د. محمود عباس
لا نستبعد أن أغلبية أعضاء الكونغرس الأمريكي ليس فقط أصبحوا يعرفون تفاصيل القضية الكردية، وتجاوزوا معرفتهم لخصوصياتها، بل على الأرجح أنهم أحاطوا بكردستان كجغرافية، ومن خلال الوجوه الجديدة التي تظهر على الإعلام الأمريكي وهم يحللون إشكالية خلافاتنا مع الدول المقتسمة لكردستان وبشكل خاص مع تركيا، تتبين أن نسبة الداعمين لقضيتنا في تزايد، والحوارات ضمن قاعات الكونغرس حول الإشكالية الكردية تتشعب، وبعضهم بدأوا يعرضون أراء جريئة لصالح قضيتنا، وهذه بدورها أثرت على بعض المفاهيم السابقة والصور النمطية الخاطئة عن الكرد لدى الحركات السياسية والثقافية في الشرق الأوسط، وذلك لربما بفضل الرئيس دونالد ترمب بعدما أصبح يعرف جنوب غربي كردستان بتفاصيلها السياسية والعسكرية، وبعض من ماضيها وحاضرها، أكثر من معرفته للعديد من دول العالم المعترفة بها في هيئة الأمم، والأسباب عديدة، وفي مقدمتها محاربة الكرد الإرهاب التكفيري الإسلامي العروبي نيابة عن العالم. وتوتراته المتكررة عنها وعن الكرد عامة تثبت ما نحن بصدده.
لكن في الواقع لا تكفي هذه المعرفة التي كنا نتشوق إليها في الماضي، فقد بلغنا مرحة نحلم بحضور كردي كقوة لها كيانها، وإدارة كردستانية مستقلة، وبمستقبل مشرق، خارج هيمنة وإملاءات الدول المقتسمة لكردستان.
يتوقف هذا المأمول على العاملين كما يعلم الجميع، الموضوعي والذاتي معاً، وأولوية أحدهما تعتمد على ظروف المرحلة الزمنية، واليوم وما نمر فيه نلاحظ أن العامل الأول يفرض ذاته، وهو يكاد أن ينزاح إلى حيث المصالح، وليس القيم والأخلاقيات والحقوق الإنسانية، وما تخططه إدارة ترمب لمستقبل شرق الفرات تتلقفها مصالح عدة قوى، بينها من لها ثقل على موازين القوى الكبرى، وتكيد العداوة للكرد ووجودهم بشكل مباشر، كتركيا وإيران، ومنها من تتلاعب بالخباثة السياسية، حيث التلاعب بالمصطلحات المنمقة كالوطنية والمجتمع الواحد، وغيرها، وكثيرا ما تؤثر هذه المصالح إلى جانب الخدع بشكل مباشر على مواقف ترمب وتويتراته، واستراتيجية إدارته، سلبا وإيجابا.
فرغم غياب الثقة بما يكتبه ترمب في تغريداته، إلا أن تهديده، وقد فسرته كتحذير، في يوم 13/1/2019م كانت نقلة نوعية استراتيجية لصالح الكرد لم تبلغها سابقا، ولم تذكرها أية قوى كبرى في التاريخ، بحق الدول المقتسمة لكردستان، ورغم هذه المفاجأة لكل المراقبين السياسيين وللكرد وإدارة أردوغان بشكل خاص، لم يتركها ترمب دون مفاجأة مماثلة عتمت على الأولى، حتى ولو لم تقض عليها كما هو متوقع حسب تصريحاته وتعليقات مستشاريه، إلا أنها أصبحت كجدلية الناسخ والمنسوخ، أو لنقل قللت من تأثيرها على الساحتين الكردية والتركية، بل والسورية.
ففي التغريدة الأولى لم يتسنَ للمحللين التعمق في خلفية التحذير الغريب أو التهديد غير المتوقع، والدفاع غير العادي عن الكرد، رغم كونها ترسيخ لنوعية المصالح المتوفرة مع الكرد، والتأكيد على استمراريتهم كأدوات لمحاربة داعش نيابة عنهم وعن العالم. ليظهر فجأة وكعادته، بتغريدته الثانية، ويعود مباشرة إلى حيث تكمن مصالحه الاقتصادية، وذلك بترضية أردوغان، سبقتها مخابرة، وتأكيدا في توتيره على احتمالية تطوير العلاقات الاقتصادية بين الدولتين إلى أعلى المستويات التنموية الإستراتيجية.
كما وتمت الموافقة على فكرة المنطقة الآمنة، وبالمسافة والعمق المكاني المحدد تركيا، بـ 20 ميلا، على طول المنطقة الكردية من ديريكا حمكو إلى جرابلس، وعلى الأغلب اقتطعت منها منطقة عفرين، لأن قضيتها محسومة بين روسيا وتركيا، وهي حاليا تعتبر مستعمرة تركية تحت غطاء المعارضة المسلحة، متناسين وفي هذه المرحلة أن التكفيريين العروبيين، والمنظمات المدرجة ضمن قائمة الإرهاب العالمي تحكم عفرين والمنطقة المتاخمة لحدود تركيا حتى جنوب إسكندرونه.
