د. محمود عباس
نستخدم عبارة الآرامية قاصدين بها: السريان والكلدان والنساطرة؛ لأن جذورهم آرامية، واللغة التي يتكلمون بها عبارة عن لهجات آرامية، والاختلاف بينها ليس كبيرا. فالآرامية هي السريانية قبل دخولهم المسيحية. والسريانية بحد ذاتها تنقسم إلى شرقية وغربية، لغة، كما ذكرنا الفارق ليس كبيرا بينهما.
قد يبدو للقارئ الكريم بعد قراءته الحلقة السابقة أننا صورنا الآراميين كأناس: سريعا ما انحلوا فيمن احتلهم… فالأمور ليست بذلك الشكل تماما؛ ولكن فيها الكثير من الذي أهمِل حتى انحلوا إلى حد الانقراض تقريبا.
كي لا يُظن بنا أننا لم نرع المآسي والكوارث التي حلت بهم على أيد المسلمين عربا كانوا أو غيرهم؛ لتكون عاملا مهما لانحلالهم وإذابتهم في العرب، غير أن هذا الإجبار شمل الكثير من الشعوب التي أسلمت قسم منها ولكن ظلت تلك الشعوب بمن أسلم منهم ومن لم سيؤسلم محافظة على ذاتها ولغتها.
جدير أن نتطرق إلى بعض المقارنات بين هذا الشعب وشعوب أخرى اجتاحتهم غزوات العرب المسلمين، وأذاقهم المسلمون العرب كما أذاقوا الشعب الآرامي العريق. وعراقتهم لم تسعفهم بشيء في صون لغتهم والحافظ على ذاتهم، وعدم الإفراط بأرضهم ومدنهم التي لا زالت تحكي أمجاد أسلافهم الباهرة، في كل بقعة وتحت كل ركام من بلاد الشام التي كانت يوما ما آرامية ذات حضارة وتاريخ ومآثر.
فاللغة من العوامل المهمة في جعل شعب ما يبقى على قيد الحياة، فالفراعنة انقرضوا عندما ضاعت لغتهم، والفينيقيون اندثروا بتلاشي لغتهم وشعوب وأقوام غيرهم طمرتهم أغبرة الأيام والأزمان، وفي كل ذلك كان ضمور اللغة وانقراضها العامل الفعلي لما آلت إليه تلك الأقوام والشعوب.
وليس من نافل القول إذا قلنا: لو أنهم لم يستبدلوا لغتهم بلغة المحتل لما انحلوا كشعب، ولكان الآراميون في غالبيتهم أمة آرامية مسلمة، مع احتفاظ قسم منهم بديانتهم المسيحية، كما هو حال بقية الشعوب التي أسلمت أغلبيتها، ولم تضمحل في العرب، بالرغم من احتلال العرب المسلمين لأوطانهم كالترك والفرس والأفغان وغيرهم… من الطبيعي أن تكون لهم مكانة بين الأمم الأوربية شرقيها وغربيها كما هي لليونانيين، فهم لا يقلون عن اليونانيين علما وعلماء وتاريخا، ولكن هذا الاستعراب الذي لم يأخذوه مأخذ الجد أضاع عليهم كل شيء تقريبا.
لولاه (الاستعراب) لكانت دمشق وبيروت وعمان وفلسطين… آرامية أصلا وفصلا كما كن عليها قبل الفتح العربي الإسلامي، ولكن كشعب سواده الأعظم مسلم، لافتخر بجدارة فائقة بالسيد المسيح ووالدته العذراء، لأن الرب اختار أن يكون سيد المسيح منهم دون غيره، وهذا لشرف عظيم. والآن تحت حوافر جمال الصحراء تحولوا إلى قلة قليلة مقارنة مع العرب من الخليج إلى المحيط، يقتصر تميّزهم بدين كتابه المقدس متحول من لغة صاحبه إلى لغة محتله، وأغلب طقوسه الدينية تقام بنفس اللغة، مع كونهم سليل سيد المسيح، ولكن باستعراب. حافظ دينهم على نفسه أمام الإسلام ولكنه انهزم أمامه لغة وشعبا.
ما السر في هذا الذوبان؟
هناك مقال، بالأحرى بحث نشره موقع (Syriac Studies) وهو موقع مسيحي يعني بالدراسات المسيحية، بعنوان “أصل المسيحيين في سورية وفلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي”، يبين فيه أن سكان سوريا وفلسطين في البداية لم يكونوا ساميين؛ ثم صاروا ساميين وبغالبية آرامية. يحاول البحث أن يؤكد أن هؤلاء صاروا عربا، عندما حلت العربية محل لغتهم الأصلية. كما ويعرض البحث الأسباب التي دفعتهم إلى الأسلمة، منها الإكراه ومنها الجزية بعد ذاك الفتح.
