المحامي عماد الدين شيخ حسن
تمهيد :
نستعرض في بحثنا هذا موضوعاً كان من المفترض أن يكون بالنسبة للقرّاء و المهتمين نافذةً تٌطلعهم على حقائق من الزمن الغابر، يوم كان سلطان القوة هو السائد في العلاقات الدولية ، لا أن نتناوله اليوم واقعاً نعانيه ، و ضرورةً ملحّة تفرض علينا الإحاطة بتفاصيلها كحاجة نستطيع من خلالها إدراك ما يحدث من حولنا و فهمه و بالتالي طرح الحلول و مقتضيات العمل إزاءه .
إن بعض الأحداث التي تجري في مناطق متفرّقة من العالم ، تعكس لنا بصورة جليّة مدى التهميش الخطير لأسس و قيم الحق و القانون و مثيلاتها من ركائز ضبط المجتمعات و استقرارها ، و لا سيما و بصورة أساس من قبل الجهات المسؤولة عنها و الممثّلة لها و المكلّفة بتطبيقها و الإشراف عليها .
ذلك كلّه لا يمكن إعتباره إلا مؤشرا واضحاً على ضعف الاستفادة من تجارب التاريخ و الماضي ، و أنّ هناك فئات ، سواءً أكانوا أفراداً أو مجموعات ودول ما زالت تعبث بضوابط أمن المجتمعات و سلامتها و استقرارها ، و تخرقها بصورة لا مسؤولة ، في ظل تقاعسٍ مريب في المقابل لجهات الردع و المحاسبة في المجتمع الدولي عن مهامها و مسؤولياتها .
لذلك اخترنا عفرين كمنطقة تتبع لسيادة دولة هي عضو ممثّل في المجتمع الدولي و هياكله و مؤسساته و معترف بها من قبلها تحت أسم الجمهورية العربية السورية ، و ذلك للدلالة على الواقع و ملخّصه الذي أسلفنا ذكره .
هذا الجزء من الدولة السورية يعيش منذ تاريخ ١٨/٣/٢٠١٨ واقعاً يتمثلّ في تواجد و سيطرة دولة أخرى عليها ، هي أيضاً بدورها عضو ممثّل و معترف بها لدى المجتمع الدولي و هياكله و مؤسساته تحت مسمّى الجمهورية التركيّة .
و لمعرفة تفاصيل و طبيعة ذلك الوجود التركي و تبعاته و آثاره و المسؤوليات حياله ، لا بد لنا من الإستعانة أولاً بالمصادر القانونية المعنيّة بها و التي تصدّت لمثل هذه الوقائع و تناولتها ، و تحديدا ما ورد من صكوك عن المجتمع الدولي و من أعراف و اجتهادات بهذا الشأن ، بغية تمكّننا من خلال معرفتنا و فهمنا لتلك الصكوك و المصادر، من التوصيف السليم و الدقيق للوقائع على الأرض و التعامل وفقها و البحث في الحلول اللازمة بموجبها .
تلك الوقائع و الأحداث على الأرض و ما يحيط بها ، من الواجب علينا أيضاً عرضها و الكشف عنها ، ليكتمل تصوُر القارئ و المهتم إزاءاها و إمكانية الربط و فهم العلاقة بينها .
لذلك رأينا من الأنسب أن نبدأ البحث بمقدّمة ، و من ثم نقسّمه إلى فصلين رئيسيين ، أحدهما يختص بشكلٍ أساس بالنصوص و المصادر القانونية و الآخر يتركّز على بيان الوقائع و الأحداث موضوع تلك النصوص و المصادر على الأرض . كما قسّمنا الفصلين إلى مباحث و مطالب لتفي بمقتضيات التوضيح و منح الفائدة .
الفصل الأول : في الحرب على عفرين
استنادا الى الحجة المنطقية التي تربط النتائج السليمة بالمعطيات السليمة ، وجدنا ضرورة تخصيص مدخل البحث بعد مقدمته ، لجانب أنّ التواجد التركي و سيطرته على عفرين كان ناجماً عن عمل عسكري و حملة اعلنتها و قامت بها بتاريخ ٢٠/١/٢٠١٨ ( حملة غصن الزيتون )، و انتهت بسيطرتها التامة و الفعلية و المادية عليها .
إذاً …فالسيطرة و الوجود كانا أو كانتا نتيجة حربٍ شنّتها على ذلك الجزء . فما هي نظرة المجتمع الدولي و القانون الدولي العام من الحرب و الاعمال العدائية المسلحة و مفاهيمها ، و ما هو موقفها منه ؟
بعد أن عاش العالم حياة و تجارب مريرة مع الحروب و الصراعات المسلّحة و استخدامات القوة العسكرية في النزاعات ، و ما خلّفه ذلك من آثار و نتائج قاسية و كارثية على كافة الأصعدة و المستويات ، المادية منها و البشرية ، كان لزاماً على المجتمع الدولي أن ينهض للبحث في السبل السلمية و القانونية لفضّ النزاعات بين الدول ، و لترسيخ ذلك كان لا بد له من إيجاد ضمانات و قيود قانونية تُفرض على أطراف كل نزاع ، بغية تأمين الحماية القانونية اللازمة للمجموعة البشرية التي تتبع لطرفي أو اطراف النزاع ، و لا سيما تلك الفئة البشرية التي جرت السيطرة على أراضيها و احتلالها .
لذلك سعى المجتمع الدولي الى إقرار جملة من المواثيق الدولية و حتى القضائية بهذا الشأن مرجعاً لها ، كما سعى لتشكيل العديد من الهياكل القائمة على مراقبة و متابعة مدى الإلتزام بتلك المواثيق و الصكوك الدولية ، عبر ملاحقة الهيئات القضائية مثالاً لمنتهكي تلك الالتزامات الواردة في المواثيق القانونية .
و بما أننا استخلصنا مما سبق بأن الوجود التركي في عفرين كان إثر حرب أدت الي سيطرة و إحتلال ، فذلك ربما يقود العامة و غير المختصين للقول فورا بأنّ الاحتلال التركي لعفرين هو احتلال حربي .
فهل هذا الوصف صحيح ، و إلى أي مدى هو دقيق و مطابق لما ورد في الصكوك الدولية بشأن الاحتلال الحربي ؟
سوف نقف على حقيقة ذلك من خلال المباحث التالية :
المبحث الأول : مدخل إلى الإحتلال الحربي
قبل الخوض في هذا المفهوم الهام ، لا بدّ من أن نسلّط الضوء على بعض ممهدّات ظهوره و معايير أهل الفقه و الاختصاص بشأنه كموضوع من مواضيع القانون الدولي العام .
