جان كورد
في هذا الجزء الثالث من مقالنا عن الكفاح التحرري الكوردستاني واستمراريته رغم الهزائم والنكبات والمآسي المريرة، نتطرق باختصار إلى قضية شعبنا في غرب كوردستان. هذه القضية التي اصبحت الآن قضية “دولية” ساخنة، تتطلب حلاً دولياً توافقياً بين أطرافٍ عديدة، بحكم المتغيرات والظروف الحالية وتقاطع المصالح وتضارب الاستراتيجيات على الساحة السورية، بعد حربٍ دموية رهيبة دامت ثماني سنوات ولا زالت مستمرة. ونقول “دولية” لأنها لم تظل في نطاق الكفاح الكوردي من أجل الحقوق القومية في سوريا، بل تحوّل هذا الكفاح إلى ورقة ضغط بين أقطاب متناقضة في الاهتمامات والرؤى لمجمل الوضع السوري المتشابك،
ولأن التهديدات التركية المستمرة باحتلال منطقة شرق الفرات، بهدف القضاء على كل طموحٍ للشعب الكوردي بذريعة أن ما يجري هناك من أحداث وقوى، إنما هو “إرهاب” و “خطر على الأمن القومي التركي”، وذلك بعد أن غزت القوات التركية منطقة (عفرين) التي سماها آباء الأتراك في زمن العثمانيين ب”كورد داغ” أي (جبل الكورد) بأنفسهم ، بعد معارك طاحنة لمدة 58 يوماً، وما كانت لتحتل مدينة عفرين لولا أن المدافعين عنها تخلوا بأنفسهم عن مواقعهم وسحبوا قواتهم إلى خارج المنطقة لأسبابٍ عديدة، لا مجال لذكرها الآن. وبسبب هذا الهجوم المستمر من قبل الأتراك على كل ما هو كوردي في سوريا، وتواجد قوات التحالف الدولي في منطقة شرق الفرات، ووجود نزاعاتٍ شديدة بين القوتين العظيمتين في العالم: الولايات المنحدة الأمريكية وروسيا، والخلافات العميقة بين القوتين الاقليميتين في المنطقة: إيران وتركيا، وفي ظل الصراع الدامي بين قوى المعارضة السورية ونظام الأسد الحاكم، ارتفعت القضية القومية الكوردية في هذا الجزء من كوردستان إلى مصاف القضايا العالمية التي لن تحل بسهولة، كما في يوغسلافيا سابقاً وأوكرايينا مؤخراً، دون جهود الكبار لفرض حلٍ يرضيهم قبل أن يرضي أصحاب القضية أنفسهم، سواءً أكانوا كورداً أو سوريين. ولو كلّف نظام حزب البعث نفسه عناء البحث عن حلٍ معقول وواقعي خلال العقود الماضية من حكمه للبلاد لما وصل الوضع في سوريا إلى هذا الحد من التشابك والتعقيد، ولا نزعم أن عدم حل القضية الكوردية سورياً هو سبب كل المشكلة السورية الحالية، ولكن ذلك من جملة المشاكل الهامة التي تراكمت في العهد البعثي ولم يفكّر النظام يوماً في إيجاد حل وطني صحيح لها مع الأسف. وحتى هذه اللحظة، هناك في النظام وفي المعارضة من يسعى للاستمرار في التنكر لوجود وحقوق الشعب الكوردي ويرفض كل المطالب التي يراها الكورد أنفسهم عادلة بموجب “حق تقرير المصير” للشعوب.
