د. ولات ح محمد
لماذا حاربنا في الرقة ودير الزور؟، لماذا قدمنا الآلاف من شابات الكورد وشبابهم قرابين مجانية من أجل تحرير مدن الآخرين. أين تقع الرقة؟ أين هي دير الزور؟ وأين هي باغوز؟. هل هي مناطق كوردية حتى يقطع شبابنا مئات الكيلومترات لمحاربة داعش هناك؟ وماذا يجني الكورد من خوض هذه الحروب في غير مناطقهم سوى كراهية الآخرين من أبناء تلك الجغرافيات؟. هذه الأسئلة وغيرها يطرحها بعض الكورد منذ سنوات وما زالوا.
الصحافي الفرنسي مارك روسّل كان يغطي الحدث ميدانياً في الشمال السوري عام 2014 وكتب بعد ذلك بعام واحد مقالاً (قام بترجمته الباحث والكاتب إبراهيم محمود في إطار سلسلة من المقالات التي دأب منذ مدة على ترجمتها ونشرها في موقع ولاتي مه) يقول فيه: “عندما جئنا للمرة الأولى (…) إلى كردستان السورية، كانت كوباني محاصرة من قبل الدولة الإسلامية. (…) وقام الجهاديون أنفسهم بمضايقة المواقع الكردية على أبواب بلدة سري كانيه الصغيرة. (…) وأعلن آخر الأخبار عن السيطرة على تل أبيض من قبل وحدات حماية الشعب (…) وخاصة أنهم يسيطرون الآن على نقطة العبور الوحيدة بين الرقة (…) وتركيا. اللحظة حاسمة، فمنذ عام على الأقل، كانت تل أبيض إحدى نقاط الدخول إلى سوريا من طرف الجهاديين الأجانب الذين انضموا إلى صفوف داعش، بموافقة أردوغان. إنما الأمر الأكثر أهمية هو أن نقطة العبور لخط الأنابيب هي التي تسمح للإسلاميين بالتصدير إلى جهة النهم والجشع المناسبين الأتراك بالنفط الذي سرق من الشعب السوري. إن إيقاف الضغط يعني إنهاء لعبة أردوغان المزدوجة: من جهة، الناتو، أوروبا، ومن جهة أخرى، دعْم داعش لتبديد شمل الكرد. وإذا تمكن هؤلاء (يقصد القوات الكوردية) من السيطرة من الشرق إلى الغرب على الحدود مع تركيا، فستكون بداية اختناق لداعش، فإذا حُرم أفراده من مبيعات النفط ومصادر إمدادها من الرجال والأسلحة، فإن المنظمة لن تستمر طويلاً. وسيكون ذلك بمثابة ارتياح للجميع وانتصاراً كبيراً للكرد”. هكذا يصور المخرج والصحافي الميداني الفرنسي المشهد عام 2015.
التنظيم في تلك المناطق الغنية، إذاً، كان يحصل من موارد النفط وغيرها على تمويل لا ينضب، كما كان يحصل على العناصر البشرية والأسلحة عبر الحدود التركية مع الرقة. وكان من شأن هذا الأمر أن يساعده على البقاء والتمدد خارج مناطقه لاحقاً. من هذه الناحية كان نقل المعركة إلى مناطق التنظيم في الرقة ودير الزور ضرورياً لقطع هذا الشريان المادي والبشري عن التنظيم، ولمنعه بالتالي من فرصة النمو والتمدد باتجاه المناطق الكوردية المتاخمة لمناطق سيطرته. انطلاقاً من هذه الرؤية للمسألة وبناء عليها دعونا ننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى متممة للأولى لنطرح السؤال الآتي: ماذا لو بقيت القوات الكوردية على حدود مناطقها تدافع عن مدنها وقراها دون أن تغادرها إلى أماكن أخرى كما يطالب بعض الكورد منذ سنوات؟.
