مكان لم تسمع به قط *

براف عباس
أتصور أن معظم الناس يستنسخون طفولتهم من خلال رائحة الطباشير الملونة، والطعام المطبوخ في المنزل، والعشب الطازج المقطوع وغيره. ما يعيدني هو رائحة البنزين والدخان والأوساخ والطين. فإن أي شخص يقضي وقتًا كافيًا في سوريا يصبح معتادًا على تلك الروائح في نهاية المطاف.
 كلا والديّ من مدينة القامشلي في روج أفا، أو كردستان الغربية. نظرًا لأنكم ربما لا تعرفون ذاك المكان، سأوفر لكم بحث google. لقد جئت من أرض عديمة الجنسية في الشرق الأوسط، حيث ينقسم شعبي بين أربعة بلدان. إحدى هذه الدول الأربع هي سوريا، زرتها في طفولتي عدة مرات، قبيل سن الدراسة وقبل تهجير عائلتي، وتحولها إلى أرض قاحلة مزقتها الحرب.
 بالنسبة إلى معظم الناس، فهي ليست بلدًا جميلًا، ولا سيما الحالة التي تعيشها الآن. جلهم ليس لهم خبرة بالأرض غير المستوية المغطاة بأمواج العشب الخضراء. ولا يشعرون بسعادة عند مشاهدة شروق الشمس الأكثر لوناً بلا حدود، ولا يملكون الفرصة لرؤية النجوم التي لم تدمرها التلوث الضوئي. لكنني كنت محظوظة.
خلافًا للاعتقاد السائد، فإن الشرق الأوسط ليست صحراء كبيرة، فيها بعض المباني المنتشرة هنا وهناك. عندما أفكر في المدينة التي بقيت فيها لفترة قصيرة، أرى مبانٍ باللون الرمادي وطرق مغبرة تطل على القرى في الضواحي. أفترض أنها كانت ريفية أكثر من أمريكا، لكنها بالتأكيد حية ومزدهرة.
رغم وأني طفلة، كنت أبقى مستيقظة حتى بعد شروق الشمس، أنا بومة في القلب بعد كل شيء. أو ربما كان مجرد jetlag. لسبب من الأسباب، كنت أسهر أكثر مما كان من المفترض أن أكون.  أشاهد إعادة رسم كاريكاتوري حتى ولو لم أجده مثير للاهتمام، وبشكل خاص كان يقلقني عندما كان نور الضوء الطفيف يمرق من النافذة في الصباح ويضيء زاوية عيني. في أحد الأيام وبعد الشروق وقبل الذهاب إلى الفراش في وقت متأخر غير مهذب كطفلة، تجولت في الشرفة لرؤية الشمس وهي تطل على المباني الرملية. كان هناك عدد قليل من الناس يتجولون الطرقات في الصباح الباكر، فتساءلت عما يمكن أن يفعلوه في مثل هذا الوقت، ربما كانت حرارة الصيف الملتهبة سبباُ، أو تغير الضوء في المنطقة، أو ربما أتذكر ذلك بطريقة مختلفة، لكن مشاهدتي لشروق الشمس في أرضي كانت مختلفة عما رأيتها في أمريكا.
 واحدة من أكثر الذكريات حيوية في روج أفا هي الفترة التي زرت فيها قرية جدي. عندما أخبرتني والدتي عن الجبال في كردستان، كنت مصممة على صعود قممها والنظر إلى الأرض في أدناها. بينما كنا نستقل السيارة إلى القرية، نظرت حولي وأتوقع أن أرى نقاطاً حادة تخترق السماء، لكنني رصدت التلال الكبيرة فقط في أحسن الأحوال. شعرت بخيبة أمل شديدة من والدتي، ربما كان ينبغي أن تخبرني أننا لن نتسلق الجبال في ذلك اليوم. بقدر ما حاولت أن أكون مجنونة، استمتعت بالركض على التل، تدحرجت إلى أن شعرت بالدوار. لم يكن مرتفعا كما كنت أتمنى أن يكون، ولكن كان لا يزال أمامي تحقيق أمنيتي برؤية أرضي من الأعلى. ولكن بمجرد التدحرج إلى أسفل التل / الجبل مرات كافية عند حلول الظلام تم نقلي إلى القرية.
كان هناك أثاث بسيط للغاية في غرف المباني الريفية الطويلة، تغطيها السجادات، والوسائد المنتشرة فقط للجلوس، مع بعض الطاولات. كان المبنى يضم العائلة والعديد من الأطفال، يعيشون هناك بتآلف. في ذلك الوقت، كنت أتعجب كيف يمكن لعائلة بهذا العدد تقاسم مساحة صغيرة من هذا القبيل.
