متى يصبح الكُرد شعباً ؟: مقالة نوروزية «دهوكية»

 ابراهيم محمود
إلى حفيديَّ: Herêm  û  Mîna 
المسافة الزمنية والدلالية بين سلف الكرد الأسطوري كاوا الحدّاد، وكيف وصل إلينا مُرفَقاً بناره حيث زيتُها دمه ويقظته، وحيث إن ” 21 “آذار: نوروز الكردي ينعطف عليه، والكردي اليوم الذي كثيراً ما تُرفَق صورته المتخيَلة ونار دمه بالكباب، والنار المحضَّرة في الوقت المعلوم، مسافة تدركها ذاكرة الجبل الذي ينتسب إليه الكرد كثيراً، وليس السهل حيث يكون لسان الكتابة كثيراً. ورغم ذلك، فإن خصوم الكرد الأشدّاء أو أعداءه، مازالوا ينظرون إلى كردي اليوم كما لو أنه كاوا الذي كان وكأنه لم يمت، رغم مساعيهم تمييع المناسبة بجعل النوروز خاصَّتهم أيضاً، إنما مع استبعاد كاوا:هم الحدّاد !
وأن يخرج الكرد في الـ” 21 ” آذارياً 2019، حيث مضاعفات الرقم ” 7 ” وما في الـ” 7 ” هذه من نشدان للكمال، أن يصبح الكرد في حضن الطبيعة، بين راحات جبلية، فليعيدوا دورة الزمن ” كاويّاً ” كما لو أن كلاً منهم كاوا، وأن الشعلة النوروزية ” الحضارية ” : شعلة معَدة، أو شمعة تضيء مدخل البيت، أو على شرفته، فإعلام بالتحول، كما لو أن الشعلة النارية المحمولة، كما لو أن الشمعة المشعولة تلك شمس صغيرة، أو شرارة مباركة ومستلفة من طرقة كاوا الحدّاد، والطبيعة ” كوره ” والتالي على نوروز: هو المنشود أملاً بالتحول نحو الأفضل .
وهكذا أصبحنا هذا العام، أيضاً، خارج دهوكـ”ـكنا “، حيث جبل زاويته Çiyayê  Zawîte ، كنا بقايا عائلة، لأن أكثر من نصفها حالهم حال غيرنا تفرقوا هنا وهناك، لنصبح في رقعة يضحك أخضرها، كما يترقرق ماؤها، كما ينبض هواؤها العليل بالعافية، أما جبلها ، فقد استشعرته يردّد صحبة صداه: ها نحن نلتقي مرة أخرى، ليشملنا بنداه ومداه، وفينما ما يحترق .
استغرقتُ في شِعر المكان ونثره، في موسيقاه المسموعة حيث تتماوج الصور إيقاعات تلو إيقاعات .
في لحظة ما، انتبهتُ إلى حفيدي ” هريم 4:  سنوات ونيّف ” و” مينا ، سنتان ونصف السنة ” أمعنت فيهما النظر، تحررت من المكان ووطأته، وأنا أمضي بالخيال معهما: ما الذي ينتظرهما؟ أين هما الآن؟ كيف يمكنهما الحديث عن المكان وأمثالهما: أتراباً ” من هم في عمرهما “، هل يمكن أن يكون لهما رفاق طفولة، ونحن نتنقل بين بيوت الإيجار؟ ما أن ينعقد خيط رفقة بينهما وبعض من أهل الجهة/ الحي، وتمد الإلفة بظلها، حتى سرعان ما ننتقل إلى بيت آخر، في جهة أخرى، لأن صاحب الدار يطالبنا بذلك. كيف يمكن لطفولة أن تكون دون رفقة؟ وكيف يمكن لنا أن نتحمل كل هذه السنين من المعاناة وليس من سماع لصياح ديك الصباح؟ كما لو أننا محكومون أن نمضي المتبقي المعنّى من عمرنا هنا وهناك؟!
كيف سيتحدث عنا أحفادنا غداً وبعد غداً، حيث لم نفلح في الحفاظ على رفقة طفولة لهم، ليكون لهم ما يأتنسون به؟ كيف سيحكم علينا أحفادنا غداً وأبعد منه، وقد عجزنا عن تأمين محل إقامة يفي بتوفير بضعة من رفقة طفولة؟
أين يبدأ الوطن ” الكاويُّ ” وأين ينتهي، وكيف؟ هل نحن أمناء حقاً على شعلة كاوا، ونحن شذر مذر؟ هل كان لكاوا طفولة ليرينا ناره، أم لترينا ناره ما كان عليه احتراقاً ؟
أشعر بلمسة ناعمة، من راحة حفيدتي وهي تشدني إليها، داعية إلي أن أقبل على تناول الطعام ومعها أخوها. لا أدري هل هما يخففان عنّي وطأة وحشة الزمن الذي ينخر في أرواحنا، أما أنا الذي أحاول طمأنتهما، وبي ما بي من انجراحات؟ شقي الجواب وبقي السؤال معلَّقاً !
أنا لا أقلل من كرَم دهوك في آداب الضيافة وإشعار المقيم بها بنشوة الأهلية، ولا أي دهوكي أو دهوكية، سوى أن الدرس الأثير لكاوا يهيب بي، وبسواي ألا ننسى من نحن، ألا ينسى كل كردي، من يكون: من أين أتى، وإلى أين يمضي، فليس من قيمة ترفع من شأنه مثل قيمة الجهة التي قدِم منها، وهأنذا منذ سنوات أخالها عقوداً عُمرية، وأتهيأ لرفع شعلة كاوا، أو إشعال شمعة يرتسم في ضوء لهبها المتراقص والمرنان وجهُه الناري الحكيم، وطرْقه البليغ، وزنداه المفتولان، أنتظر وأنتظر، على الأقل حتى يكون في مقدور حفيديّ التعرف على بضعة من رفقة الطفولة قبل أن تفوتهما وأغيب أنا كلّياً عن الوجود، وتنتقل معي حسرة كاوا ورفقة طفولة حفيدي وأمثالهما إلى ما هو معروف لدى كل معذّب بهوى المكان الأول !!؟؟ 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدر الدين تدعو الكاتبة سميرة المسالمة، في مقالها “مواطنون في دولة سورية… لا مكوّنات ولا أقليات” (“العربي الجديد”، 22/12/2025)، إلى “مجتمع من المواطنين… يتحرّرون من الإرث الثقيل الذي خلفه النظام الأسدي باستعادة دورهم ذواتاً فاعلةً، وبناء الثقة المتبادلة فيما بينهم، من خلال تعريف أنفسهم شعباً واحداً لا مكوّناتٍ ولا أقلياتٍ متفرّقة، وتعزيز هُويَّتهم مواطنين لا رعايا”. وتضيف: “فالجماعات الإثنية،…

