حزب الاتحاد الديمقراطي بين نارين.. وماء

د. ولات ح محمد
في الوقت الذي كانت قوات سوريا الديمقراطية تتهيأ للمرحلة التالية للانتصار على داعش وترتب أوراقها على أساس استمرار القوات الأمريكية شرق الفرات وفق ما صرح به مرات عدة مسؤولون في الإدارة الأمريكية، فاجأها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كما فاجأ أركان إدارته والعالم كله أصدقاء وخصوماً بقرار سحب قواته من شرق الفرات خلال مدة قصيرة. وجدت أنقرة نفسها فجأة أمام فرصة قد لا تتكرر فقامت بإرسال تعزيزات عسكرية سريعة بغية الدخول إلى ما تبقى من الشمال السوري وتفتيت الكتلة الكوردية هناك كما فعلت في عفرين بحجة القضاء على حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته المسلحة.
هكذا، بعد رفضهم المقترح الأمريكي “المفترض” القاضي بانتشار قوات كوردية وعربية على الحدود مع تركيا، وجد الحزب وقواته العسكرية في صباح أمريكي ترامبي أنفسهم وحيدين في مواجهة التهديدات التركية التي كانت تصطدم بجدار وحيد هو جدار الوجود الأمريكي في شرق نهر الفرات، وباتوا مهددين بتكرار سيناريو عفرين بكل أبعاده ونتائجه الكارثية، فقاموا على الفور بتفعيل خطوط الاتصال مع دمشق مطالبين بحمايتهم وحماية الأراضي السورية من هجوم الجيش التركي المحتمل أو الوشيك. 
لم يكن للحزب في مثل هذه الظروف أن يفرض شروطه كما كان يفعل في المرات السابقة فدعا فوراً جيش النظام إلى الانتشار على الحدود، الأمر الذي رفضته دمشق إلا بعد استلامها المنطقة كاملة، وهو الطلب ذاته الذي تقدمت به قبل نحو عام ورفضه الحزب فاحتل الأتراك عفرين. بوساطة روسية أرسلت دمشق قوات لها إلى محيط منبج، مقابل الحشود التركية على الحدود وبالتزامن مع تصريحات خرجت من دمشق تدعو الاتحاد الديمقراطي إلى تسليم المنطقة دون شروط وترفض أي حوار بخصوص وضع الإدارة الذاتية، بينما كانت القوات الأمريكية تتحضر لتنفيذ أمر سيد البيت الأبيض بالانسحاب والعودة إلى المنزل.
بعد أن أطلق ترامب يد أردوغان في شرق الفرات وقال له: “خذها، هي لك، نحن عائدون إلى بيوتنا”، وفي الوقت الذي لجأت قوات سوريا الديمقراطية إلى دمشق لمنع الهجوم التركي ودَعتْها إلى دخول منبج، كان قرار ترامب يواجه اعتراضات واسعة من إدارته واستقالات وضغوط سياسية وإعلامية دفعته إلى مراجعة موقفه فصار يتحدث عن انسحاب “بطيء” ثم “غير محدد” ثم “انسحاب حذر”، مطالباً أنقرة بالتريث ثم بضمان “عدم قتل الكورد في سوريا” ثم “بضرورة حمايتهم”، الأمر الذي هدّأ من الحماس التركي ورفع الضغط عن الاتحاد الديمقراطي وقواته وجعله يأخذ نفساً عميقاً ويعيد حساباته من جديد؛ فبقاء قرار ترامب في الشكل وتغييره في المضمون يعني أن شيئاً مهماً لم يتغير وأن الأمور ستبقى في المدى المنظور على ما هي عليه، حتى وإن انتقل قسم من القوات الأمريكية إلى الجانب العراقي من الحدود، خصوصاً بعد أن سلم مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتن باليد رسالة واشنطن الواضحة لأنقرة: لا نقبل بالاعتداء على حلفائنا في شرق الفرات.
ضمن هذه المعطيات والمتغيرات المتسارعة بات حزب الاتحاد الديمقراطي يقف ومعه كل تشكيلاته الأمنية والعسكرية على مفترق طريقين بدلاً من طريق واحد: الأول أن يواصل حواره مع دمشق بوساطة روسية، بغية الحفاظ على نفسه، وأن  يظهر للنظام ومعه الروس أنه قد أدار ظهره لواشنطن تماماً وأنه لن يعود إلى التحالف معها بغض النظر عن التطورات القادمة. وهو ما عبر عنه بعض مسؤوليه في الأيام الماضية. ولكن في هذه الحالة يبقى عالقاً سؤال الأسلحة الأمريكية التي بحوزة قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب. أما الطريق الثاني فهو العودة من جديد إلى الحليف الأمريكي، خصوصاً بعد الزيارة السلبية تركياً والإيجابية كوردياً لمستشار الأمن القومي ووفده إلى أنقرة وتصريحاته التي قال فيها إن أمريكا لن تقبل بالاعتداء على الكورد في سوريا وإن أي انسحاب لقواته يجب أن يضمن سلامتهم أولاً. 
الآن، إذا ذهب الاتحاد الديمقراطي مع الخيار الأول فإنه سيحافظ به على نفسه وقد يحصل من دمشق على جوائز ترضية ليس أكثر، ولكنه في النتيجة سيخسر مكاسبه الإدارية والعسكرية من جهة، وسيتسبب بخسارة واشنطن التوازن الاستراتيجي في سوريا مع كل من روسيا وإيران من جهة ثانية، وسيقلب أوراقها رأساً على عقب، الأمر الذي ينطوي على مخاطرة لا يمكن التكهن بانعكاساتها على الحزب الذي صار في موقف صعب، وبات اختياره لأي اتجاه يفرض عليه القيام بخطوات تفيده وأخرى تضر بمصلحته الذاتية. 
