د. ولات ح محمد
لماذا عادت أمريكا إلى شرق الفرات؟ هل عادت حقاً؟ هل خرجت أصلاً؟ هل انسحبت وعادت؟ أم أنها لم تنسحب؟ إذا كانت قد انسحبت فلماذا عادت؟ وإن لم تكن قد انسحبت فكيف عادت؟ ماذا يعني أن يدخل خمسمائة جندي أمريكي إلى شرق الفرات لتأمين خروج خمسمائة آخرين؟؟ وماذا يعني إدخال العشرات من شحنات الأسلحة إلى شرق الفرات إذا كانت تلك القوات في طريقها للانسحاب؟ بصيغة أخرى وباختصار: لماذا عادت أمريكا قبل أن تخرج؟.
بعد قراره المفاجئ بـ”الانسحاب السريع” وتسليم المنطقة لأنقرة عاد دونالد ترامب ومسؤولون أمريكيون للحديث عن انسحاب “بطيء وحذر ومحسوب”، وتتالت تصريحاتهم القاضية بأن واشنطن لن تقبل بهجوم الجيش التركي على حلفائها شرق الفرات وبأنها ستوفر لهم الحماية من أي طرف يود الاعتداء عليهم.
وفي الوقت الذي يتحدث الأمريكي عن سحب قواته يقوم بإدخال شحنات جديدة من الأسلحة إلى شرق الفرات. هكذا: لا الأمريكي باقٍ ولا هو منسحب، لا هو متمسك بحلفائه ولا هو متخلٍ عنهم، لا هو حريص على البقاء ولا هو حريص على المغادرة. وسط هذا الغموض لا أحد من الأصدقاء ولا من الخصوم يستطيع أن يجدول برنامجه على ما سيفعله ترامب المتقلب. ولكن من جديد: لماذا عادت أمريكا مرة أخرى إلى الاهتمام بالمنطقة ووضعت نفسها من جديد في صدام مع الحليف التركي الذي عاد إلى النرفزة والتهديد بالهجوم على المنطقة بعد أن فرح بقرار الرئيس ترامب الفردي والمفاجئ؟.
إذا وضعنا جانباً الأسباب المفترضة التي دفعت ترامب إلى اتخاذ قراره بتلك السرعة وتلك اللغة الحاسمة (وقد تطرقنا لبعضها في مقال سابق) فبإمكاننا إجمال أسباب هذا التحرك الأمريكي في الاتجاه المعاكس لقرار ترامب المفاجئ في جملة نقاط: الأولى أن قرار الانسحاب ذاك يضرب مصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة ويضعف وجودها ويقوي بالمقابل النفوذين الروسي والإيراني. وهذا ما لن ترضى عنه صقور الإدارة الأمريكية وعقلاؤها، وهو ما دفعهم للضغط على الرئيس كي يخفف من حدة قراره المفاجئ والضار بمصالح بلادهم. وقد كانت لتلك الضغوط وكذلك الاستقالات التي حدثت في صفوف إدارته الأثر الواضح في عدوله نسبياً عن قراره.
النقطة الثانية هي أن الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات سيضع تركيا في مواجهة مباشرة ضد كل من روسيا وإيران في سوريا. ولأنها (تركيا) وحدها غير قادرة على تحقيق توازن مع نفوذ الدولتين على الأرض السورية، وكي تتمكن من تحقيق هدفها الأساس وهو قطع الطريق على تشكل أي كيان ذي طابع كوردي فإنها ستقدم للقوتين المنافستين تنازلات جوهرية، وهو ما سيعني بالنتيجة خسارة استراتيجية كبيرة لأمريكا لأنها ستخسر موقعها الجيو- سياسي بانسحاب قواتها من جهة وستخسر حليفين لها (قسد وتركيا) في وقت واحد لصالح خصميها روسيا وإيران من جهة ثانية.
النقطة الثالثة هي أن موقف واشنطن في العراق بعد هزيمة داعش عسكرياً بات ضعيفاً؛ ففي ظل انسحابها من اتفاقية السلاح النووي الإيراني وفرضها عقوبات قاسية بحق طهران (ناهيك عن التهديدات الإسرائيلية) بات العراق ساحة مواجهة محتملة بين العاصمتين إن لم تكن قد بدأت بالفعل، إذ ثمة مؤشرات على ذلك بدأت تظهر، منها مطالبة بعض القوى السياسية العراقية الموالية لإيران بطرح مشروع في البرلمان يقضي بمغادرة القوات الأمريكية الأراضي العراقية، إضافة إلى إبطال السلطات العراقية مؤخراً مفعول ثلاثة صواريخ كانت موجهة لإطلاقها على قاعدة (عين الأسد) غرب العراق التي تتواجد فيها القوات الأمريكية، وكذلك حادثة اعتراض مجموعة من قوات الحشد الشعبي لدورية أمريكية راجلة ونشرها للخبر. هذا الوضع ربما دفع الأمريكي إلى التفكير بتعزيز وجوده في المنطقة (وليس العكس) تحسباً لأي قرار برلماني عراقي يجبره على المغادرة. وربما لذلك بدأت الإدارة الأمريكية في حواراتها الأخيرة مع أنقرة تصر على احتفاظها بقاعدة (التنف) شرق سوريا بعد أن كان قرار ترامب يشمل سحب كل قوات بلاده من كل المنطقة.