صلاح عمر في لحظة يفترض أن تكون مكرّسة لرأب الصدع الوطني، وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب والاستبداد، يطلّ خطاب الكراهية من جديد، أكثر حدّة ووقاحة، موجّهًا هذه المرّة ضد الكورد في سوريا، كأن التاريخ لم يعلّم أصحابه شيئًا، وكأن البلاد لم تدفع بعدُ ما يكفي من الدم والخراب. هذا الخطاب ليس عابرًا، ولا مجرد انفعالات على منصات التواصل أو…

د. محمود عباس ما نشرته واشنطن بوست البارحة، 23/12/2025م، تحت عنوان (كيف تسعى الأنشطة الإسرائيلية السرّية في سوريا إلى عرقلة حكومتها الجديدة) لم يكن كشفًا صحفيًا، بل إعادة تدويرٍ لتهمةٍ قديمة تُستحضر كلما اقتربت لحظة تسوية كبرى على حساب الشعوب. التهمة الجاهزة، الكورد والدروز أدوات إسرائيل. والحقيقة الأوضح، لا وجود لعلاقة سرّية ولا مشروع تحالف خفي، بل هناك تهمة سياسية…

بنكين محمد في النزاعات المعقّدة، لا تقلّ خطورة الرواية عن الرصاصة، ولا يكون التلاعب بالصور والكلمات أقل فتكًا من القصف. ما شهدناه خلال الأيام الأخيرة في التغطيات الصادرة عن بعض القنوات العربية الكبرى، وعلى رأسها #العربية و#الحدث و#الجزيرة، لا يمكن توصيفه بوصفه “اختلافًا في الزوايا”، بل انحرافًا سياسيًا وإعلاميًا عن معايير المهنية الدولية. لقد جرى تسويق رواية مضلِّلة تتهم الكرد…