في هذا الإطار، ميّز الفقه الدولي بين مرحلتين ، هما مرحلة الحرب و المرحلة التي تليها وهي الاحتلال الحربي ، و أكّد على ضرورة هذا التمييز و فصل آثار و تبعات و تفاصيل كل مرحلة عن الأخرى ،استناداً الى نقطة هي غاية في الأهمية تتمثّل في اختلاف القانون الواجب التطبيق لكل حالة . [1]
حيث و بالعودة الى صكوك القانون الدولي نجد بأنّ هناك إتفاقيات خاصة و مشمولة بتقنين قواعد و قوانين الحرب بصورة اكبر ، و أخرى بتقنين قواعد و قوانين الاحتلال الحربي .
حيث نجد أنّ اتفاقية لاهاي (١٩٠٧) و اللائحة الخاصة بها ، و أيضا اتفاقيات جنيف الثلاثة الاولى (١٩٤٩) ، إضافةً الى البروتوكول الاضافي الثاني الملحق بها (١٩٧٧)، نجدها جميعها إختصّت بتركيز أكبر على قواعد و أعراف الحرب بمفهومها المعاصر و لا سيما الحرب البرية و النزاعات المسلحة عموماً ، وباتت تلك الاتفاقيات بالإضافة الى ما استقر عليه الاجتهاد الجنائي الدولي مرجعاً للحكم في تلك المسألة ، أي الحرب و الأعمال القتالية .
في المقابل نجد بأنّ اتفاقية جنيف الرابعة (١٩٤٩) و البرتوكول الإضافي الأول ، الملحق به لسنة (١٩٧٧) ، أولت عناية خاصة بتقنين مجمل ما يتعلق بالإحتلال الحربي ، و لا سيما تلك المسائل المتعلُقة بضمان الحماية المقررة للأقليم المحتل ماديّا و بشرياً .
و الملاحظ هنا و من خلال ما سبق ذكره ، نجد بأنّ الإهتمام بتقنين قواعد الحرب سبق الاهتمام بقواعد و أعراف الاحتلال الحربي .
و نعتقد بأنّ ذلك نابع بدرجة أساس من التطوّر الذي طرأ على تعاطي المجتمع مع الاحتلال الحربي .
هذا الأخير الذي انتقل من مرحلة الاحتلال المّكسب للسيادة و الشرعية و القبول ، إلى مرحلة لا يمكن فيها قبول كل ذلك بالمطلق قانوناً .
المبحث الثاني : في مفهوم الاحتلال الحربي
المطلب الأول : في مفهومه فقهاً
تبيّن لنا من خلال البحث في هذا السياق بأنه على الرغم من المحاولات العديدة التي قام بها الفقه القانوني الدولي بهدف الوصول الى تعريف صائب و دقيق و موحّد لمفهوم الاحتلال الحربي ، إلا أن ذلك لم يتحقق ، و لم يوفّق الفقهاء في ايجاد رؤية مقبولة من الجميع إزاء المفهوم .[2]
و لكن ذلك لم يمنع من ملاحظة وجود عناصر و نقاط مشتركة و متفق عليها بين تلك المساعي لتعريف المفهوم و هي :
ان الاحتلال الحربي يكون ناجماً عن حرب و إعتداء مسلح بين دولتين .
يتبع تلك الحرب أو ذلك الاعتداء المسلح واقع فعلي مؤقت و سيطرة عسكرية مادية .
يكون الاحتلال ذو فعالية و قدرة و تأثير في الاقليم المحتل
و الغريب في الأمر أنّ الفقهاء غفلوا في تصدّيهم للتعريف عن مسألة اللا مشروعية ، أي أن الإحنلال الحربي هو حالة لا مشروعة ، و أيضا عن ذكر أي دور للقانون الدولي الانساني في الموضوع .
إلى أن جاء الفقه المعاصر و تدارك ذلك ، حيث عرّف الاحتلال الحربي بأنه ( مرحلة من العمليات الحربية اللا مشروعة تتمكن من خلالها قوات إحدى الدول من السيطرة الفعلية على كامل أقليم الطرف المنهزم أو جزء منه ، و تتولى تلك القوات المنتصرة إدارة شؤون الاقليم و السيطرة عليه وفق قواعد و مبادئ القانون الدولي الإنساني ) [3]
إذاً … الهام المستنتج لنا مما سبق هو أنّ الإحتلال هو صورة فعلية ومؤقتة قبل أن يكون حالة قانونية ، و أنه لكي يكتسب المعنى القانوني له يجب أن يكون هناك :
أولاً: سيطرة فعلية و تامة ذات قدرة للدولة المحتلة على كامل الإقليم المحتل أو على جزء منه .[4]
ثانياً : أن تكون لديها القدرة و القوة العسكرية الكاملة التي تمنحها ممارسة كافة الاختصاصات على الجزء المحتل . و تسيير شؤونه و الوفاء بالتزاماته كمحتل تجاه القوانين الناظمة للاحتلال.[5]
المطلب الثاني : في مفهومه قانوناً
لعل أوضح و أول تعريف للإحتلال الحربي بمفهومه القانوني ، صدر عن إتفاقية لاهاي (١٩٠٧) ، حيث ورد في المادة (٤٢) منه :
(( تعتبر أرض الدولة محتلة ، حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو و لا يشمل الإحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها السلطة بعد قيامها )) .
تلا ذلك الذكر للطبيعة القانونية لهذا الاحتلال ، ورود مواد في كل من اتفاقية جنيف الرابعة و البرتوكول الإضافي الأول الملحق به ( ذوات الشأن بموضع الاحتلال الحربي كما أسلفنا الذكر) ، تعطينا ملامح عن طبيعة مفهوم هذا الاحتلال .