أما السبب الرابع لعودة أمريكا فهو أن حزب الاتحاد الديمقراطي (مع قواته المسلحة) بعد قرار ترامب وتحت التهديد التركي سارع إلى فتح حوار مع كل من دمشق وموسكو لحماية نفسه ومناطق إدارته من تهديدات الجار الشمالي. وهذا يعني بدوره أن القوة الوحيدة في المنطقة التي كلفت واشنطن خلال السنوات الماضية تدريباً وتسليحاً وتنسيقاً إذا تخلت عنها اليوم بهذه الطريقة فإنها ستواجه أحد مصيرين: إما أن تتعرض للتدمير على يد الجيش التركي، وإما أن تذهب إلى منافسيها الروس والإيرانيين مع كل ما لدى تلك القوات من أسلحة وأسرار. وهذه ضربة في العمق للوجود الأمريكي في المنطقة ولسمعة مصداقيتها مع حلفائها أيضاً.
بسبب هذا العامل الأخير شهدت الأسابيع الماضية تسابقاً محموماً بين كل من دمشق وواشنطن سعياً من كل منهما لكسب قوات سوريا الديمقراطية إلى جانبها؛ فالطرف الأول سارع إلى إجراء مباحثات مع تلك القوات مستغلاً حاجتها إلى الحماية من تهديدات الجيش التركي بسحقها في القريب العاجل وكذلك قرار ترامب بالانسحاب وتركها وحيدة في المواجهة. وبغية تشجيعها على مواصلة الحوار وقطع الطريق على التدخل الأمريكي للتشويش على تلك الحوارات سارع مسؤولون سوريون إلى التعبير عن تفاؤلهم وثقتهم بالتوصل مع تلك القوات إلى اتفاق قريب.
في المقابل، سارع الطرف الأمريكي من جانبه من خلال تصريحات مسؤولين فيه إلى التخفيف من حدة قرار ترامب لطمأنة حلفائه بأن واشنطن لن تتخلى عنهم، وذلك لدفع (قسد) إلى إيقاف تلك الحوارات مع موسكو ودمشق. تلك التصريحات التي صعّد ترامب من وتيرتها حتى بلغت حد التهديد بتدمير تركيا اقتصادياً إذا هاجمت حلفاءها شرق الفرات. ولفهم مسألة “العودة” الأمريكية تكفي هنا ملاحظة التناقض الشديد بين تخلي ترامب عن حلفائه من خلال قرار الانسحاب وتركهم وحيدين في مواجهة الجيش التركي وبين تهديده بعد أسبوعين بتدمير اقتصاد تركيا نفسها إذا قامت بمهاجمتهم.
في هذا السياق يمكن القول إن أمريكا عادت لإيقاف الهجوم التركي الوشيك، وبالتالي منع قوات سوريا الديمقراطية من الاستسلام لشروط كل من موسكو ودمشق وطهران؛ فما دام التهديد التركي بالهجوم قد توقف فلا حجة (من المنظور الأمريكي) تدفع حليف واشنطن للذهاب إلى خصومها، وهي التي قامت بهذه الاستدارة السريعة لطمأنة (قسد) بأن واشنطن متكفلة بحمايتها ليس فقط من الطيران التركي، بل من أي طرف قد يفكر بالهجوم عليها. كل هذه مغريات أمريكية (تحمل تحذيراً ضمنياً أيضاً) لقوات سوريا الديمقراطية لحملها على الاطمئنان والثقة بالحليف الأمريكي وعدم استكمال مباحثاتها مع دمشق أو عدم تقديم تنازلات للروس على أقل تقدير، وهذا أحد أهم أسباب “العودة” الأمريكية.
باختصار من انسحب هو ترامب، أما أمريكا فعادت للاهتمام بالمنطقة وحلفائها من جديد. وما دام الأمريكي قد عاد أو عاد عن قرار الرئيس (القاضي بالخروج السريع) أو عدّله أو دوّر زواياه أو خفّف من وقْعِه فإنه عاد بغية حماية مصالحه في المنطقة. وإحدى الوسائل التي تحفظ تلك المصالح هي حماية علاقته مع قوات سوريا الديمقراطية التي ما زالت الحاجة الأمريكية بها قائمة. ولكن الأمريكي يعلم في المقابل أن ذلك غير ممكن دون القيام بخطوة نوعية تطمئن الحليف التركي وتوقف اندفاعه نحو الهجوم على المنطقة بذرائع مختلفة. تلك الخطوة هي التي ستكون محور النقاشات والتوافقات والاختلافات والتنازلات محلياً وإقليمياً في المرحلة القادمة، وعليها وعلى طبيعتها، وعلى نجاحها أو فشلها سيتوقف مصير المنطقة لسنوات قادمة.