حتى نضع المسألة في نصابها الصحيح يتوجب علينا أن ننظر إليها بما أسميها “العين الثالثة” بعيداً عن الحسابات الحزبية والمناكفات الشخصية، كي نكون منصفين في تقييمنا للموضوع. لذا سنعود قليلاً إلى الوراء لنتذكر أنه في عام 2014 كانت وحدات حماية الشعب تدافع عن سري كانيه/ رأس العين وتقف في وجه المجموعات الجهادية المسلحة على تخوم المدينة. كما كانت تدافع عن كوباني على تخوم المدينة ضد هجوم داعش، فما الذي حصل؟. استولى التنظيم على كل القرى المحيطة بكوباني ثم استولى على 85% من المدينة نفسها وكلف إخراجه منها المئات من الشهداء ومئات الآلاف من المهجرين وتدمير المدينة تدميراً شبه كامل.
هذه العودة كانت ضرورية لأننا سنبني عليها هذا السؤال: ماذا لو سقطت آنذاك سري كانيه/ رأس العين أو كوباني أو كلتاهما بيد المجموعات الجهادية المسلحة أو بيد داعش؟ الجواب: كان الطرف المنتصر المحتل سيدخل بعدها عامودا وقامشلي والحسكة وديريك وغيرها خلال أيام أو أسابيع على أبعد تقدير وكان مصيرها سيكون كمصير كوباني ومصير أهلها كمصير أهلها. خصوصاً أن تلك المجموعات كانت مدعومة من قوى محلية وأطراف إقليمية تمدها بالرجال والسلاح. هذا يوضح الضرورة الاستراتيجية لأنْ تحارب عدواً خارج منطقتك، إذا كنت تعلم أنه سيهاجمك حتماً آجلاً أو عاجلاً، لأنك إن لم تذهب إليه في منطقته سيأتي إليك في منطقتك، وبدلاً من أن تكون مناطقه ساحة حرب ستكون مناطقك ساحة حرب لأنك انتظرته ليأتي إليك.
دول مثل أمريكا وفرنسا وأستراليا وكندا وغيرها ترسل جنودها وعتادها لمحاربة هذه التنظيمات في مناطق مثل أفغانستان والعراق وسوريا كي لا يصل الإرهاب إلى إليها هي. ولو فكرت تلك الدول بمنطق حساباتنا الضيقة لما خرجت من ديارها ودفعت بأبنائها وأموالها لمحاربة تنظيمات تقف على بعد آلاف الأميال من بلادها. أما نحن فمن جهة نطالب تلك الدول بإرسال أبنائها من وراء المحيطات لحمايتنا وحماية مناطقنا ومحاربة الإرهاب، ومن جهة ثانية نقول: لماذا نرسل أبناءنا لمحاربة الإرهاب في جوارنا مناطقنا ومدننا؟.
دعونا نتصور، إذاً، أن القوات الكوردية ظلت تدافع عن مناطقها وتحارب داعش والمجموعات الأخرى على تخوم المدن الكوردية فقط دون الذهاب إلى أي مكان آخر. ما الذي كان سيحل بتلك المدن والقرى؟. الجواب: الدمار والقتل والتشريد، لأن المعارك كانت ستدور في محيطها أو داخلها (كما حدث في كوباني). إن ما أبقى المدن والبلدات الكوردية بعيدة عن ميادين المعارك المدمرة هو أن القوات الكوردية خاضت تلك المعارك خارج مناطقها، وذهبت لمحاربة الإرهاب في مناطق سيطرته، ولو بقيت في مناطقها ومدنها لجاءها التنظيم ليخوض تلك المعارك في عفرين وقامشلي والحسكة وعامودا وغيرها، ولكانت تلك المدن وقراها مسارح لتلك المعارك المدمرة، ولكانت تلك المدن وأهليها من الكورد وغيرهم في وضع مختلف تماماً الآن.