حيث جاء في المادة (٤٧) من الاتفاقية : (( لا يحرم الأشخاص المحميون الذين يوجدون في أي اقليم محتل بأي حال و لا بأية كيفية من الانتفاع بهذه الاتفاقية ، سواء بسبب أي تغيير يطرأ نتيجة لاحتلال الاراضي على مؤسسات الاقليم المذكور أو حكومته ، أو بسبب أي أتفاق يعقد ما بين سلطات الاقليم المحتل و دولة الاحتلال ، أو كذلك بسبب قيام هذه الدولة بضم كل أو جزء من الاراضي المحتلة ))
كما جاء في المادة (٧٥) من البروتوكول الملحق أنه ((يعامل معاملة إنسانية في كافة الأحوال الأشخاص الذين في قبضة أحد أطراف االنزاع ولا يتمتعون بمعاملة افضل بموجب الاتفاقيات او هذا الملحق و ذلك في نطاق تأثرهم بأحد الاوضاع المشار اليها في المادة الاولى من هذا الملحق ، و يتمتع هؤلاء الاشخاص كحد ادنى بالحماية التي تكفلها لهم هذه المادة دون اي تمييز مجحف يقوم على اساس العنصر او اللون …….)) .
و الغاية من ذكر تلك المادتين هي أنهما توضحان بدء سريان وضع و حالة قانونية جديدة بالنسبة لسكان الاقليم المحتل و معاملتهم تختلف عن قوانين الحرب السارية قبلها . كما تبيّن بعضا من ملامح المرحلة الجديدة ، و هي مرحلة الاحتلال .
نستخلص من المبحث و مطلبيه أنّ فعلية وجود الاحتلال الحربي و آثاره المباشرة الناجمة عن قيام دولة الاحتلال بوضع الاقليم المحتل تحت سيطرته المادية و العسكرية هو أهم ما يميز الاحتلال الحربي تعريفاً .
و بمجرد تحقّق العناصر أو النقاط التي أشرنا اليها أعلاه ، فإن القواعد القانونية الخاصة بذلك تفرض حضورها على الزمان و المكان أجواء تلك العناصر .
و الجدير ذكره ..أننا نرى فيما سبق تبيانه فرصة و مناسبة لتوضيح جانب آخر أيضاً هام و متعلق به ، و هو الفرق بين الغزو و الإحتلال الحربي :
فالغزو يمكن التعبير عنه بأنه تلك المرحلة التي تبدأ من أعلان الغزو أو بدء العمليات العسكرية إلى حين انتهاء المعركة و العمليات القتالية تماماً و السيطرة الفعلية لقوة طرف متحارب على اقليم الطرف الآخر ، حيث نكون حينها أمام مرحلة جديدة و هي مرحلة الاحتلال الحربي .[6]
أي طالما كانت هناك مقاومة و سيطرة غير فعلية ، نكون في مرحلة الغزو ، و أهمية الفرز هذا و التمييز هذه هامة جدا كما أشرنا ، و لا سيما لجهة القوانين الواجب تطبيقها و مسائل الحقوق و الالتزامات .
المبحث الثالث : في قوانين الإحتلال و أسسها
كما سبق و أن أشرنا بأن كلّ من اللائحة الملحقة باتفاقية لاهاي (المواد ٤٢،٥٦) ، اتفاقية جنيف الرابعة و البروتوكول الأول الملحق به ، قد أولت أهتماما خاصا بالاحكام المتعلقة بالاحتلال و الناظمة لها و تعيين آثارها و التزاماتها ، ولا يجب أن نسهو عن ذكر العرف و الاجتهاد القضائي كمصادر هامة إلى جانب احكام تلك الاتفاقيات .
حيث و بموجب تلك الأحكام يمكن القول بأنها ترى بوجوب تحديد و معرفة بدء فترة الاحتلال و نهايته أساساً لتطبيق و سريان قوانينه .
إذ أنّ بداية تلك الفترة تتحقق بالسيطرة الفعلية المؤقتة و المؤثرة ، و انتهاء الفترة تتحقق بإنتهاء السيطرة على الاقليم أو الإنسحاب منه ، أو في حال عودة السلطة العامة الى الدولة السيادية .
و بالتالي من الهام جداً أن نشير الى انه لا الاتفاقيات الداخلية مع سلطة الاحتلال و لا تنازل المحميين بالقانون عن حقوقهم ، ينفيان عن تلك السلطة وصف الاحتلال و قوانينه و التزاماته بموجبها .
الآن نأتي إلى تبيان الغاية الأساس للمشرع و مبتغاه من الأحكام التي سنّها بشأن هذا الموضوع ، و التي هي بلا شكّ تنصب في كل ما من شأنه حماية المدنيين و حفظ أمنهم و أسس عيشهم و بقاءهم و التخفيف من معاناتهم جراء ما تعرضوا له .
إذا الغاية و الاهداف هي بشرية و إنسانية بالمقام الأول ، و نابعة من إدراك و فهم ما قد يتعرض له المدنيون خلال هكذا ظروف من مخاطر و تهديدات شتى ، كالاعمال الانتقامية و القمع و القتل و سواها .
و كل تلك الاهداف ليست بغريبة ، إذا ما علمنا بأن قوانين الاحتلال هي جزء من القانون الدولي الإنساني .
أما فيما يتعلق بأهم الأسس و المرتكزات التي قامت عليها قوانين الاحتلال الحربي فنذكر :
أولاً : أنّ الإحتلال ذو طبيعة مؤقتة ، أي أنه لا يمنح بأي حال من الأحوال سلطة الاحتلال السيادة و حق الضمّ و المشروعية في حيازة الاقليم و حكمه ( للمحاكم الدولية أحكام عديدة بهذا الشأن و التأكيد عليه ) ، لذلك فإن سلطته على الإقليم لا تتعدى كونها سلطة فعلية لا شرعية (المادة ٤٢ من لائحة لاهاي ١٩٠٧) .[7]
ثانياً : إنّ وجود المحتل و سلطته على الاقليم باعتبارها لا تنقل له السيادة و المشروعية ، فإنها تقتصر على مظاهر تثبيت و ترسيخ عوامل و اسباب الأمن و النظام و استتبابه ، و كل ما من شأنه تأمين سبل العيش اللائق بسكان المنطقة المحتلة من خدمات و مرافق و غيرها . أي أن مهمتها لا تتجاوز سوى سد الفراغ عن السلطة الشرعية الغائبة و التي من مهمتها تأمين تلك العوامل لسكانها . ]7]
ثالثاً : سلطة الاحتلال ملزمة باحترام و تطبيق القوانين المعمول بها و السارية في الاقليم المحتل (م ٤٢ من لائحة لاهاي ) (( على قوة الاحتلال احترام القوانين السارية في البلاد ، الا في حالة الضرورة القصوى التي تحول دون ذلك )) .و تؤكد على ذلك المادة (٦٤) من اتفاقية جنيف الرابعة .