فدراسة هذه الجدلية المشوهة كردياً، ومن سيحكم جنوب غربي كردستان، هي لب الإشكالية هنا، فمن سيناقش ويوضع لها الحلول إلى جانب أمريكا وتركيا؟ وهل الغياب الكردي حالة مفروغة منها، أم هناك احتمالات لإشراك الكرد؟ كيف، ومن هي الجهة المتوقعة حضورها، وأن حضرت هل هي للمشاركة أم كمراقب وللتشاور معها؟ فهل ستكون الموافقات النهائية لصالحنا، أو أنها ستكرس مسيرة التغيير الديمغرافي الكردي، فتركيا تخطط لإعادة ثلاثة ملايين مهاجر سوري عربي من المخيمات التركية إليها. وبالتالي ستفاقم ما تم على مدى السنوات الثمانية الماضية من التدمير البشري في المنطقة كما هي في كل سوريا، كما وهي تتمة لعمليات التعريب الجارية منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، وبالتالي سيتمكون من إعادة طمس قضية تقسيم كردستان.
وبدون الحضور الكردي سيتم تكرار تطبيق طريقة معاهدتي لوزان وسيفر للطمس على القضية ثانية، ولذلك لا مجال للكرد إلا التكاتف، والعمل على نسق واحد، للمشاركة في مجريات النقاش حول المنطقة الأمنة، ولوضعها على الأقل تحت وصاية هيئة الأمم المتحدة، والتركيز على تطبيق القوانين الدولية في حق الشعوب بتقرير مصيرها.
وهنا يأتي دور العامل الذاتي، بعد ظهور رجحان ميل إيجابي للقوتين الكبيرين نحو الكرد، واهتمام ترمب، والعديد من شخصيات إدارته، بنا كشعب رغم تعديلاته، ومدى قدرتنا على تغيير المعادلة لصالح قضيتنا وشعبنا، ومستقبلنا. وللأسف حتى اللحظة العامل الذاتي (وأهمها المسائل المتعلقة بخلافاتنا الداخلية كحراك سياسي ثقافي) أضعف من أن يجاري الاهتمام العالمي بنا، واحتمالية تشكيل ثقل مشترك يكون على مستوى قضيتنا هزيلة في المنظور القريب، ويفاقم منها خلفية الصراع المحتدم بين المجتمع الكردي البالغ مرحلة مرعبة، إلى درجة أن الأعداء يستطيعون تمرير أجنداتهم، دون أن يجدوا من يقف في وجههم.
ومن المؤلم، وفي هذا الوقت الحساس، نرى أن القوى الكردية السياسية والثقافية ملتهية بصراعاتها الداخلية، بل ومقحمة معها أغلبية قوى المجتمع إلى درجة أن الصراع بين أطياف الشعب بلغ حدا حتى فيما لو اتفقت الأحزاب بين بعضها على بعض النقاط، ولضرورات المرحلة، فإن المجتمع وفي مقدمتهم شريحة واسعة من الحراك الثقافي سيقفون ضدها. وفي هذه البيئة الخصبة الغارقة في السلبيات تتحرك القوى المقتسمة لكردستان، المطالبة بالمنطقة الأمنة، وتخطط مع الدول الكبرى مصيرنا ومصير منطقتنا، ولهذا فالمتوقع وحسب مجريات الأحداث أن معظم ما سيتم سيكون لصالح الأعداء قبل الكرد، فيما إذا لم نتدارك الأمر، ونتفق على بعض نقاط التقاطع.
بدون الحضور الكردي، يرجح أن ترمب سيوافق على تقطيع جنوب غربي كردستان، إلى عدة مناطق، كردية وعربية، وسيتم الفصل بين الكرد حتى ولو ظل قرار حماية الكرد ساري المفعول، ولا يظن أن أردوغان سيعترض، شريطة أن تكون تحت حماية قوى أعلى سلطة من القوة الكردية الموافقة على تواجدها في المناطق الكردية المعزولة، وهنا لا يمكن عزل الرأي الروسي ونوعية الإدارة في جنوب غربي كردستان، والمرجحة أن تتجه إلى حيث شكل الحكم الفيدرالي كإقليم جنوب كردستان، وهذا هو المطلب الأنسب لنا في هذه المرحلة، بل ودونها سنخسر الكثير، وهو المرفوض حتما من قبل كل القوى المقتسمة لكردستان وعلى رأسهم تركيا وإيران، وبسند روسي، لأن الأخيرة تصر على تطبيق الإدارة المركزية بدستور ذات نكهة روسية.
وبالتالي ترمب سيرجح مصالحه، والحماية الكردية من ضمنها، ولكنها لا تعني فرضهم على الدول العربية وتركيا، وهنا يظهر التضارب، ولكنها ستصبح واضحة للكرد ولأمريكا، وستحرج الأخرين في حال تمكنا من الوصول إلى تشكيل هيئة مشتركة تتحدث باسم الشعب الكردي، وقدمت لتمثل كل أطراف الحراك، وجلها متوقفة على مدى مصداقية أحزاب الإدارة الذاتية، وبشكل خاص الـ ب ي د، في تقديم مثل هذا المشروع، ولربما هذا يبدو مطلبا طوباويا، مثلما هي شبه مستحيلة في معادلات القوى المعادية للكرد، لكن بدون نقل الطوباوية إلى واقع وحقيقة، سنبقى نستجدي الأخرين من على قارعة المحافل الدولية وأرصفتها، وننتظر ما سيكرمون علينا من الخيرات، ربما حقوق شبه ثقافية وإدارات محلية ممزوجة ومشوهة.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
16/1/2019م