 بجانب المنازل البسيطة كانت هناك زريبة الماعز والغنم والتي كانت أكبر بكثير من المباني. أفترض أن لديهم أولوياتهم. كانت حظائرهم والتي تم إيواء صغار الماعز فيها مهملة سوداء ومعتمة، مع ذلك شققت طريقي في الظلام محاولة عدم الوقوع والاصطدام بأي شيء غامض، مع الخوف من أن تدهسني الماعز. أنا لا أتذكر أي شيء عن الناس هناك، ولكن أتذكر وقتي مع هؤلاء الأصدقاء اللطفاء. حاولت ركوبهم، ركضت معهم، حاولت أحداهن تناول سوارتي. حتى الآن وفي أي وقت أشم رائحة الطين أو رائحة مزرعة حيوانات، يتبادر ذلك المكان إلى ذاكرتي.
 في المساحة الفارغة أمام الأكواخ والمباني، كان هناك مكان يجتمع فيه الجميع للتدخين والتحدث ويكونوا مع بعضهم البعض. كانت تختلط رائحة الدخان الذكية من الشيشة مع دخان النار الدافئة، ومعًا تصعد إلى سماء الليل المرصعة بالنجوم.
  بعد اللعب مع أصدقائي الجدد، الحيوانات الأليفة لفترة كافية، أظهر لي عدد من الأطفال الطريق إلى قمة المبنى. وهناك تمددت على ظهري محدقة في سجادة من النجوم الأكثر وضوحا خارج المدينة. عندما كنت طفلة، كنت دائماً أتحرك وأفعل شيئًا ما، من اللعب إلى الركض أو الضحك، لكنني هنا تسمرت ولم أجد سببًا لترك هذا المشهد.
لا أستطيع أن أتذكر ما تناولته أمس على العشاء، لكنني أتذكر كل شيء عن تلك القرية الصغيرة. صوت طقطقة النار، وشعور لمس الفراء الناعم، ورائحة الأوساخ والدخان، جلها لا تزال حية مثل ذكريات اليوم السابق، وربما أكثر من ذلك. تلك الذكريات البسيطة هي ما أتمسك بها لأنتصر على مشاعري عندما أرى الضرر الذي لحق ببلدي.
 على الجانب الآخر من الشقة الدافئة في المدينة، التي بقيت فيها مع أجدادي كان متجر أدوية صغير. نظرًا لعدم وجود وفرة من الوجبات السريعة في روج آفا كما هو الحال في أمريكا، كان يأخذني جدي بابا فواز للحصول على الحلوى والآيس كريم كلما أردت.
 حصلت على رؤية بابا فقط في المرات القليلة التي زرت فيها Rojava، لكنني لا أزال أفتقده. بينما تصرفات جدتي كانت أشبه بالنيران في الهشيم، كان بابا كضوء الشموع، كل شيء عنه كان مريحًا، من اعتناقه إلى رائحته، جميعها تبعث الهدوء والسكينة. ليس لدي ذكرى واحدة له حيث لم يكن يبتسم أو يحاول أن يجعلني سعيدة، ولا ذكرى واحدة. كلما رأيت شخصًا بلحية فضية أو هالة دافئة يذكرني بـ بابا، أشعر بشوق لشيء فقدته منذ فترة طويلة، ولكني لم أدرك ذلك.
 بعد سنوات قليلة فقط، بدأت الحرب الأهلية، وأشاعت الفوضى على كل الجهات وفي جميع أنحاء الأرض. أجدادي وأبناء عمي وأعمامي فروا وتناثروا في بلدان مختلفة وفي كل بقاع العالم لئلا يقعوا في مرمى النيران. عندما غادر والدا أمي الوطن روج آفا، تدهورت صحة بابا بسرعة، كما لو أن الحرب جاءت معه. توفي في فصل الشتاء الانقلابي، قبل أن يرى أطفاله، قبل أن يراني.
 بدأت فوضى الحرب في بلدي تفقد الزخم، حتى أن البعض يقولون إن الأمر قد انتهى الآن. بمجرد أن تقرر السلطة الطائشة التوقف عن تدمير الأرض، ربما أستطيع أن أرى منزلي مرة أخرى. عندما يحين الوقت، أستطيع أن أرى قرية والدي التي يتحدث عنها دائمًا ويصنع ذكريات جديدة من تلك القديمة. ربما أستطيع أن أرى حقول الزهور البرية، وربما أستطيع تسلق الجبال، وربما أستطيع أن أرى النجوم مرة أخرى.
 
براف عباس-Perav Ebas 
الولايات المتحدة الأمريكية
8 أبريل 2019
*ذكريات من طفولة براف عن كردستان روج آفا، وهي الأن طالبة في الصف الحادي عشر.
ترجم عن النص الإنكليزي المرفق أدناه
A Place You’ve Never Heard Of
By Perav Abbas
I Imagine most people associate their childhood through the scents of crayons, of home cooked food, of fresh cut grass and such. What brings me back is the smell of gasoline, of smoke, of dirt and mud. Then again, anyone who’s spent enough time in Syria becomes familiar to those scents eventually.