رابعاً : سلطة الإحتلال ملزمة أيضا بحفظ و صون كافة حقوق المدنيين و أوضاعهم القانونية و حمايتها من أي مساس أو انتهاك ، كحقوقهم في الحيازة و التملّك و البقاء في ممتلكاتهم و حفظ أموالهم .[8]
و لأهمية هذه المسألة فقد تناولتها و أكدت عليها كل من اتفاقية لاهاي و جنيف الرابعة و بروتوكولها الاول .
خامساً : ليس من حق المحتل ممارسة أية حقوق و وظائف سيادية في الاقليم و بشأنه ، و إنما يتمحور حقها و يقتصر علي ما يمكن تسميته بالشؤون التنظيمية و سبل الحياة اليومية و الخدمات و المرافق لسكان الاقليم (م ٦٤ من اتفاقية جنيف الرابعة )
المبحث الرابع : في التزامات سلطة الاحتلال و مسؤولياته بالنسبة لحقوق المدنيين
بعد أن أشرنا و كلمحة عامة الى طبيعة وضع المحتل و وجوده في الاقليم المحتل ، و لا سيما لجهة حظره من تغيير الوضع القانوني للاقليم المحتل ، سنأتي الآن و نتناول بشيء من الإيضاح أكثر مسألة حظره و محظوراته في المساس بحقوق المدنيين المنتمين للأقليم المحتل و كل ما يتعلق بذلك الإقليم و اسس الحياة فيه ، و ذلك سنداً لما ورد بصورة خاصة في كل من ( لائحة لاهاي ١٩٠٧ و اتفاقية جنيف الرابعة ١٩٤٩ و بروتوكولها الملحق الأول ١٩٧٧) و التي أبرزها هي :
أولا : حظرها من ارتكاب الأفعال اللا إنسانية
حرصت اتفاقية جنيف بصورة خاصة على ذلك ، و لا سيما من خلال صريح المادة (٣٢) منها
))تحظر ممارسة اي اكراه بدني او معنوي ازاء الاشخاص المحميين، خصوصا بهدف الحصول على معلومات منهم او من غيرهم ))
ثانيا : حظرها من الابعاد و التهجير و عمليات الاستيطان
بقراءة دقيقة لنص المادة (٤٩)من اتفاقية جنيف الرابعة يتبين لنا مدى الاهمية التي اولاها لهذه النقطة و خطورتها حيث نصّت :
(( يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه.
ومع ذلك، يجوز لدولة الاحتلال أن تقوم بإخلاء كلي أو جزئي لمنطقة محتلة معينة، إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية. ولا يجوز أن يترتب على عمليات الإخلاء نزوح الأشخاص المحميين إلا في إطار حدود الأراضي المحتلة، ما لم يتعذر ذلك من الناحية المادية. ويجب إعادة السكان المنقولين على هذا النحو إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع.
وعلى دولة الاحتلال التي تقوم بعمليات النقل أو الإخلاء هذه أن تتحقق إلى أقصى حد ممكن من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميين، ومن أن الانتقالات تجري في ظروف مرضية من وجهة السلامة والشروط الصحية والأمن والتغذية، ومن عدم تفريق أفراد العائلة الواحدة.
ويجب إخطار الدولة الحامية بعمليات النقل والإخلاء بمجرد حدوثها.
لا يجوز لدولة الاحتلال أن تحجز الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب، إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية.
لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها.((
ثالثا : حظرها من التعرّض للأملاك العامة و الخاصة و الموارد
و نجد ذلك المنع و الحظر بوضوح من خلال ما ورد في
المــادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة التي نصت على أنه :
(( يحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتماً هذا التدمير))
كذلك المــادة (52) من لائحة اتفاقية لاهاي جاء فيها :
((لا ينبغي إخضاع البلديات أو السكان إلى طلبات الدفع العينية أو تقديم الخدمات إلا في حالة تلبية حاجيات قوات الاحتلال. وينبغي أن تتناسب مع موارد البلاد وأن تكون على نحو لا يدفع السكان إلى المشاركة في العمليات العسكرية ضد بلدهم
لا تفرض طلبات الدفع العينية والخدمات إلا بأمر من القائد في المنطقة المحتلة.
ينبغي الحرص قدر الإمكان على أن تدفع الضرائب العينية نقداً, وإذا تعذر ذلك, يجب ضبطها في إيصال, على أن تسدد المبالغ المستحقة في أقرب وقت ممكن ))
رابعا : حظر المساس بحقوق و قيم المجتمع و اقتصاده و ثقافته
و هذه حقوق يكفلها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و لا سيما حقوق العمل و الصحة و مساعدة الاسرة و الطفل و الصحة و مستوى معيشي مناسب ،و ذلك من خلال المواد (، ٧، ١٠، ١١ ،١٢، ١٣، ١٤، ٦٠ )
و الجدير ذكره هو أن الإشارة في بعض المواد الى الحرب او العمليات الحربية و مقتضياتها لإباحة و تبرير بعض الاجراءات من قبل سلطة الاحتلال ، لا تعنينا هنا في هذا الموضوع ، كوننا نناقش مرحلة انتهت فيها الحرب و العمليات العسكرية ، و هي مرحلة الإحتلال و السيطرة .
خامسا – – الحفاظ على الأمن والنظام العام في الأرض المحتلة. و اتباع القوانين التي كان معمولًا بها بالفعل في تلك الأرض (اتفاقية لاهاي الرابعة المادة 43)
سادساً – يحظر القيام بأي عمليات سلب و نهب وسلطة الاحتلال مسؤولة عن تفادي مثل هذه الأعمال التي يرتكبها مقاتلوها وعملاؤها والمعاقبة عليها (لاهاي 4 المادة 47). ويمتد الالتزام على سلطة الاحتلال بتوخي اليقظة والتصرف إلى الأعمال التي ترتكبها أطراف ثالثة وجماعات مسلحة مستقلة تنشط في الأراضي المحتلة (انظر السوابق
الفصل الثاني : عفرين بميزان الإحتلال الحربي في القانون الدولي
للولوج الى هذا العنوان بطريقة نوفّق من خلالها بوضع عفرين و والوجود التركي على أراضيها في ميزان دقيق يقيس لنا وضعها القانوني سنداً لكل ما اتينا على ذكره من جوانب قانونية و صكوك القانون الدولي العام . لا بد لنا من تسليط الضوء بإيجاز على أبرز ما يتصف به الواقع الحالي في سوريا عامة ككيان سياسي و قانوني تتبع له عفرين ، و من ثم نخصص جانباً من البحث للدور التركي و صلته بذاك الواقع ، لننتقل في الختام إلى الشأن الأهم و هو ما جرى و يجري في عفرين من وقائع و أحداث و نتناوله قانونيا على ضوء ما سبق .