كإن يجد البحث المبرر لتخليه عن اللغة متناسيا أن غيره من الشعوب أيضا تعرضوا للإكراه والجزية، ولكن الذي أسلم لم يتخلَ عن أهم شيء يحفظ له كيانه كشعب، وإن أسلم. فسبب الإكراه للتحول إلى الإسلام لا يمنع المتحول من أن يحتفظ بلغته، لم يفرض العرب على الفرس وغيرهم ترك لسانهم -إذا فرضنا جدلا، أنهم أجبِروا على التخلي عن لسانهم- يقودنا هذا، أن نتساءل لماذا لم ينقرض هؤلاء كما انقرض الآراميون عندما تحولوا إلى الإسلام؟ استبدال المسلم الآرامي لغته بالعربية لشيء جدير بالملاحظة والاهتمام. فالحجة التي يبرر هؤلاء المستعربين (الآراميين) أنفسهم هي بطش حكام المسلمين بهم عربا كانوا أو غير عرب. لا نظن أن الأرمني نجا من بطش هؤلاء الحكام، إلا أنهم لا زالوا أرمنا لغة وشعبا وديانة. فوجود الأرمني يدحض هذه الحجة جملة وتفصيلا. وهناك حجة أخرى هي أنه كان بين الآراميين عرب متنصرون، فالمتحدثون بالعربية من هؤلاء المتنصرين هم عرب، وليسوا آراميين! يا للعجب، معظم أدبياتهم تؤكد أن معظم سكان بلاد الشام كانوا آراميين.
بعض الاحتمالات في هجر الآراميين لغتهم
هجروا لغتهم للتخلص من الجزية؛ تخلصوا منها (اللغة) اتقاء للشبهات؛ تخلصوا منها مجبرين، تخلصوا منها لتقربهم إلى الدين الجديد… ما يدور في خلدنا شك بهذه الاحتمالات عن تركهم للغتهم؛ لأنها ليست مبررات وجيهة، وعليه نستعرض بعض التساؤلات، وبعض المحاكمات المنطقية.
تخلصوا من الجزية بإسلامهم؛ ولكن لماذا تخلصوا من لغتهم؟
دخل الأرمن مثلهم تحت الحكم الإسلامي العربي، ودفع الجزية، ولم يتخلوا عن لغتهم حتى اللحظة.
هل يُعقل أن يجبر الحكام من أسلم منهم أن يتخذ العربية لغته الأساسية في بيته وبين أفراد أسرته، بعيدا عن أعين السلطان ومسامعه!
لا يلاحظ مثل هذه الحالة مع الفرس والترك والكازاخ وغيرهم.
تخلصوا منها، ليبعدوا الشبهات عن نفسهم، على أنه مسلم صادق، وليس مراءٍ.
إن كان ذلك هو السبب، فهو ينبئ عن سوء تقدير وتصرف، أو أنه لم يسلم في قرارة نفسه فتخلص منها؛ كي لا يُعرف عنه أنه يخادع.
ولكن لماذا لم يخبر أبناءه أن يبطنوا ديانتهم إلى أن تحين لهم الفرصة ليظهروها؟
تخلصوا منها مجبرين كما يؤكد البحث: “ولما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان منع استعمال اللغات الأجنبية في دواوين الحكومة… ناهيك بتشديده وتشديد غيره من الخلفاء والحكام على المسيحيين في أوقات مختلفة بعدم استعمال لغة أخرى غير العربية” أهـ.
هنا لا يبين لنا البحث إن كان التشديد في استعمالهم العربية مقصورة على الطقوس الدينية فحسب، أم بشكل عام شدد على مسيحيي بلاد الشام ومصر بشكل خاص دون غيرهم، على أن يتحدثوا بالعربية وحتى فيما بينهم، وإن كانوا بين أفراد عائلاتهم أو ذويهم أو غيرهم من أبناء هذا الشعب.
في هذه الحالة ماذا نقول عن الفرس؟
بالمحاكمة المنطقية لا يمكن للخلفاء منع الناس التحدث فيما بينهم بلغتهم، وليس بإمكانهم تطبيق ذلك عمليا. لو كان هذا ممكنا لكان الفرس أول من استُعربوا لغة. تكمن وراء هذا المبرر علة، تخص طبيعتهم ومنطقهم.
وفي الختام لا يسعنا سوى أن نتساءل أليس من المخجل أن يفتخروا باستعرابهم الذي جاء قسرا وليس طواعية؟ فالحجج التي يقدمونها لنا عن استعرابهم القسري ومتناسين أن مجاوريهم لم يفلتوا من ذلك القسر مرفوضة عقلا ومنطقا.
ما يؤسف ويحزن له في آن أن الآرامي إن كان مسلما أو مسيحيا لم يعد له وجود، وما بقي منهم أولئك ممن تمسكوا بالمسيحية، ولكن كعرب. وانحصرت الآرامية في القلة القليلة التي هي في حساب العدم، سكان معلولا مثالا، لم يتخلوا هؤلاء عن لغتهم (نكن لهم كل التقدير والاحترام، ونحييهم على صمودهم هذا)، المحزن أن معظم أبناء شعبهم انقلبوا عليهم كما انقلبوا على سيد المسيح؛ حين هجروا اللغة…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/2/2019م