من هو المتقوقع يا سيدة الأتاسي

زاكروس عثمان
لا يكاد يمر يوم إلا ونجد المعارضات السورية، افراد وكيانات، من مختلف التيارات، يمين يسار، اصوليين دينيين اصوليين قوميين، علمانيين ديمقراطيين علمانيين دكتاتوريين، مؤمنين ملحدين، يخرجون بأوصاف غريبة، يطلقونها على ابناء الامة الكوردية، كفار، خونة، انفصاليين، مندسين، متسللين من الثقوب الكونية السوداء، الى ما لذ وطاب لهم من مثل هذه الالفاظ الالغائية، التي تنم عن عدم قبولهم بالحقيقة الكوردية. 
في هذا السياق ادلت لمى الأتاسي، المعارِضة السورية المعتدلة المتنورة!، بدلوها معلنة اكتشافها صفة جديد في الكورد الا وهي الـ (تقوقع القومي)، موضحة انها غير موافقة على انزواء المكون الكردي. 
ولو ذهبتُ مع رأي الأتاسي وسلمت ان الكورد متقوقعين قوميا، من حقي ان اوضح لها نقاط خاصة بهذه المقولة، لأن اي شعب لا يصبح  متقوقعا ومنطويا على نفسه بالوراثة، بل هناك اسباب موضوعية دفعت شعوب مغلوبة كثيرة الى التقوقع (جغرافيا، وحضاريا)، لحماية وجودها العضوي وهويتها من الزوال على يد اقوام غالبة تحتل اراضيها وتشن عليها حروب إبادة.
وحدث ان ظروف الجغرافيا والتاريخ، جعلت من القومية الكوردية واحدة من هذه الامم المغلوبة، ولو ان الأتاسي درست بقليل من الحيادية المسألة الكوردستانية في سوريا، وتحديدا الشق المتعلق باكتشافها لنظرية (تقوقعنا القومي)، ربما  كانت تحفظت عن اعلان هذا الاكتشاف. 
إذ بعد جلاء فرنسا، لم يحدث لأي من الحكومات السورية منذ 1946 وحتى 2019، انها اعترفت بالمسألة الكوردستانية، ليس هذا فحسب بل كذلك توجهت هذه الحكومات الى بناء دولة العرق الواحد لصبغ سوريا بالصبغة العروبية الشوفينية، والغاء المكونات القومية الاخرى واولهم القومية الكوردية، ولم يقتصر الغاء وانكار الكورد على السلطات الرسمية، بل حذت حذوها كافة التنظيمات السياسية، ولتتفضل الاتاسي وتقدم لنا وثيقة واحدة  تقر بالمسألة الكوردستانية في سوريا سواء كانت هذه الوثيقة من طرف رسمي او طرف تنظيم سياسي.  
لو فرضنا ان الكوردي (متقوقع قوميا) فعلى الأتاسي وغيرها ان يدركوا بان الاسباب اعلاه، كانت وراء هذا التقوقع، وسرعان ما تطور الموقف الى سياسة ثابتة للدولة السورية، حيث وضعت السلطات التي وصفت بالديمقراطية- البرلمانية، التي سبقت حكم البعث و حكم نظام الاسد، مشاريع خاصة تهدف إلى محو الهوية الكوردية في سوريا، فماذا تتوقع الأتاسي من شعب مغلوب يهدده شعب غالب بمحو قوميته ولغته وثقافته ومصادرة ارضه، هل ينفتح على الدولة الغالبة ويقبل بالذوبان في هوية العرق الغالب، ام يحافظ على هويته بالتقوقع على نفسه، ما هو موقف الاتاسي اذا انا قطعت عنها الخبز والماء وسلبتها بيتها وارضها، ووضعت المسدس في راسها، مخيرا اياها بين السجن والقتل، او تخليها عن قوميتها العربية وكل حقوقها والذوبان في قوميتي الكوردية، دون ان اترك لها خيار ثالث، هل يا ترى سوف تشكرني وتنفتح علي، ام انها سوف تنعزل عني حفاظا على هويتها. 