المبحث الأول : في الواقع السوري العام قانوناً
على الرغم من كل ما كان سائداً لعقود في سوريا قبل تاريخ ١٥/٣/٢٠١١ من تجاوزات و انتهاكات في مجال حقوق الانسان ومن سلبيات و فساد قضائي و اداري مستشري في كافة اجهزة الدولة ، و رغم الاوضاع السيئة لجهة غياب نسبي كبير لسلطة القانون في البلاد و سيطرة السلطة الأمنية و الاستخباراتية عل كافة مناحي الحياة فيها ، إلا أنّ ذلك بات نعيماً مقارنة بما عاشته و تعيشه بعد ذلك التاريخ ، التاريخ الذي لم يكن في بدايته إلا مشهداً يعكس تعبير الناس من خلال انتفاضة شعبية عن سخطهم و رفضهم للوضع القائم و ضرورة إصلاحه ، سرعان ما استغله و استغل سوء تعامل سلطات الدولة معه جهات كثيرة بدأت بالإنخراط فيها و توظيفها و جرّها وفق مصالحها و أهدافها المختلفة ، فأفرغتها تماما من مضمونها و غاياتها ، و تحوّلت البلاد و لا سيما بعد انتشار المظاهر المسلحة فيها إلى ساحة للفوضى و الإقتتال و الدمار ، تمارس عليها دول و مجموعات و تنظيمات عديدة و كثيرة صراعات نفوذهم و اجنداتهم المختلفة و يسعون لتحقيقها أيّاً كان الثمن .
ليتمخض عن ذلك الواقع الذي لا يزال مستمرّا دون أية حلول تلوح في الأفق القريب ، نتائج كارثية ولا سيما على المستوى الإنساني و حقوق الإنسان، تمثّلت في أبرز صورها بتعرّض عشرات الآلاف للقتل و الاختطاف و الاختفاء و التعذيب و تشريد الملايين من البشر و نزوحهم من مناطق سكناهم و ممتلكاتهم سواء بلجوئهم الى المناطق الآمنة نسبيا داخل سوريا أو إلى خارجها في مختلف أصقاع العالم .، إضافةّ الى ما خلّفه ذلك الوضع من دمار كبير في البنية التحتية و مقوّمات الحياة و تعطل مؤسسات الدولة و مرافقها عن أداء الخدمة في مختلف المجالات من تعليم و صحة و مصادر العيش و غيرها .
في المقابل سيطرت دول و أحزاب و مجموعات ارهابية و متطرّفة عديدة على مقومات البلاد و أركان الدولة من سيادة و أرض و شعب و باتت تتحكم في مصيرها تبعاً لمصالحها ، تلك المصالح التي توافقت أحياناً كثيرة مع ضخها لأفكار مذهبية و طائفية و عرقية و غيرها من التي تحض على مظاهر العداء و التفرقة و زيادة الشرخ المجتمعي ، كما عملت ايضا على ضخ الإرهاب و المتطرفين من شتى البلاد و الجنسيّات الى البلاد ليعيثوا فسادا فيها و بشعبها ، و حتى مصلحة سلطة حكم البلاد و ممثلها لدى المجتمع الدولي توافقت مع وجود تلك الجماعات و التنظيمات على أرضها لتبرير و تمرير ممارساتها و ما يحدث في البلاد .
أما بالنسبة لكل ذلك الواقع و إزاءه من الناحية القانونية ، فنجد بأن الجهود و المساعي من المجتمع الدولي عامةً و لا سيما من منظمة الامم المتحدة و هياكلها و مؤسساتها كانت هزيلة للغاية و اتضّح عجزها عن ممارسة دورها و مسؤولياتها في وقف كل تلك الفوضى و الجرائم و الانتهاكات أو الحدّ منها ، كما ظهرت العيوب الكبيرة في هيكليتها و نظامها و لا سيما لجهة آليات اتخاذها للقرارات و سلطاتها و صلاحياتها .
و تحديدا لجهة العيب الكبير فيما يسمى باستعمال حق النقض (الفيتو) ، الذي أعاق الكثير من الحلول في الشأن السوري و اتضحت من خلال تلك الآلية و غيرها مدى تقييد المنظمة العالمية و العجز الذي تعانية في ظل تأثرها بمصالح الدول الكبرى و سياساتها التي تتناقض في كثير من الأحيان مع المبادىء و القوانين و القيم السامية لحقوق الانسان .
بعد ذلك العرض الموجز للاوضاع في سوريا عامةً و لكي نقترب اكثر من موضوع بحثنا ، نشير إلى أنّ تلك الأزمة أدت الى ظهور أشكال عديدة للاحتلال في سوريا .
لذلك و لكي نتمكّن من توصيف كل احتلال لا بد لنا من عرض أهم صور و اشكال الاحتلال .
أولاً : الإحتلال التدخّلي
تُلزم بعض الدول نفسها عبر إتفاقيات و أحلاف و معاهدات تبرمها مع دولة ما أو دول بشروط و تفاهمات معينة ، ثم تُقدم بعد فترة على خرقها و عدم الالتزام بها ، و يكون عقاب ذلك الخرق في بعض الأحيان قيام الدولة او الدول المقابلة بالتدخل العسكري في أراضيها لإرغامها على الالتزام بما تعهّدت به ، كالتدخل العسكري لقوات حلف وارسو في أراضي تشيكوسلوفاكيا الدولة العضوة في الحلف عام (١٩٧٨) لخرقها لمبادئ الشيوعية على اراضيها .
ثانياً : الاحتلال الضماني :
هذا النوع من الاحتلال هو الذي يكون عادة نتيجةً لمعاهدة صلح تبرم بين دولتين او عدة دول متحاربة ، يكون أحد اطرافها منتصراً و الآخر مهزوما ، حيث يفرض المنتصر على المهزوم وجود قوات لها على اراضي المنهزم ضماناً لالتزامها بالمعاهدة . و هذا ما حدث من خلال معاهدة فرساي (١٩١٩) حين فرض الحلفاء بقاء قوات لها على الأراضي الألمانية .