أين كانت المعركة الأخيرة ضد الجيب الأخير لداعش؟ كانت في باغوز. وأين كانت باغوز؟ في شرق دير الزور قرب الحدود العراقية. معارك تحرير الرقة وديرالزور وأخيراً باغوز وقبلها كوباني أدت إلى تدمير قسم كبير منها بسبب قصف طائرات التحالف مواقع التنظيم ومخازنه وأنفاقه فيها. لو لم تذهب القوات الكوردية لمحاربة داعش خارج مناطقها، لكان يمكن لمثل هذه المعركة ضد هذا الجيب الأخير (باغوز) أن تكون في إحدى البلدات الكوردية في عامودا أو ديريك أو تربه سبي، ولكان التدمير والقتل والتشريد من نصيبها ونصيب أهلها أيضاً.
حينذاك، وبعد تلك المعركة الأخيرة وما كانت ستخلفه من دمار وقتل وتشريد، من المؤكد أننا كنا سنكتب مقالات عظيمة عن بطولات أبنائنا، وكنا سنصدر بيانات قوية للمطالبة بإعادة المهجرين وتقديم المعونات لمن هم في المخيمات، وكنا سنكتب قصائد عصماء نرثي فيها شهداءنا (كانت أعدادهم ستكون أضعافاً مضاعفة عن الآن) ونبكي على أطلال المدن المدمرة، وكنا سنكتب كلمات الفخر والفرح بالنصر المؤزر على داعش وسط كل ذلك الدمار والركام والقتل والتشريد الذي خلفه وراءه. طيب يا سيدي، لماذا لا تكون سعيداً وفخوراً وقد تحقق ذاك النصر من دون كل ذلك القتل التشريد والخراب؟.
ببساطة نحن أمام فعل ونتائجه: الفعل هو أن القوات الكوردية حاربت تنظيم داعش خارج مناطقها ودفعت الآلاف من الشهداء للقضاء عليه. أما نتائج ذلك الفعل فهي تخليص المنطقة وأبنائها من شرور الإرهاب ومنعه من التمدد إلى المدن والبلدات الكوردية والحفاظ عليها سليمة بعيدة عن الحرب والدمار والحفاظ على أبنائها (الكورد وغيرهم) من التشرد على حدود الدول والتشتت في الفيافي والمخيمات. المفارقة الغريبة هنا هي أن يأتي أحدهم ويقول لك: نعم، نتائج الفعل هذه ممتازة وأنا سعيد بها، ولكن الفعل نفسه سيئ وخطأ عظيم !!!!، فهل العدل والمنطق تسمحان لك يا سيدي أن تكره وتستنكر الفعل، بينما تحب نتائجه وتصفق لها وتسعد بها؟!!.
دماء الآلاف من الشهداء الكورد لم تذهب هباء؛ فتلك الدماء (وغيرها) خلصت أبناء المنطقة كلها من الإرهاب الذي لم يكن لأحد أن ينجو من شروره، وكان الكورد وما يزالون على رأس المستهدفين المفضلين لديه. تلك الأرواح الطاهرة لم تقضِ مجاناً، بل ذهبت قرابين لتبقى المدن الكوردية سليمة آمنة، وليعيش الملايين من أبنائها من الكورد وغيرهم بأمان واطمئنان في ظل هذا الرعب والخراب الذي بات يعمّ المكان برمته. هل تستطيع يا سيدي أن تقول للناس كيف كان يمكن أن يتوفر كل ذلك السلم والأمان لهم ولعائلاتهم ولمناطقهم ولبيوتهم ولممتلكاتهم لو أن تلك الحروب كانت تدور في مدنهم أو على تخومها منذ سنوات؟.
ولكن أين هي باغوز؟ سؤال ضروري، ولكن ليس لإدانة من حررها من الإرهاب، بل لكي يعرف السائل نعمة المسافة التي كانت تفصل مدينته وأهله وبيته عن المعارك والدمار والقتل والتشريد والتهجير التي كانت تحدث هناك، وكي يعرف أيضاً لماذا يعيش هو ومدينته بأمان، رغم حجم القتل والتدمير الذي حدث في محيطه كله. فهل عرفت يا سيدي الآن كم تبعد مدينتك من باغوز؟ وكم كانت مسافة الأمان بين ساحة المعركة هناك وبين مدينتك وبيتك وأهلك وجيرانك الآمنين حتى الآن على الأقل؟.