لا اعرف هل الأتاسي تجهل تاريخ سوريا الحديث ام انها تنتقي من صفحاته ما يوافق توجهاتها الفكرية- السياسية، الا تعلم ان الحكومات قبل نظام البعث، حظرت اول حزب كوردي في سوريا، و زجت بالسياسيين الكورد في المعتقلات، وحظرت وحاربت اللغة والثقافة الكوردية، بل حتى منعت التراث الشعبي الكوردي، بالمقابل فرضت على الكوردي اللغة العربية، والفكر القومي العروبي في المؤسسات التعليمية والصحف الاذاعة والتلفزة، وارغب ان اشير لها ان الحكومات السورية قبل نظام الاسد، جردت الكوردي من جنسيته السورية، وطبقت بحقه مشروع خط الـ10 “العنصري” الرامي الى محو هوية المنطقة الكوردية وخصوصيتها الديموغرافية، بجلب مواطنين عرب من محافظات بعيدة، واسكانهم بالمنطقة الكوردية في مستوطنات تأسست لهذا الغاية، بعد مصادرة اراضي الكورد منهم وتوزيعها على المستوطنين الجدد، هل لدى الأتاسي وثيقة تشير الى ان الحكومات السورية من 1946-2019 سمحت بافتتاح ولو مدرسة كوردية واحدة، ام انها تجهل ان تَعَلم او تعليم اللغة الكردية جريمة سياسية تقود الى المعتقل، هي تقول الكوردي متقوقع، ربما لأنها لا تعلم ان الانسان الكوردي كان ممنوعا ان يحمل اسما كورديا، بل دائرة النفوس كانت تفرض عليه اسم عربي وتكتب في خانة الجنسية (عربي سوري)، هل يكون امام الأتاسي غير الانزواء اذا شطب اسمها العربي وارغمت على حمل اسم كوردي وكتب في جواز سفرها (كوردية سورية)، حتى المراكز البشرية والاثرية والتضاريس سلب منها اسمها الكوردي، والصق بها اسماء عربية، فصارت مدينة ديريك “مالكية” ومدينة تربة سبي “قحطانية” وقريتي تاليك اصبحت “مرة”، وصرنا غرباء على ارضنا وضيوف غير مرحب بهم على المستوى الرسمي والحزبي والشعبي. 
هذه السياسات العنصرية- الشوفينية غيض من فيض، لا مجال لذكرها، كانت وما زالت سبب انزواء الكورد وتقوقعهم، وجاء حكم البعث قبل حقبة نظام الاسد وبعده ليعمق هذه السياسات.
ومن جانب اخر اتخذت غالبية الاحزاب السورية، نفس الموقف العنصري- الشوفيني، الرافض للوجود  الكوردي، الا في حالة واحدة وهي تذويب هذه القومية في مرجل العروبة، وتحويل الكوردي الى مواطن عربي جيد وصالح!، حقيقة لست افهم ماذا تقصد هذه السيدة بمقولة الـ (تقوقع القومي)، طالما هم ينكرون ملف قضية كوردستان- سوريا من اساسه، ويرفضون الحوار بشأن هذا الملف، فمن اين اخترعوا هذا المصطلح، ام انهم يعتبرون الكوردي متقوقعا لأنه يرفض سياسة التعريب والصهر القومي ويرفض مصادرة حقوقهم المشروعة. 
لم تتغير السياسات الحكومية منذ 1946- 2019، وكذلك لم تتغير مواقف التنظيمات السياسية، الجميع متفقين كليا على شطب قضية الشعب الكوردي.
وحين بدأت الحرب الاهلية 2011بين السوريين العرب، وقفت الغالبية المطلقة من الكورد على المستوى الشعبي والحزبي الى جانب المعارضة، مدفوعة بأمل الخلاص من نظام دكتاتوري ظلم العرب ضعفا وظلم الكورد 10 اضعاف، لكن تبين سريعا من خلال التعاطي بين الحركة الكوردية والمعارضات السورية، ان مواقفها من القضية الكوردية اكثر سوءا من موقف نظام الاسد، لهذا اقول للأتاسي ان كان هناك تقوقع فهو عند المكون العربي، لان اي من المعارضات السورية رفضت التفاعل جديا مع المطالب الكوردية، في وقت طالبت الحركة الكوردية هذه المعارضات بالحوار، لكنها مارست اسلوب المماطلة والتسويف. 