ثالثاً: الإحتلال السلمي
تُبرم عادة بين دولتين أو اكثر اتفاقيات تعاون عسكرية أو دفاع مشترك . ينجم عنها احيانا ولمواجهة ظروف معينة ، وجود قوات عسكرية لدولة ما على اراضي دولة اخرى برضا هذا الاخير و بطلب منها ، مثل التواجد الامريكي في كل من كوريا و اليابان .
رابعاً : الغزو
و الذي هو اعتداء دولة او دول على دولة اخرى و اقتحام قواتها العسكرية لأراضي تلك الدولة ، و لكن ليس بنية فرض سيادتها على الاقليم المغزو كما هو الحال بالنسبة للاحتلال الحربي .[6]
خامساً : الاحتلال الحربي
و الذي هو ذلك الشكل من الاحتلال المتمثل في السيطرة الفعلية من قبل دولة أو دول على أراضي دولة اخرى بنية اكتساب السيادة عليها و فرض سلطتها و ادارتها عليها و اخضاع ساكنيها لتلك الادارة و السلطة .
و الآن و بعد التطرُق بايجاز لأشكال الإحتلال و ما يعنيه كل شكل او صورة منه و بإسقاط ذلك على كلٍّ من الوجود العسكري الروسي و الامريكي و الايراني و التركي في سوريا ، نجد بأنّ الوجود الروسي و بصرف النظر عن حقيقته و ممارساته و ايضا حقيقة و شرعية السلطة في سوريا ذاتها ، نجد بأنّ الاحتلال السلمي هو الوصف الأقرب منه ، لكون ذلك الوجود هو برضا السلطة السورية و بطلب منها .
و كذلك الأمر ذاته بالنسبة للوجود العسكري الايراني .
ولا يجب أن يُفهم من ذلك بأننا نُضفي على الوجودين و ممارساتهما التبرير و الصفة الشرعية ، لا بل العكس ، فالوجودين تسببا في ارتكاب جملة كبيرة من الجرائم و الانتهاكات بحق الشعب السوري ، تستوجب المساءلة القانونية و المحاسبة .
أما بالنسبة للوجود الأمريكي فوصفه أقرب الى الغزو من اي وصف آخر كونه ليس بنية اكتساب السيادة على الاراضي ، كما أنه ليس برضا السلطة و طلبها او نتيجة خرق لاتفاقية ما ، و إن كان بذريعة محاربة الارهاب ، إلا أنه سياسي صرف و مسألة نفوذ و مصالح اكثر من أي تعبير آخر .
أمّا فيما يتعلق بالاحتلال التركي لعفرين كجزء يتبع للسيادة السورية ، فإنّ توصيف الاحتلال بشأنه لا يحتاج الى أي شك أو تفسير أو تأويل ، و هو من أخطر صور الاحتلال كإحتلال حربي الغاية منه اكتساب السيادة و فرض السلطة و الادارة على أرض ليست لها ، و ليس ذلك فحسب بل يتعداه الى ممارسات و غايات اخرى أخطر و أشدّ سنأتي على ذكرها بشىٍء من الايضاح و التفصيل اكثر من خلال المبحث الثالث من هذا الفصل .
المبحث الثاني : الدور التركي في الواقع السوري الحالي قبل احتلاله الحربي لعفرين
كدولة متاخمة لسوريا بحدود يتجاوز طولها (٨٠٠ كم ) ساهمت تركيا أكثر من اي دولة أخرى في تعقيد الوضع السوري و تفاقم أزمتها و معاناة سكانها ، حيث مارست سلسلة كبيرة من التجاوزات و الخروقات الخطيرة للقانون الدولي و مختلف مبادىء حقوق الانسان و الاعلانات و العهود و المواثيق العالمية ، و لا سيما تلك المتعلقة منها بنظم العلاقات بين الدول و قواعد احترامها ، و كل ذلك ثابت و واضح بجملة كبيرة من الوثائق و التقارير المدعومة بالافادات و الصور و الفيديوهات و الوقائع المادية على الأرض .
لتمتد كل تلك الممارسات نتيجة غياب و ضعف دور القائمين على تفعيل القوانين الدولية و اعرافها تجاه مثل تلك الحالات ، إلى تمادي تركيا في تلك الممارسات و احتلالها لأجزاء من الأراضي السورية و التعبير عن رغبتها و نواياها في ضم و إحتلال اجزاء أخرى .
و قد تمثلت تلك التجاوزات و التدخلات في شؤون دولة اخرى و زعزعة أمنها و استقرارها في مظاهر و مستويات عديدة و خطيرة لعل أهمها و أبرزها هي :
أولاً : رعايتها و إحتضانها و دعمها لعشرات الآلاف من الارهابيين و المتطرفين بمختلف أنواع الدعم سواءّ العسكري أو اللوجستي و إرسالهم إلى سوريا و توجيههم بما يتوافق مع مصالح تركيا و مشاريع هيمنتها و نفوذها في المنطقة .
حيث سيطرت تلك الجماعات و التنظيمات على مناطق واسعة من سوريا و نكّلت بأهلها و ارتكبت الجرائم بحقهم و فرضت عليهم فكرها و عقائدها المتطرفة ، كما كانت تلك الجماعات أدوات بيد تركيا لمحاربة الجهات التي لا تتوافق مصالح تركيا معها ، بالإضافة إلى استعمالها لهم كأوراق ضغط سياسية لتنفيذ و تمرير مآربها .
و تأكيداً لكل تلك الممارسات نسرد بعض الأمثلة عليها …
ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، أنّ تركيا أقامت شبكة نفط كبيرة بينها وبين عناصر تنظيم ما يسمى بدولة الاسلام في العراق و الشام ( داعش ) الإرهابى فى سوريا والعراق. و حسب ما أوردتة الصحيف أيضا ، فأن تركيا تقدم دعما لوجستيّاً وعسكريا للتنظيم الإرهابي، بالإضافة إلى أنها تفتح مستشفياتها العامة أمام المصابين من داعش جراء غارات التحالف الدولي.[9]
كما نشرت صحيفة «التايمز» البريطانية، فى أواخر ٢٠١٤، تقريرا قالت فيه إن مجموعة من عناصر داعش يختبئون فى تركيا، وكان من المفترض أن ينتقلوا إلى دول أوروبا لتنفيذ هجمات إرهابية[١٠[
وأضافت الصحيفة البريطانية حينها أن هناك ٣٠٠ عنصر إرهابى يحملون الجنسية البريطانية، وانضموا لتنظيم «داعش» الإرهابى، يختبئون فى تركيا.
