراسات جريئة نخوض في أعماق الأسباب. فكيف لنا أن نقطف ثماراً لم نزرع بذورها؟!
وكيف لنا المطالبة بمكان على خريطة المستقبل دون سعي جاد لذلك؟!
هذا القصور في استيعاب ثوابت الكوردايتي أدرى إلى بروز طرق جديدة في ساحات العمل السياسي اتصفت ظاهرياً بالكوردايتي إلا أنها في الحقيقة مازالت تفتقر إلى صحة الارتباط بأسس وقواعد الكوردايتي، نتيجة التأثير بأساليب الغير فكان لا بدّ من أن يزداد الوضع تدهوراً لأن أتجاه الحركة قد تغيّر وأصبح من الأعلى إلى الأسفل ومن الأمام نحو الخلف ومن واقع سيء إلى واقع اسوأ. فالعد التنازلي مسمر، والانحسار السكاني في تراجع متسارع، فالهجرة متزايدة وتسويغ الهزيمة جارٍعلى قدم وساق وعمليات الانشقاق انهكت القوى ومهّدت لقيام الحروب الأخوية، فوضعت الأخ في مواجهة أخيه، وسمحت للغريب أن يمر بينهما، وأن يحالف أحدهما فيمّده بالمعونة تارة ويقطعها تارة أخرى ليبّقي العداوة مستمرة وتبقى الكلمة الحاسمة مرهونة طاعته، وما كان في عهد العم اوصمان صبري فاحش وعار أصبح اليوم يتخذ صبغة الموضوعية والواقعية.
فهل يُعقل أن يفتخر الكوردي وينباهى بمعرفته شخصية قيادية في البعث الحاكم؟! هذه الطفرات والتقلبات العشوائية لدى بعض القيادات أدت إلى أزمة حقيقية سماها البعض” ازمة الثقة بالحركات الكوردية والشعور بالإحباط”. وهذا ما لعب دوراً سلبياً في مسار وسلوك الكثيرين ممّن شاركوا هذه الحركات أفراحها واجزانها وناصروها وقت الشدة.
-الخروج من الأزمة: إن المرحلة الراهنة التي تمر بها الأمة الكوردية والمحمّله بالأعباء والمخاطر والمتروشة بالمصاعب والأزمات والمحشوة بالمؤامرات والدسائس تتطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى العودة إلى الكوردايتي والتمسك بعقائدها والتشبث بأصولها وقواعدها والتقيّد بمفاهيمها وآدابها والألتزام بضوابطها والأنطلاق من مبادئها والسير بخطاها وعلى أسسها وثوابتها.
حينها فقط يلتئم الجرح ويتحد الآخلاص مع الصواب وتجتمع الكلمة وتتوحد الصفوف ويعذر بعضنا بعضاً على أعمال خرجت عن مجرى الكوردايتي وتتواصل الجهود في التعاون والتكامل.
وعلى كل من ينادي اليوم بالكوردايتي أن يستوعب معادلة النداء، وأن يجمع التوأمان معا “الإخلاص والصواب” وإلا أفسد أكثر مما أصلح.
وقد حدث أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وجد جماعة في المسجد وبأيديهم حَصَيات يسبحوّن بها…وبايعاز من أحدهم فيقول: سبحوّا مائة مرة، فيسبحوّن، كبّروا مائة مرة، فيكبرون. فأنكر عليهم عبد الله رضي الله عنه ما احدثوا إنكاراً شديداً. فقالوا نادمين: الله ياأبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريدٍ للخير لا يصيبه.