ابراهيم محمود
إلى أمّي التي توفّيت بعد معاناة ” 14 ” سنة من الشلل والخَرَس “
صباح دهوكي راق ٍ، كما كان وجه أمي الصبوح. في حضرة هذا الصباح غمرني طيف أمي الراحلة، كما لو أنها ساءلتني: ألن تكتب عني يا ابراهيم، أولن تكتب عنّي ولدي ابراهيم؟ Ma tu li ser min nanivîsînî kurê min brehîm. هكذا بطريقتها في تهجئة الاسم. احتضنتُ طيفها: وكيف لن أكتب عنك أمّي؟ Ma çawa ez ê li ser te nenivîsim dayê . أمّي حاضرة في كل ما أكتب وأتنفس. ومن يستطيع أن ينكر مثل هذه الحقيقة. أمي الأم التي كانت تفيض أنهار حنان وتفان وهي لم تتجاوز وزناً في أفضل حالات صحتها ” 50 كغ “. هل من غرابة إن سُمّيت الأرض قديماً بالأم الكبرى؟ وأن يسمى الوطن بالوطن الأم، اللغة الأم؟ وأن يكون شرف الوطن شرف هذا الحب. وأن يكون الانقلاب الربيعي ” نوروزاً : يوماً جديداً ” فتكون الأم ارضاً، وطناً، والوطن أرضاً أمّاً، حباً نوزروزياً : آذارياً دون حدود ؟
أن أتحدث عن أمي الـ: نوروز، أو أمي نوروزاً، أو أمي النوروزية، أو النوروية أمي..حيث لا فرق، فكلمات تمضي بي إلى أمي، فلكي أعبّر عن الحد الأدنى من وفائي لها. فهي لم تكف عن أن تكون نوروزاً دائماً. كانت انقلاباً ربيعياً دائماً. أو لم تكن الشعوب ” قديماً ” أذكى منّا حديثاً، إذ اعتبرت الأرض أمّاً كبرى؟ هل يعلم المطَّلع بأن الأرض بمفهومها الكوني لدى السومريين كانت تُسمّى Mê ؟ ومن هنا جاءت الاشتقاقات الأخرى “mêrî mêriyam, meryem marî ” . وكلها دالة على الأم والزواج. فالأم هي المنجبة، كما هي الأرض منبِتة، والذي تعلَّم الإنسان ما لم يُعلَم، كانت المرأة: الأم، هي التي علَّمته ما لم يعلم، بوصفها أرضاً، مأوى روحياً .
سأحدّث قارئي، صديقي، أخي في رضاعة أرضية، من رحم أرضي إنساني عن حكاية ترددتْ قديماً، أو أسطورها أوردها جيمس فريزر في كتابه ” أساطير النار ” وهي أن النار اكتشفت من قدْح ناري ” شرارة من بين فخذي المرأة “. أتريدون تسمية النقطة تحديداً؟ سأدعها لفطنتكم. وهي ليست داعية لهذه العبارة أيضاً، فهي سهلة. وأنا مصدّق هذه الحكاية: الأسطورة الحقيقة. نار أمي، نار الحياة، الحضارة، التنوير، الانفتاح، لحظة ” 21 ” ساعة الطبيعة المفصلية العظمى. أكان كاوا في أصله الكردي امرأة، ليهبَ كورده في تاريخهم الأسطوري ناراً هي هبَّتهم، انتفاضتهم، ولادتهم في الحياة، حليبهم السخي دسماً، والامتلاء بالحياة و…الحرية ؟
أتحدث عن أمي وما يكون أبعد من حدود صدر أمي السهل الفسيح، وعيني أمي الينبوعيتين، وسماحة يديّ أمي الرحبتين عطاء، عن ثدييها قِبلتيّ الوهّابيتين الكوكبيتين، وقامة أمي القصيرة إنما الممتلئة بخصوبة الأرض التي تعلّمنا كيف نفيض عطاء وبقاء ؟
كل شعب وفي لأرضه، للغته، لإنسانيته، لوطنه، لكونيته، مخلص لأمه الكبرى هذه/ تلك .
أتحدث عنها بوصفها نوروزاً، وأن أتحدث عنها أولاً، فلأن كل حديث هو عن ” نوروز ” أعني: نوروز الكردي، وأنا متيقن أن ليس من شعب دون نوروز، مع اختلاف في التسمية، أتحدث عنها في هذه اللحظة الصباحية الدهوكي، وأشعر بحاجة جارفة للبكاء وقد تجاوزت الستين عاماً، وأمّي بعيدة عني” آه يا تراب قامشلو، يا مقبرة قدور بك، حيث تقيم أمي، ولا أدري أين هي روحها ! ربما هي الآن أمامي، ربما هي التي ألهمتني ما أكتبه الآن عنها، باسمها، باسم وطن منشود. لا غرابة في ذلك. فقد وجِدت بها، أنا نبتها الجسدي، وإكسير حبها، تفانيها، حنانها تلبَّسني، والكتابة هي حالة تلبُّس بحياة خاصة، حالة امتلاء بحياة تفيض دون توقف . آه يا جسد أمي الهزيل الجميل، يا قامة أمي القصيرة القديرة..لو كنت هنا لتوسدت ركبتك الصغيرة: مخدة روحي المعذبة بالغربة، واستغرقت في نوم لزمن مديد، كي أتحرر من عذابات وحدة، غربة، شقاء النأي عنك، عن أرض تعايشت وإياها سنوات وسنوات، ولكي أفلتِر روحي بما يجب رغم العمر المكدود والمتبقي منه مهدوداً ..”. سوى أن أمي حاضرة بين جنبيّ، بين بياض العين وسوادها، في كل ما كتبت وأكتب..أتحدث، أكتب عن أمي نوروزاً، وليس من شك في ذلك، لأن الوطن، الأرض، الانتماء إلى المكان إقامة في قلب لا يكف عن الحنان، عن العطاء. ربما لهذا يقدّر الكرد النار: أبعد من كونها نار كاوا. إنها نار الأم الكبرى، وطنهم الكردستاني، مثلما أن لأي شعب وطناً. الأمة: الأم الكردية، وأن يتفانوا في حب وطنهم، أرضهم، الآخرين، فلأنهم- ببساطة- يصرّحون انتماءهم الطبيعي إلى أمهم، أمهم النوروزية، الأرض الكبرى، وأن الاحتفال بنوروزهم، والخروج إلى الطبيعة، وإشعال النار ليلاً، إنما هي حالة ولادة جديدة، وانتماء متجدد إلى الحياة، وتأكيد وفاء لأمهم المشتركة، أعني الأرض المشتركة، الوطن المشترك، اللغة المشتركة .
صباح الخير قامشلو، صباح الخير آمدي، صباح الخير مهابادي، صباح هولير، صباح نوروز، حيث ينبغي أن يكون الربيع في المقلتين، اللسان الواحد، القلب الواحد، جهات الأم الأربع هنا.
سلاماً لروح أمي، لكل أمّ بوصفها أمي، أنّى كانت، ومهما كانت جنسيتها، ولونها وشكلها، لنوروز روحها: أكثر من ” 21 ” آذار مبتدأ الحياة مجدداً، لكرديتها الأمّية البليغة في تفانيها هنا، لروح لا تبلى، لوطن نوروزي يُعلا ويعلا، كما هي نجمة السماء المشعَّة دائماً !
صباح دهوك في 20 آذار 2019