و ذكرت صحيفة «الديلى ميل» البريطانية، فى ٢٥ أغسطس ٢٠١٤، أن العديد من المقاتلين انضموا إلى داعش عبر الأراضى التركية، دون أن تحاول السلطات التركية إيقافهم [١١[
كما أكد تقرير للتليفزيون الألماني، إن تنظيم داعش الإرهابى يمتلك مكتبا غير رسمى متواجد فى مدينة إسطنبول التركية، وهذا المكتب يتم من خلاله دعم وإمداد تنظيم داعش فى سوريا والعراق، بالإضافة إلى تجنيد عناصر أجانب ومن تركيا، لصالح التنظيم، وذلك مقابل ٤٠٠ دولار لكل فرد.
وأضاف أن هناك ما يقرب من ٢٠٠٠ شاب ذوى جنسيات أوروبية مختلفة، انضموا إلى تنظيم داعش الإرهابي، خلال الشهور الأخيرة من عام ٢٠١٧، وذلك عقب قدومهم إلى تركيا، وبالأخص من مدينة أنطاليا المطلة على البحر المتوسط بحجة السياحة.
ثانياً : قيام تركيا بدعم و احتضان شخصيّات تدّعي تمثيلها لما تسمى بالمعارضة السورية و جماعات مسلّحة تتبع لها ، عبر مغريات و وسائل عديدة بغية تسخيرهم و توظيفهم لمصالحها ، حتى باتوا أداة طيّعة بيدها و مرتزقة يتلقون تعليماتها و أوامرها و يتحركون بموجبها و لو على حساب معاناة شعبهم و أهلهم ، و نتائج ذلك كانت واضحة على الأرض و لا سيما في كل من حلب و إدلب و ريفيهما ، و ما عاناه سكان تلك المناطق من قتل و تشريد و تهجير و اعتقالات و سواها إثر ما عقدته تلك المعارضة و الجماعات المسلحة من صفقات و اتفاقيات مع أطراف النزاع بأوامر تركية .
حتى بلغ الأمر بتلك الشخصيات و الجماعات لأن تساهم مع تركيا في احتلال عفرين و أن تكون أهم أدواتها في قمع سكانها و ارتكاب أبشع الجرائم بحقهم .
ثالثاً : استخدام تركيا لملايين اللاجئين السوريين على أرضيها لغايات لا إنسانية و تخالف الشرائع الوطنية و الدولية ، أهمها لجهة استخدامهم كيد عاملة رخيصة تستخدمها في سوق العمل و لساعات عمل يومية طويلة و تحرمهم بالمقابل من مختلف حقوقهم العمالية و تأميناتها ، بالإضافة الى استخدام اولئك اللاجئين كورقة للضغط على اوربا و دول العالم و ابتزازها مالياً و بصور مختلفة .
المبحث الثالث : في الاحتلال الحربي التركي لعفرين
بالإستناد الى كل ما سبق عرضه و بيانه ، و لا سيما إلى الصكوك الواردة في القانون الدولي و ما جرى عليه العرف الدولي و الاجتهادات القضائية ذات الشأن بالموضوع ، و عبر مقارنتها بكل الظروف و الملابسات و الوقائع على الأرض في عفرين ، لا يتبقى لدينا ثمّة شك بأنّ الوجود التركي في عفرين هو احتلال حربي قامت به دولة هي تركية لها وصف المحتل ، تجاه جزء من أراضي تتبع لسيادة دولة أخرى عضو في هيئة الامم المتحدة .
حيث أن هناك دولة أعلنت على الملأ عن حملتها العسكرية عبر رأس السلطة فيها و حددت تاريخاً لتلك الحملة و وجهتها بصرف النظر عن اسبابها و غاياتها و مبرراتها التي لا تعني القانون الدولي في شيء و لا تغّير من مسار الأحكام الواردة بشأنها ، و حيث أنُ تركيا نفذت ما أعلنته و قامت بحرب استغرقت ثمانية و خمسون يوماً ارتكبت خلالها جملة كبيرة من الانتهاكات و جرائم الحرب بمفهوم قواعد الحرب المنصوص عنها القانون الدولي و تحديدا القانون الدولي الانساني و تحديدا اكثر مواد اتفاقيات جنيف (١٩٤٩)، و لسنا بصدد التفصيل فيها ،كونها ليست موضوعنا الأساس .
ما يعنينا هنا و ما يعتبر من صلب بحثنا هو أنّ تلك الحرب انتهت بعد الفترة التي ذكرناها بإعلان تركيا و أيضا على الملأ و عبر الإعلام من قبل رئيسها بأنّها بسطت كامل سيطرتها و نفوذها على عفرين ، و منذ ذلك التاريخ و حتى لحظة كتابة هذا البحث و الوقائع على الأرض جميعها تثبت بأنّ تركيا تمتلك زمام السلطة و السيطرة الفعلية و الإدارة في عفرين و دون أي مقاومة من جهة و أيضا دون أي وجود للسلطة السيادية أي السورية في عفرين ، تماماً كما ورد في القانون الدولي بشأن الاحتلال الحربي و شروطه و بدء سريانه و انتهائه ، هذا الأخير أي انتهاء الاحتلال الذي لم يتحقق بعد .
و الهام جدّا هنا و ما نريد الوصول اليه من مجمل ما سبق هو…..
حيث أن ثبوت كون الدولة التركية هي دولة احتلال بموجب المفاهيم الواردة في القانون الدولي ( م ٤٢ من لائحة لاهاي ١٩٠٧) فإن الأمر يستتبع بطبيعة الحال تكليف و إلزام تركيا بجملة من الواجبات و الالتزامات بموجب القانون الدولي ، تلك الالتزامات التي سبق و أن أتينا على ذكر أهمها و أبرزها ( المبحث الرابع من الفصل الأول ) .
و بالتالي السؤال الذي يطرح نفسه هو ..
