دجلة ومأساة العبّارة

 ابراهيم محمود
حادثة انقلاب العبّارة الموصلية في نهر دجلة، يوم 21 آذار 2019، مروّعة حقيقةً، وهي تضاف إلى قائمة الحوادث المروّعة التي ثقِل بها تاريخ العراق الحديث والمعاصر، والحبل على الجرّاء. كما لو أن لعنة الماء والتراب، الهواء والنار، مشتركة تحصد ضحايا يابسة وماء. وقد كان يردّد قديماً أن استمرارية وجود كوارث كهذه، تعني وجود أخطاء تُرتَكب وتلك ضريبتها. رغم أن هناك من يُسأل عن ذلك، وهؤلاء الضحايا المائة حتى الآن، لم يكونوا ضحايا اليابسة- الماء، أو المدينة، وإنما من يستهينون بالحياة والمنتمين إليها، كهؤلاء الذين ابتلعهم نهر دجلة دونما رجعة زرافات ووحداناً طبعاً.
لا يفي الحِدَاد فجيعة الضحايا عائلات كاملة وأفراد عائلات حقهم من المأتمية وإعلان الحزن ” الرسمي “. وماالذي يصبّر الحزن المتسلسل هذا هكذا؟ تلك طقوس ربما تسهم في المزيد من الفجائع، طالما أن خراباً سياسياً، مرْفقاً بخراب اجتماعي، ونخر قيمي، يُسجّل هنا بطابعه العراقي، وليكون للموت الذي، يبدو ، أنه لا يقبل الحِداد فردياً إنما جماعياً،هوى التنقُّ من مدينة إلى أخرى، ومن جهة فيها إلى أخرى، ويظهر المعرَّضون للموت، وكأني بهم مسلوبو روح المساءلة عما يجري، أو فَقدوا القدرة على تبصرة أنفسهم وواقعهم، يظهر الضحايا وكأنهم في قرارة أنفسهم مسلّمو أمرهم لملاك الموت الشره دونما حدود: ممزّقاً من هنا، حارقاً ومحرقاً من هناك، ومغرِقاً حتى النهاية في مشهد آخر، في مشاهد لا تخلو من قياماتية !
لا بد أن نوروز نفسه منكوب بما جرى، لا بد أنه لبس ثوب الحداد تعبيراً عن الرعب النهري!
بقيت طويلاً أفكّر في الجاري وجور الجاري في النهر الجاري هذه المرة، نظير وقائع سالفة، وتساءلت طويلاً عما يجري، وإلى متى سيجري هكذا… ليست الواقعة عبثية، بمقدار ما تكون سلطة العبث هي المتولية أمر الجاري، حيث المحضَّر للجريمة ملحوظ، أو ما يمكن توقعه، في ضوء التسيب والتجاهل والتغافل، ومن مات فات، وما فات يكون لحساب نفسه وأهله حيث التحضير لميتات تلو ميتات، في مجتمع يتشظى باضطراد، كما لو أن الموصل المنكوبة بجرائم داعشية وويلاتها، لم تسدّد كامل الحساب لملَاك الموت، أو يحقّق الموت ” الزؤام ” النّصاب، لتكون العبّارة دفعة حساب أخرى، ولا يعلَم أي دفعة حساب تالية ستكون، وأين، وكيف، حيث أصبح الموت هائل التنوع، وليس للضحايا إلا أن يُطووا أرقاماً، وألا يكون في مقدورهم محاسبة قتلتهم، أو من هم في عدَاد القتلة، والمستهترين بأرواح الناس، أنّى كانوا ..
لكم قرأت عن الموت، وعن القتلة تاريخياً، بحيث إنه صار في وسعي، وبعيداً عن التفاخر، الحديث مطولاً عن الموت وأصنافه، وكيفية إزهاق أرواح ضحاياه، سوى أن ” خبرتي / معرفتي ” بما تقدَّم، تظهر ضئيلة تجاه ما أصطدم به من ابتداع ميتات، ورعب مشاهد الضحايا، وصراخ أهليهم رجالاً ونساء، حيث تتسع مساحة القهر وتتعمق، إلى درجة أنني أفصح عن إيماني في حالات كهذه، بما هو جلي، وأنا ألوّح بشيء، أكثر من شيء اسمه: القدَر، أو اللعنة، ومفهوم الخسف ” الإثمي ” في التاريخ، حيث تنعدم المسئولية أو المحاسبة، وإن كنت على بيّنة أن ما يجري يكون القدر منه براء، والجغرافيا براء: بيابستها ومائها، بنارها وهوائها، والتاريخ براء، إنما من ليسوا بريئي الذمّة هم هؤلاء الذين يضاعفون أرصدتهم على حساب الأحياء والأموات ” الشهداء ” : لأنهم كانوا أبرياء، ولو أن العبّارة نطقت لسمّت الواحد تلو الآخر ممن يتاجرون بأرواح البشر وحياتهم.
كل لحظة وأنت أقل مأساة يا الموصل: أم الربيعين، أم  الفجيعة تلو الأخرى، أنت وشقيقاتك من المدن الأخرى دونما استثناء في لغتها، بما أن الموت يوحّد ولا يفرّق .
22-3/ 2019 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…