القضية الكوردية وكفاح هذا الشعب الذي تعرّض للتجزئة بسبب اتفاقية سايكس – بيكو الاستعمارية في عام 1916 ليست وليدة الحرب السورية، وليست ناشئة منذ قدوم السيد عبد الله أوجلان من شمال كوردستان إلى غرب كوردستان، كما يزعم هيثم المالح الذي يسميه البعض ب”شيخ الحقوقيين” في تصريح تلفزيوني مؤخراً، ولربما يشاطره الرأي في أن الكورد مهاجرون ولا جئون استضافهم العرب الكرماء، أبناء نجد والحجاز واليمن، إلاّ أن تاريخ سوريا يثبت أن الكورد استوطنوا منذ فجر الحضارة البشرية في المنطقة الشمالية من هذه البلاد التي تشكلّت كدولة على أيدي المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكن هذا الكيان موجوداً بشكله الحالي قبل تلك الحرب، وإن كل الدول التي تشكّلت أو تأسست على الأرض السورية، مثل الدولة الأموية والزنكية والأيوبية والحمدانية والعثمانية، لم تسمى ولو مرةً واحدة باسم (المملكة السورية) أو (الجمهورية السورية) أو (الإمارة السورية) حسب علمي، بل كانت بأسماء العوائل التي أنشأتها، وإن مصطلح “الجمهورية العربية السورية” هو نتاج الأفكار البعثية العفلقية، العنصرية الحاقدة والمعادية، لكل ما هو غير عربي، والغريب أن أمثال هيثم المالح وأحمد كامل ومن على شاكلتهما لا يعترفان حتى بما كتبه العنصري العريق محمد طلب هلال ومنذر الموصلي عن الوجود الكورد في شمال البلاد، وهما أقدم زمناً من مجيء السيد أوجلان إلى سوريا بعقود. بل وصل الأمر إلى دعوة المحامية لميا نحاس التي ربما ستصبح رئيسة “إئتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية” لإبادة الأقليات في سوريا، ومنهم الكورد والعلويين، حيث الأقليات في نظرها شرّ مستطير يجب تصفيته وتترحم على أدولف هتلر وتمدح العثمانيين على سوقهم الأرمن إلى مذابح لإبادتهم. فكيف يمكن التلاقي مع هؤلاء أيها الديموقراطيين “الكوردستانيين!” كحلفاءً للحراك السياسي–الثقافي في غرب كوردستان؟
معلوم عن المستشرقين والمؤرخين الكبار أن وجود الكورد في الجغرافيا السورية يعود إلى عهد المملكة الميتانية – الهورية، ويذكرون أنه كان ثمة حروب بين الميتانيين وفراعنة مصر في بلاد (سوريانا) التي لم تكن “عربية” آنذاك، وما جاء العرب إليها إلاّ بعد بدء الغزوات العربية التي سموها ب”الفتوحات الإسلامية” التي رافقها السلب والنهب وكل الانتهاكات لحقوق الإنسان والقمع والتعذيب والتقتيل وحتى سرقة الدجاج ومستلزمات المراحيض والاسطبلات، كما فعل أحفادهم حين دخلوا إلى منطقة عفرين الكوردية قبل عامٍ من الآن. وهم يسترون أفعالهم القذرة تلك ب”فتوى” شرعية تبيح لهم كل ما هو غير إنساني، إضافةً إلى التغيير الديموغرافي، بمساعدة المحتل التركي الغاشم. كما هو معلوم بأن الكورد ساهموا في الدفاع عن سوريا في العهد الأيوبي، وضد كل المحتلين وعلى وجه الخصوص ضد فرنسا التي قاومها بقوةٍ عسكرية متواضعة وزير الدفاع الكوردي الشهيد يوسف العظمةـ يوم غزوهم لسوريا، ولا زال في سوريا آثارٌ واضحة للعيان عن كفاح الكورد الأيوبيين والمقاتلين من أجل استقلال سوريا تثبت عكس مزاعم العنصريين الذين يريدونها “سورية عربية” ليس فيها حقوق قومية للكورد، ولدينا الكثير من المعلومات عن هذا التاريخ الناصع للكورد في سوريا لا مجال لذكرها في هذا المقال.