إلى أي مدى إلتزمت السلطة المحتلة بتلك الالتزامات و ما مدى مسؤوليتها في ذلك الشأن ؟
في الحقيقة ….يمكننا القول يقيناً و اعتماداً على جملة كبيرة من الوثائق و التقارير الصادقة و المدعومة بآلاف الصور و الفيديوهات بأنّ سلطة الإحتلال لم تلتزم بالكاد بأدنى التزام وارد في صكوك القانون الدولي و الأعراف و الاجتهادات الدولية . و ما أتينا بمصطلح (بالكاد ) إلا حرصا على الالتزام باصول البحث و تفاديا لخرقه .
إنّ سلطة الإحتلال و منذ اليوم الأول من الاحتلال و سريان قانونه مارست القتل و التعذيب و الانتقام و الاختطاف القسري و السرقة و السلب و النهب و الترحيل و التهجير القسري و مصادرة الأموال و الممتلكات الخاصة و العامة و الاستيلاء عليها ، و أيضا مارست تدمير المرافق و الممتلكات و المعالم الثقافية و الأثرية ( حطمت تمثال كاوا كرمز لثقافة سكان عفرين و تاريخهم في اليوم الأول من الاحتلال داخل مدينة عفرين و الذي سمي بيوم الجراد لفظاعة ما تم ارتكابه) ، كذلك مارست التوطين و جلبت النازحين من مختلف مناطق سوريا و اسكنتهم في المنطقة المحتلة بعد إفراغ القرى من سكانها الاصليين و تهجيرهم و إغلاق المنافذ أمام عودتهم .
و مازالت تركيا تمارس كل ذلك و ما شابهه كل يوم و بشكلٍ مدروس و مخطط و ممنهجٍ واضح ، و دون أيّ رادع أو شعور بالمسؤولية .
و تزول الغرابة و الاستغراب عن ممارساتها تلك إذا ما علمنا بأنّ غايتها ليست مجرّد غايات استعمارية توسعية تسعى من خلالها لاحتلال جزء من أراضي دولة اخرى و اكتساب الشرعية و السيادة عليها فحسب ، بل الغايات أبعد و أخطر منها بكثير ، فتركيا تستهدف شعباً بعينه و مكوّنا من المكوّنات السورية الأصيلة على أرضه التاريخية ، ألا و هو الشعب الكوردي في كل مكان ، و تستهدف محو كل ما يتعلق به من تاريخ و ثقافة و حضارة و وجود ، و دلائل ذلك كثيرة ، و منهجها في احداث التغيير الديموغرافي و تغيير التركيبة السكانية لعفرين أبرزها ، بالاضافة الى منعها للغة الكردية في المدارس و فرضها لمناهجها و لغتها في التعليم و المدارس و تغيير اسماء القرى و ما الى ذلك .
إن سلطة الاحتلال تقوم بدلا من الالتزام بمسؤولية حفظ السلامة العامة و الأمن و الاستقرار في المنطقة المحتلة ، بإعدم سبل الأمن و الاستقرار و الخدمات و سواها من متطلبات الحياة قصدا لكي ترغم من بقي من سكانها الاصليين على الرحيل ، كما أنها تفرض عليهم الضرائب و الرسوم الكيفية و تصادر أرزاقهم و تتلف محاصيلهم و تصادرها و تقطع الآلاف من أشجار الزيتون التي هي المصدر الرئيسي لرزق سكان أهالي المنطقة المحتلة .
خاتمة
حقيقة …..لم نبالغ إطلاقاً في كل ما أتينا على ذكره بشأن ممارسات سلطة الاحتلال التركية كاحتلال حربي في عفرين المحتلة يرتكب جرائم ضد الانسانية و السلم الاهلي، بل ربما سهونا عن ذكر بعض الممارسات ، أو لم نفي البحث حقّه في التفصيل أكثر و التعبير عن بشاعة و خطورة ما تسعى سلطة الاحتلال اليه ، تلك السطة التي مارست و تمارس جرائم تطهيرٍ عرقي ممهنج و إبادة جماعبة و جرائم حرب و ضد الإنسانية بصريح المفاهيم التي وردت بخصوص تلك الجرائم في القانون الدولي و لا سيما القانون الدولي الإنساني .
و الغريب جداً هو …بأن كل ذلك يحدث و بوضوحٍ تام ، و بإمكان من يشاء التثبت منها و بمنتهى اليسر ، ورغم كل ذلك لا نجد أدنى إهتمام أو نهوض بالواجب و المسؤولية إزاءها من قبل الجهات القائمة على تطبيق القانون الدولي و غيره من مبادىء و قيم المجتمع الدولي و مواثيقه و عهوده و اعلاناته السامية ، و لا سيما هيئة الامم المتحدة بمؤسساتها و دولها و هياكلها و فروعها المختلفة .
ليترسّخ بذلك في أذهاننا ما نخشاه و ما يثير قلقنا بأنّ هرم القانون و الحق في العالم يزداد يوما تلو آخر بلا حولٍ و لا قوة في وجه السياسات و المصالح و النفوذ .
تم بعونه تعالى
٢٠/٢/٢٠١٩
مركز ليكولين للدراسات و الأبحاث القانونية – ألمانيا
المراجع :
[1] [2] مصطفى كامل شحاتة – الاحتلال الحربي و قواعد القانون الدولي المعاصر – ص ١٠٥ و بعد .
[3] Le statutjuridique de L””””état d””””occupation militaire et resposabilité dans les territoires occupés ,Serie du droit international humanitairen ”””” 5, 2008 , pag 3
[4] د. عصام العسلي – الشرعية الدولية – منشورات اتحاد الكتاب العرب ١٩٩٢ ص ٢٩
[5] د. محمد احمد داود – رسالة دكتوراه ص ١٠٧
[6] د. محمد حافظ غانم – الاصول الجديدة اللقانون الدولي العام ص ٥٠٩
[7] charles Rousseav Droit international Law as Applied by intermational court and tribunals vol 11,London 19,8 p 167
[8] مصطفى كامل شحاته – ذات المرجع – ص ١٣٩
[9] صحيفة نيويورك تايمز الامريكية ١٣ -٩ – ٢٠١٤
[10] صحيفة التايمز البريطانية ٢٧-١٢-٢٠١٧
[11] صحيفة الديلي ميل البريطانية ٢٥- ٤٨- ٢٠١٤
المصادر القانونية
اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين الحرب و اعراف الحرب البرية ١٨- ١٠ – ١٩٠٧
اتفاقية جنيف الرابعة ١٢- ٨ – ١٩٤٩
البروتوكول الاول الملحق بإتفاقيات جنيف ١٩٧٧
معاهدة فرساي ٢٨- ٦ ١٩١٩