على مدى اكثر من 50 عاما طالب الكوردي بالحد الادنى من حقوقه، وكان الرد هو قمع، سجن، ملاحقة ومزيدا من المشاريع الالغائية، وبعد 2011 رغم ضعف وهزال المعارضات، الا انها مصرة على رفض اصدار ميثاق يضمن حقوق الكورد، ومع ذلك انخرط جزء غير قليل من الاحزاب الكوردية في هياكل المعارضات، فمن هو المتقوقع  الحقيقي يا سيدة الأتاسي، اليس الكوردي من قاوم دكتاتورية نظام البعث والاسد، اليس هو من سبق الربيع العربي وفجر انتفاضة قامشلو 2004، التي رفض المكون العربي الانضمام اليها، بل انحاز الى صف النظام لدوافع عرقية صرفة.   
تقول الاتاسي، ان الإدارة الذاتية (الكوردية) لا تشكل معارضة حقيقية للبعث، ورغم ان الادعاء يجانب الحقيقة، ولكن سأقبل به، واسأل الأتاسي، هل قدمت المعارضات مشروع حل يلبي مطالب الكورد، حتى يخرج الكوردي من قوقعته، ليكون معارضا عميقا! لنظام الاسد، ام انك تريدين ان يقاتل الكوردي مجانا، ولأنك سياسية فانتِ تعرفين في السياسة والحروب لا يوجد شيء مجاني، على كل حال ليس الكوردي من يهادن حكم البعث، بل هي المعارضات التي تحولت الى وكلاء للعواصم الاقليمية والدولية، شيء عجيب حقا حين يكون الحديث عن ملف الكورد، تصبح كل المعارضات وطنية قومية عروبية، تبكي على سلامة  سوريا ووحدة اراضيها، اليست عفرين ارض سورية، فلماذا الغالبية المطلقة شاركت وباركت تركيا احتلالها لهذه البقعة السورية، ولماذا لا نسمع معارضا يسمي الوجود التركي في الشمال السوري احتلالا او يدين هذا الاحتلال، فلماذا على الكوردي الانغلاق على نظام الاسد، والانفتاح على معارضات متحالفة مع عواصم اقليمية تضع على رأس اولوياتها الاستراتيجية محو الامة الكوردية، لعل الجواب لدى الأتاسي نفسها، حيث تقول: “إنها مع إدارة لامركزية لكل سوريا وليس لمنطقة بعينها”، في إشارة إلى مشروع الادارة الذاتية (الكوردية)، اي انها اختزلت الحق الكوردي في مسائل ادارية بسيطة، كأن يسمح في سوريا المستقبل ان يكون رئيس المخفر في بلدة كوردية من ابناء المنطقة، او يكون المحافظ كورديا، وليس قادما من محافظة القنيطرة مثلا، وان يكون هناك مجلس بلدي يدير المسائل الخدمية.
 فيما الادارة الذاتية مشروع سياسي متكامل (حكم ذاتي) يتضمن حكومة محلية وبرلمان محلي، واذا كانت الأتاسي تستكثر على الكورد هذه المطالب، فلماذا تعاتب حزب الاتحاد الديمقراطي، لانه لا يعارض نظام الاسد، ولماذا عليه ان  يقبل بالثورة السورية، التي ترفض الاستجابة للمطالب الكوردية، ولا اعرف عن اية ثورة تتحدث، ثورة داعش، ام جبهة النصرة، ام ثورة الفصائل الموالية لتركيا، ام ثورة الائتلاف السوري. 
 واخيرا تقول الاتاسي، ان الإدارة الذاتية تضع نفسها في عداء مع الكثيرين نتيجة خياراتها السياسية، طيب وما هي الخيارات السياسية لهؤلاء (الكثيرين)، ماذا قدموا للثورة!؟ وللسوريين عامة، وماذا قدموا للكورد خاصة، ان كانت الاغلبية منهم، تخلت عن الاجندة السورية، وباتت تعمل وفق الاجندة التركية، في حين تركيا باتت الشريك الاستراتيجي لروسيا وايران اكبر حلفاء نظام الاسد، والذي بفضلهم استطاع الحاق الهزيمة بالمعارضات سياسيا وعسكريا، فاذا حاسبت الاتاسي الكورد على مهادنتهم لنظام الاسد، عليها بنفس القدر محاسبة المعارضات على تحالفهم مع قوى خارجية تؤكد الوقائع اليومية انها معادية للثورة الحقيقية ثورة الحراك السوري السلمي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…