ماذا وراء اشعال تركيا حرب طاحنة بين فصائلها الارهابية المُستترَكة

زاكروس عثمان
 
يسير المشهد الميداني في المناطق خارج سيطرة بشار الاسد بسوريا الشمالية، لصالح جبهة /النصرة/، التي تكاد تحسم حربها ضد بقية  الفصائل الارهابية المُستترَكة، بالسيطرة على الاراضي شمال المنطقة العازلة غربي حلب، ادلب، شمال حماة، وسط انهيار سريع وغير متوقع لحركة /الزنكي/ التركمانية، وعجز تام للفصائل المنضوية في الجبهة /الوطينة/ المُستترِكة، التي بدأت تتقهقر صوب عفرين المُحتَلَة, بعد اندلاع المعارك بين الجانبين في 1.1,2019. 
ويبقى السؤال عن اسباب انقلاب صراع الفصائل الارهابية فيما بينها من مناوشات جانبية، الى حرب شاملة، كلفت اكثر من 700 قتيل وجريح حتى الان، ولماذا اقدم امير تنظيم القاعدة في سوريا جبهة /النصرة/، ابو محمد الجولاني، على عملية خطيرة، تُغضب حليفه التركي، بقدر ما تُخيف الجانب الروسي ونظام الاسد من سيطرة تنظيمه الارهابي على كامل الاراضي شمال خطوط التماس بالمنطقة سالفة الذكر، ما يضع احتمال تفاهم روسي- تركي على اعلان الحرب على /النصرة/ والقضاء عليها. 
 