Both my parents are from the city of Qamishli in Rojava, or Western Kurdistan. Since you probably don’t know where that is, I’ll save you the google search. I come from a stateless land in the Middle East, where my people are split between four countries. One of those four countries is Syria, where I visited as a child only a few times before my family was forced to flee and it turned into a war-torn wasteland.
To most, it isn’t a beautiful country, especially the state it’s in now. But most don’t experience the uneven land blanketed in green waves of grass. Most don’t have the pleasure of watching the sun rises that are infinitely more colorful. Most don’t have the opportunity to see the stars that aren’t ruined by light pollution. I was the lucky one.
 Contrary to popular belief, the Middle East isn’t a big desert with a few buildings scattered here and there. When I think of the city I stayed in, I see beige buildings and dusty roads overlooking villages on the outskirts. I suppose it was more rural than America, but it was certainly alive and thriving.
Even as a kid, I stayed up past sunrise, I’m a night owl at heart after all. Or maybe it was just jetlag. For whatever reason, I was up much later than I was supposed to be. I was watching reruns of a cartoon I didn’t find particularly interesting when the slight glare of light from the window shined in the corner of my eye. Before going to bed at an ungodly late time, I wandered over to the balcony to see the sun peeking over the sandy buildings. There were a few people wandering the roads in the early morning, and I wondered what they could be doing at such a time. Maybe it was the dry heat of summer, the change of light in the region, or perhaps I just remember it differently, but watching that sun rise in my home land was different than any I’ve ever seen in America. 
One of the more vivid memories in Rojava would be the time I visited a village of my grandfather’s. When my mother told me about the mountains in Kurdistan, I was determined to scale their peaks and look down at the land below. As we were driving to the village, I looked around expecting to see sharp points piercing the heavens, but I only spotted large hills at best. I was quite disappointed with my mother, perhaps she should have told me we weren’t going to be mountain climbing that day. As much as I tried being mad, I still had fun running up the hills and making myself dizzy by rolling down. It wasn’t as high as I’d hoped it would be, but I still got to see my land from up above. Once I rolled myself down the hill/mountain enough times, I was led into the village by nightfall.
There was very minimal furniture in the long, rustic buildings, only rugs and cushions to sit on with a few tables scattered about. It housed the family and many children living there. At the time, I wondered how such a small space could be shared.
Next to the minimalistic houses were the goat pens, which were much larger than the buildings. I suppose they had their priorities. It was pitch black where all the goats were housed, so I made my way through the darkness trying not to bump into anything fuzzy with the fear that they might step on me. I don’t remember anything about the people there, but I remember my time with those fluffy friends. I attempted to ride them, ran with them, one of them tried eating my bracelet. Even until now, anytime I smell mud or farm animals, that place always comes to mind.
In the empty space in front of the pens and buildings was a space where everyone would gather to smoke and speak and be with one another. The scent of sweet smoke from the hookah mingled with the smoke of the warm fire, mixing together as it rose to the starry night sky.
After playing with my new animal friends for long enough, a few of the children showed me the way to the top of a building. I laid on my back and gazed at the blanket of stars more visible outside of the city. As a child, I was always doing something, whether it was playing or running or laughing, but I couldn’t find a reason to leave such a view.
 I can’t remember what I had for dinner yesterday, but I remember everything about that small village. The sound of a fire crackling, the feel of soft fur, the smell of dirt and smoke are as vivid as my memories of the day before, maybe even more so. Those simple memories are what I hold on to when I see the damage done to my country.
Across from the homey apartment I stayed in with my grandparents was a small drug store. Since there isn’t an abundance of junk food in Rojava like there is in America, my grandfather, baba Fawaz, took me to get candy and ice cream whenever I wanted. 
I only got to see my baba the few times I visited Rojava, but I still can’t help missing him. While my grandmother acts more like a wildfire, my baba was a candle light. Everything about him was so comforting, from his embrace to his scent, it was all calming. I don’t have one memory of him where he wasn’t smiling or trying to make me happy, not a single one. Whenever I see someone that reminds me of my baba, with a silver beard or warm aura, I feel a longing for something I lost long ago but never realized.
Only a few years later, the civil war started, inciting chaos from all sides across the land. My grandparents, my cousins, my aunts and uncles fled and scattered to different countries across the world so they wouldn’t be caught in the crossfire. When my mother’s parents left, my baba’s health deteriorated quickly, as if the war came with him. He died on the winter solstice, before he could see his children, before he could see me.
The chaos of war in my country is losing momentum, some even say it’s over now. Once the power hungry decide to stop wrecking the land, maybe I can see my home again. When the time comes, I can see my father’s home village that he always talks about and make new memories from the old ones. Maybe I can see the fields of wildflowers, maybe I can climb the mountains, maybe I can see the stars again.
Perav Abbas
USA
8 April 2019

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…