شهدت العاصمة السورية دمشق منذ الاستقلال نشاطاً ثقافياً وسياسياً للكورد، تجلّى في إصدار مجلات وجرائد كوردية، كما شهدت مساهماتٍ واسعة للعائلات الكوردية الشهيرة من حماه ودمشق والشمال الكوردي في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، بل ظهر عدة رؤساء ورؤساء وزارات من الكورد، خدموا الدولة السورية من دون أي مطالبة بالحقوق القومية لشعبهم، ظناً منهم أن “دولة المواطنة” ستكفل لأبناء جلدتهم الحقوق وتحدد لهم الواجبات، إلاّ أن سوريا التي لم يذكر دستورها شيئاً عن حقوق المكونات غير العربية، دخلت فيما بعد مرحلة مشحونة بالأفكار العنصرية المستمدة من النازية الألمانية والفاشية الايطالية، على أيدي البعثيين والإخوان المسلمين على سواء، فالبعثيون معروفون بحكم ممارساتهم ونهجهم كحركة شوفينية ضيقة الأفق، حاربوا ولا زالوا يحاربون كالطورانيين وغلاة الفرس كل طموحٍ قومي للشعب الكوردي، أما الإخوان فإنهم نادوا ب”الأخوة الإيمانية”، ولكن على أساس أن يتخلى الكورد عن قوميتهم ويصبحوا عرباً، فهم بحكم الدين “عرب” كما تزعم هذه الحركة القومية التي ترتدي زياً دينياً خادعاً، بدليل أنهم كانوا متفقين تماماً مع سياسة التعريب الشامل التي مارسها البعثيون في المناطق الكوردية، حيث لا نجد لهم حتى قبيل وصول بشار الأسد إلى الحكم وراثةً أي بيانٍ يستنكر سياسة التعريب، بل كانوا يؤيدون السياسة الرهيبة للدكتاتور صدام حسين حيال الكورد، وهذا يشمل فرض العروبة على هذا الشعب بزعم أن “لغة أهل الجنة عربية” و”الله تعالى سيخاطب عباده بالعربية”، أي سيكون في الجنة ملايين من المترجمين، وكأن الله تعالى لا يجيد سوى العربية، إلاّ أنهم تذكروا في السنوات الأخيرة أن اللغة الكوردية أيضاً “آيةً من آيات الله تعالى” حسبما ورد في القرآن الكريم، مثل أي لغةٍ أخرى، وسوى ذلك لم يكن للإخوان (الاسم يذكرنا بإخوان الصفا والإخوان في الماسونية) أي برنامج واضح المعالم سوى بيانات هزيلة عن الوجود الكوردي ضمن “الممارسات الظالمة لنظام الأسد والبعث” في سوريا.
رغم كل العوائق والسياسات العنصرية التي منها إسكان العرب في مواطن الكورد تنفيذاً لمشروع “الحزام العربي” في الجزيرة السورية، والتجريد من الجنسية بشكل عشوائي، والاحصاء الاستثنائي الذي اعترف بشار الأسد بأنه كان خاطئاً، فإن الحركة الثقافية الكوردية منذ الاستقلال قد تطورّت إلى حركة سياسية منظمة في عام 1957، حيث توحدت أطراف وشخصيات ناشطة لتأسيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني – سوريا، إلاّ أن القمع على أثر قيام الوحدة بين سوريا ومصر في عهد جمال عبد الناصر قد أضرّ بالحركة الكوردية السياسية ضرراً بليغاً، وتوالي الانقسامات فيها بسبب الخصومات الشخصية واليسارية والندخل السافر من قبل الأجهزة الأمنية في مسار هذه الحركة، ومنذ ذلك الحين وإلى بدء الثورة الشعبية العارمة في سوريا في عام 2011 ، والمناضلون الكورد كانوا يتعرضون باستمرار إلى الاعتقال والتعذيب، رغم أنهم لم يستخدموا العنف ضد النظام والتخريب ضد مؤسسات الدولة أبداً، ولم تتجاوز مطالبهم حقوقهم القومية ضمن إطار الدولة السورية، ولكن العنصريين في النظام وما سمي ب”الجبهة الوطنية التقدمية” والمعارضات المختلفة الألوان له، من يسارية وإسلامية و”ديموقراطية!”