ابراهيم محمود
” أرجو عدم نشر أي صورة دالة على الجريمة مرفقة بمقالي هذا “
الطريقة التي قضيَ فيها على حوالي 50 مصلياً في مسجدين في مدينة كرايس تشرش النيوزيلندية بلد ” آخر الدنيا ” ومن قبل شخص واحد” برينتون تيرانت ، 28 عاماً ” كما قيل، وذلك صباح الجمعة ” 15-3/ 2019 ” أفصح عن أن الإرهاب لا يمكن أن يحمل أي هوية، وقد يتمثّل في أي كان، بغضّ النظر عن دين معين، أو جنس معين، أو طائفة معينة. من ماتوا/ توفّوا هم ضحايا إرهاب: شهداؤه، والقاتل إرهابي، وما حدث يعلَمنا، إن كنّا نملك الحد الأدنى من الوعي الموضوعي، وعي المسئولية، والأخلاق، أن الإرهاب تهديد للناس عامة، ولِمَا هو طبيعي وكوني، لأنه مدمّر، ومفجّر كراهيات تزيد في طينه بِلَّة.
أن تكون مثقفاً” هكذا وجدتَني متكلماً وكاتباً “، أن تنسّب نفسك إلى خانة البشرية جمعاء، أن تعرّف بإنسانيتك، هو أن تحصر الجريمة : المجزرة المرعبة، دون السؤال عمّن كانوا، واعتبارهم أبرياء، شهداء، وأن القاتل، مهما كان جنسه، أو موقعه في السلَّم الاجتماعي هو إرهابي في الصميم، وأن ليس من داع إطلاقاً لأي قيل وقال، هزءاً أو استهانة بما حدث.
والجريمة التاريخية الإرهابية الحادثة في مسجدين في مدينة، ومدينة في بلد ناء جداً، ربما لم يخطر في بال أحد، أن تكون حلبتها الدموية في مسجدين، وما لهما من دلالة، وخطاب تعبوي لدى البعض أو أكثر، تنبّه أياً كان، بأن ليس من رقعة، ليس من إحداثية جغرافية، مهما كان موقعها، جهتها، يمكن عزلها وتحييدها، وزعْم أنها لن تكون فريسة إرهاب كهذا أو أكثر.
هذه الجريمة، وكل جريمة لا تقتصر على سفك دماء لأسباب وموجبات ذات صبغة فردية أو حتى جماعية محددة، تفجّر تفجّر خزان عنف قارياً، أو ذا طابع ديني يشمل ملايين مؤلفة من البشر، تستدعي ليس تشخيص الحادثة المرعبة، ليس البحث عن الأسباب والمسوّغات، ليس إقلاق الآخرين بالدوافع، وتحديد نوعية الضحايا، إنما النظر المباشر في النابت، وما ينبغي التحضُّر له، أي كيفية التسارع إلى الأمام قبل أن يسَد طريق المستقبل أمامنا جميعاً.
إنها رسالة من كل مكان إلى أي مكان، رسالة الموت الزؤام غير المرغوب فيه، لأنه الموت الذي يراد من ورائه استيلاد سلاسل ميتات تطال أفراداً، جماعاً، ومجتمعات، إنما أيضاً مؤثرات عنف لا تبقي أحداً مطمئناً في بيته، ولو كان محكَم الإغلاق. رسالة لا تتطلب تحليلاً لها، والرد على المرسل، إنما كيفية القيام بكل الطرق التي تمكّن من طمسها، لئلا يزاع لها ” سر ” لا يسعد أياً كان، حتى لمن في نفسه رغبة ما في أن ينفّذ عملية، هي إرهابية أولاً وأخيراً .
ومن المؤكد أن المدينة النيوزيلندية فُجعَت وصُدمت بما وقع فيها، لا بد أن نيوزيلندا صدمت بالواقعة المريعة، كما تلمسنا من الإجراءات الفورية المتخذة، وعلى أعلى مستوى: منْع نشْر مقطع الفيديو الذي يضم عملية القتل، الحيلولة دون انتقاله أو توزيعه، اعتبار الجاري ارهاباً، والدخول في نوع من حالة استنفار إدراكاً أخلاقياً من الحكومة أن هناك غيوماً سوداً تلوّح في أفقها الجغرافي وله تداعيات، وأن التكتم على نشر الأخبار، هو السعي إلى عدم إفساح المجال لذوي الألسنة التي تتلمظ وراء استرسال في موضوعات كهذه، كما لو أنها تسكر بارتشاف دماء ضحايا هذا الإرهاب، واستمراء لحومهم، والاستخفاف بمشاعر أهاليهم المصدومين بما جرى .
ليس من خيار أمام المثقف الفعلي، المثقف الذي ينبض ما هو إنساني داخله، إلا طريق واحد، في حالة كهذه، لتأكيد انتمائه الأخلاقي القويم للآخرين، وأمام نفسه أولاً، هو أن يقطع سبيل الإرهاب، أن يعمل ما وسعهد جهده، للحيلولة دون وقوع مثيله، ويحفّز في الآخرين إرادة القضاء على مؤثراته، على الأقل ليشعر أنه أدى واجبه كمثقف، إذ ربما يكون ضحية جريمة إرهابية كهذه، تحدث على مقربة منه، أحد أفراد أسرته، أهله، معارفه، أو هو نفسه بالذات .
ذلك هو الكلام الوحيد الذي يمكنني قوله، دون ذلك لستُ مستعداً، ولا بأي شكل، لسماعه، وعذراً حين أكون متشدداً في موقف كهذا !