الانحياز للخيار الثاني كذلك فيه مخاطرة كبيرة؛ فصحيح أنه سيجعل الاتحاد الديمقراطي يحافظ (بعكس الخيار الأول) على مكتسباته الإدارية والعسكرية في ظل وجود حماية الحليف الأمريكي وسيؤمن لنفسه بذلك مكاناً حول طاولة الحوار المستقبلية حول سوريا، وأنه حتى لو واصل التفاوض مع النظام فسيفاوضه من موقع القوي غير المضطر، ولكن الصحيح أيضاً أنه لا يمكن الوثوق بقرارات ترامب المتسرعة والمتناقضة أو التكهن بها أو البناء عليها لأنها لا تخضع لغير منطقه ومزاجه هو. وإذا فعلها مرة أخرى لأي سبب واتخذ قراراً معاكساً (وقد يفعلها) فقد لا يحصل الحزب حينئذ من دمشق وموسكو على ما قد يحصل عليه الآن، بل قد يجد نفسه آنذاك بين مطرقة دمشق وسندان أنقرة. 
علينا أن نشير هنا إلى أننا نرسم هذين السيناريوهين مفترضِين أن الحزب حرّ في اختياراته وأنه بإمكانه أن يختار ويفاوض هذه الجهة أو تلك كما يشاء، ولكن الواقع غير ذلك؛ فالحزب لديه هامش مناورة محدود في هذا الإطار؛ ففي الحالة الأولى لم يعد حراً في الذهاب إلى دمشق بعد ضمان الأمريكي لحمايته من الهجوم التركي، وحتى إذا غامر واستمر في الحوار مع دمشق فسيفاوض وعينه على الحشود التركية. وهذا يعني أنه سيرضى مضطراً من دمشق مقابل حمايته بأقل مما كان يطمح إليه كي يتجنب السيناريو الأسوأ المتمثل في المواجهة مع الجيش التركي. 
الأمر الآخر الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو أن الطرف الأمريكي لن يرضى بأن تدخل قوات سورية أو إيرانية إلى المناطق التي حررها مع قسد ويقوم بحمايتها منذ عامين. أي أن قسد في حوارها مع دمشق وموسكو ليست حرة تماماً في تسليم المنطقة التي تشاء للقوة التي تشاء، وما حصل في منبج من رفض أمريكي لدخول قوات النظام التي دعتها قسد دليل واضح على ذلك. الطرف السوري يعلم هذه الحقيقة، ولهذا صرح نائب وزير الخارجية بأنهم يريدون أن تكون هذه المجموعات (يقصد قسد) مخلصة في حوارها معهم.
إلى جانب هذين الخيارين الصعبين هناك نقطة في الوسط قد تلتقي عندها جميع الأطراف إذا حصل توافق أمريكي- روسي، وتكون مخرجاً جيداً للاتحاد الديمقراطي وللمنطقة وسكانها عموماً. تلك النقطة تتمثل في إعادة السيادة السورية إلى مناطق الإدارة الذاتية وإن كانت بصلاحيات محدودة، ومنع تركيا من القيام بأية عملية عسكرية أخرى داخل الأراضي السورية، مقابل تعهد دمشق (بضمانات روسية – أمريكية) بالاعتراف بشكل من أشكال الإدارة الذاتية لتلك المنطقة في الدستور القادم. وهو سيناريو يعمل على تعزيز سيادة الدولة وضمان حقوق جميع المكونات في دولة لا مركزية، وإبعاد نفوذ كل من أنقرة وطهران عن الجغرافيا السورية. لذلك بعد زيارة بولتن لأنقرة وبالتزامن مع جولة بومبيو في المنطقة تسابق تركيا الزمن لمنع حدوث هكذا توافق، وتصر على احتلال أراض سورية أخرى بأي ثمن، وهو ما يفسر تصعيد لهجتها في وجه واشنطن بعد زيارة بولتن الأخيرة.  أما النظام فإنه قد لا يكون مرتاحاً لهكذا سيناريو لأنه يرغب في استغلال الظروف وإعادة سلطته المركزية على الأراضي السورية كافة دون مقابل.
مثل هذا الحل من جهته يحتاج إلى أمرين: الأول توافق أمريكي روسي (وربما يكون قد حصل) والثاني جسم كوردي (لا حزب واحد) يمثل جميع الأطراف على طاولة الحوار السورية. وهذا بدوره يتطلب التقريب بين الأطراف الكوردية لتتوافق على تشكيل جسم تفاوضي يمثل كل الكورد للدخول في مثل هذا الحوار باسمهم جميعاً. وقد تكون المبادرة التي أطلقتها KNK تحت مسمى “المؤتمر الوطني الكوردي” خطوة في هذا الاتجاه وبطلب روسي- أمريكي تحديداً. كذلك التحركات التي شهدتها وتشهدها المنطقة من التقاء مسؤول أمريكي بوفد من المجلس الوطني الكوردي في تركيا قبل أسابيع وإرسال كل من المجلس الوطني والإدارة الذاتية وفداً إلى كل من روسيا وأربيل، وكذلك زيارة مايك بومبيو لأربيل مؤخراً وغيرها من اللقاءات، ربما تأتي في هذا المنحى أيضاً. وقد يكون الدور المحوري لأربيل في هذه الترتيبات هو ما دفع النظام مؤخراً لاتهام بعض قيادات إقليم كوردستان “بدعم الإرهاب في شرق الفرات”. 
    

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…