، كانوا متفقين على أمرين: ضرورة مكافحة أي سعي كوردي، شخصي أو مجتمعي أو حزبي مطالب بحق الشعب الكورد في إدارة ذاته وضرورة إحتواء الحركة الكوردية المتهمة ظلماً وعدواناً بالانفصالية والعمالة للامبريالية والصهيونية واسرائيل، وهم ذاتهم الذين يتوسلون هذه القوى العالمية لمساعدتهم بالمال والسلاح، وعندما ثار الكورد في عام 2004 أي قبل اندلاع ثورة الحرية والكرامة بسبع سنوات، وقفت المعارضة السورية إجمالاً موقف المتفرج وراحت تؤيد النظام الذي تعاديه في حملاته الشرسة والدموية في المنطقة الكوردية، كانت شعارات شوفينية مختلفة وصدامية دموية النزعة تطالب بسحق الكورد وإبادتهم وتطهير سوريا منهم، ليس من جانب عملاء النظام وحده وإنما من أقطاب المعارضة السورية. وهذا مثير للغرابة فعلاً في وطنٍ يتعرّض شعبه لشتى صنوف العدوان من قبل حكومته، فينتفض جزءٌ مهم من الشعب السوري ضد الظلم والتمييز والعنصرية، فتقف المعارضة في أغلبها مع الحكومة الظالمة والمعتدية ضد ذلك الجزء الثائر. فهل يمكن تفسير هذه الظاهرة بغير “الشوفينية الحاقدة” على الوجود الكوردي في المجتمع السوري برمته؟
منذ اندلاع ثورة الحرية “السلمية” في عموم سوريا والمساهمة الفعالة للشباب الكوردي فيها، ورفع شعارات وطنية صادقة مثل “واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد”، تغيّر الوضع السياسي في المنطقة الكردية تغييراً كبيراًـ ساهمت في حدوثه عناصر مختلفة وأسباب عديدة وظروف اقليمية ودولية متجددة باستمرار، وحتى غزو تركيا العسكري للعديد من المناطق السورية ومنها منطقة جبل الكورد “عفرين”، عاشت المنطقة في ظل حزب الاتحاد الديموقراطي في وضعٍ بائسٍ فعلاً من انعدام الحريات السياسية وتجنيد الشباب قسراً وفرض أتاوات على كل العائلات واختطاف فتيانٍ وفتيات، ومن مختلف الممارسات المتعارضة مع لائحة حقوق الإنسان، ثم جاء الجيش التركي وسمح للإرهابيين بممارسة سياسةٍ إرهابية قاسية حيال المواطنين، تتمثّل في السلب والنهب للمنازل والمحلات والمؤسسات، والتقتيل والترهيب وفرض الأتاوات وقطع أشجار الزيتون التي هي أهم مصدر رزق للكورد في المنطقة، وطرد أبناء المنطقة من منازلهم لإسكان الغرباء فيها، وتوزيع أملاكهم على الإرهابيين، بموازاة فرض التعليم باللغة التركية وربط المنطقة إدارياً بمحافظة انطاكيا التركية وتتريك أسماء القرى والمحلات والساحات العامة والشروع في تنفيذ مشروع “التغيير الديموغرافي الشامل” في المنطقة لمحو شخصيتها الكوردية تماماً، ولذا فإن من الضروري الكتابة عن هذه الشؤون التي نجمت عن الثورة السورية وتأثيرها في النظام والمعارضة، وفي الكفاح الكوردي بشكل خاص، وهذا ما نقوم به بين الحين والحين وسنستمر في هذا المسار إن شاء الله، ومن ثم سنكتب عن أخطاء الحركة الكوردية السياسية بصدد منطقة عفرين، والمؤثرات الخارجية فيها، والبحث عن حل سليم وعقلاني لمشاكل المنطقة بما فيها إبعاد خطر التتريك والتعريب عنها وإيقاف التغيير الديموغرافي فيها.