ولعل تتبع مستجدات الوضع السوري في المدة الاخيرة، يكشف عن الاسباب العميقة التي دفعت بجبهة /النصرة/، لشن هجوم هو الاعنف منذ سنوات على الفصائل المستترَكة، وما كان الجولاني  يُقدم على مغامرة عسكرية بهذا الحجم، فقط لأجل مشاحنة  بقية الفصائل على النفوذ والسلطة والثروة، انما هناك ابعاد تتخطى الدوافع الذاتية للفصائل المتناحرة، الى مُشَغِلها التركي وكيفية تعاطيه مع روسيا وامريكا بشأن الملف السوري، وكيف ان انقرة توصلت مع موسكو الى تفاهمات (قيصرية) حول الُهدَن المؤقتة ومن ثم الى اتفاق المنطقة منزوعة السلاح في سوريا الشمالية. 
ولان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب اردوغان، يدركان نوايا بعضهما البعض، وان كل منهما  يناور الاخر في سبيل تحقيق اجندة بلاده في سوريا، وان انقرة وموسكو تخادعان بعضهما في هذا الملف، حتى لو كانت هناك مصالح مشتركة بينهما الا انها تظل مصالح آنية، ويدرك الجانبان ان المنطقة العازلة بالنسبة لهما هي مناورة لشراء الوقت وتحين الفرص، ولهذا لم يلتزم اي منهما عمليا بتطبيق الاتفاق، روسيا لم تلجم خروقات قوات الاسد، وتركيا لم تردع خروقات فصائلها، وبقي اردوغان يتهرب من شريكه بوتين بشأن تعهده بتصفية التنظيمات الارهابية (جبهة النصرة)، التي ازدادت قوة ونفوذا بعد تطبيق “شكلي” للمنطقة العازلة.
وتتطلع موسكو الى بسط سيطرة نظام الاسد على كامل الاراضي السورية وتحضر نفسها لمعركة ادلب، فيما تجد انقرة انها لم تحقق اجندتها في الحرب السورية بعد، وليس من صالحها ان يخوض النظام ومن خلفه روسيا معركته الفاصلة ضد الفصائل الارهابية المُستترَكة  في جيبها الاخير  المتبقي بسوريا الشمالية، ولهذا يلعب اردوغان على اكثر من حبل ويناور بوتين من جهة والرئيس الامريكي دونالد ترامب من جهة اخرى، لشراء مزيد من الوقت، بانتظار تغير الظروف عله يحصل على فرصة مناسبة بها يحقق اهدافه في سوريا وهي وأد الحركة الكوردية.
وحيث انه يجد صعوبة في التفاهم مع الادارة الامريكية، فانه يراهن على ارضاء شريكه التكتيكي بوتين القوي، بتقديم رشاوى سياسية- عسكرية له، ومنها اللعب بورقة جبهة /النصرة/، ومحاولة خداع الروس بانه مستعد بالتخلي عنها والمساهمة في تدميرها- في الحقيقة هو لا يضرب فصائله الارهابية المُستترَكة انما اذا اقتضت الظروف يبدل جلدها في لعبة مكشوفة للجميع- اذ سبق له ان اوعز لتنظيم داعش ان يضم عناصره الى فصائه المُستترَكة، ثم اعلن شكليا الحرب على التنظيم، ليظهر امام العالم ان تركيا تكافح الارهاب، وتحت هذه اليافطة يمكن للجيش التركي ان يدخل الى سوريا، واليوم جاء بتمثيلة القضاء على النصرة، وتقديم بديل لها  الجبهة /الوطنية للتحرير/، واقرت انقرة على مضض ان الجولاني زعيم على راس تنظيم ارهابي، وتعهدت بضبط الفصائل المُستترَكة التي يسميها اردوغان معتدلة؟ ومنعها عن الاتيان باي نشاط عسكري ضد النظام، ونتيجة الموقف الدولي توصل مع بوتين الى جرعة مُسكِنة في سوتشي، وتقرر تأجيل معركة ادلب، ولكن الى حين. 
وما كان تهرب اردوغان من تحييد /النصرة/، لتعجب بوتين، واعلنت موسكو مرارا ان التزام انقرة باتفاق المنطقة العازلة لا يسير كما يرام، هنا بدأ القلق يساور اردوغان من قيام روسيا بعملية عسكرية للسيطرة على ادلب والانتهاء من الفصائل الاسلامية المُستترَكة، ما يُفقدُ تركيا ورقة رابحة في سوريا الشمالية، ويفوت عليها فرصة تحقيق هدفها الاستراتيجي بتوجيه ضربة قاضية الى روزافا كوردستان (شمال وشمال شرق سوريا)، وهذا قط لا يواتي اردوغان، الذي يريد الحفاظ على الوضع الحالي ريثما تسمح له الظروف الدولية بالهجوم على الكورد، وحين وجد ان الوقت ينفذ منه، اعلن قرب موعد الهجوم على روزافا كوردستان، واخذ يساوم الامريكيين من جهة والروس من جهة اخرى، الى ان اطلق  ترامب تغريدته الشهيرة حول سحب قوات بلاده الحليفة للكورد من سوريا، وبقي على اردوغان ان يحصل على موافقة بوتين ايضا لشن العدوان على روزافا كوردستان، الا  ان تغريدة ترامب كانت (مفخخة) لدرجة انها بعثرت اوراق قوى الصراع المنخرطة في الحرب السورية، وما زاد من ارباك تركيا ان موسكو طلبت منها التريث في شن الهجوم على الكورد، حيث وجد الروس ان الانسحاب الامريكي فرصة ذهبية لبسط سيطرة النظام على روزافا كوردستان دون قتال، فلماذا يسمحون لتركيا باحتلالها وتسليمها الى الفصائل الارهابية المُستترَكة، والاشد من ذلك ان البيت الابيض عاد سريعا واكد بقوة التزامه بحماية الكورد، بل ذهب صقور ترامب ابعد من ذلك وقالوا بصوت عال “لا انسحاب بدون ضمانة ان تركيا لن تقتل الكورد)، وهنا تبينت هشاشة الشراكة التكتيكية بين انقرة وموسكو، ومدى تناقض مصالح البلدين في الملف السوري، وبات على اردوغان تقديم رشاوى كبيرة الى بوتين للسماح له بضرب روزافا كوردستان، ولكن ماذا يمكن للأتراك ان يقدموا للروس. 
اعتقد اردوغان انه قادر على خداع بوتين في قصة التمييز بين فصائل اسلامية معتدلة واخرى ارهابية، ولكن موسكو تعلم جيدا ان فصائل الشمال تركيبة تركية محضة، وان اردوغان حسب الموقف تارة يستخدم المعتدلة وتارة الارهابية اثناء لعبه مع روسيا والمجتمع الدولي، لهذا فشل اردوغان في اقناع بوتين  بسيناريو نسخة معركة حلب 2016، حيث تركت تركيا فصائلها الاسلامية بالمدينة لمصيرها و(اطلقت يد) النظام السوري للسيطرة على حلب، بالمقابل اطلقت روسيا يد تركيا في مناطق الباب ومن ثم عفرين.
وفي نهاية 2018 عرضت انقرة على موسكو صفقة مماثلة، بان تترك فصائلها الاسلامية في ادلب لمصيرها وتطلق يد النظام للسيطرة عليها، بشرط اطلاق يد الجيش التركي في روزافا كوردستان، لكن الصفقة لم تعجب روسيا، الا ان مراوغات اردوغان لا تنتهي، فقرر بطريقة ماكرة ان يقدم ادلب هدية مجانية الى الروس، وذلك بضرب فصائله المعتدلة بفصائله الارهابية، ومن هنا اشعل الحرب الشاملة بين /جبهة النصرة/ و /الجبهة الوطنية/، والكل يعلم ان لا احد يستفيد من (الحرب الفصائلية) غير النظام وحلفائه، لاسباب لا تحتاج الى توضيح، وعلينا التفكير في سر الانهيار السريع (المسرحي) للفصائل المُستتَركة امام /النصرة/، والسؤال عن مسلحي الفصائل التي حلت نفسها او اندثرت اين ذهبوا، واضح ان تركيا قدمت /النصرة/ الى الواجهة، كورقة من اوراق اللعب مع روسيا، في رمال سوريا المتحركة، ويرمي اردوغان من تحريك /النصرة/، الى تحقيق واحد من ثلاثة اهداف.
الاول: ابتزاز بوتين بورقة /النصرة/، على اساس ان لا حكم لتركيا على الجولاني الذي قد يسيطر منفردا على خط المواجهة مع النظام، ويهدد قواته، باعتبار /النصرة/، غير معنية بالمنطقة العازلة، وهذا قد يدفع موسكو الى قبول هجوم تركي على الكورد.
الثاني: على نقيض الاول اذ يفكر اردوغان انه بتحريك /النصرة/، يقدم ذريعة لروسيا بكسر المنطقة العازلة والهجوم على الشمال لبسط سيطرة النظام عليه، وربما موسكو تكافئ انقرة على هذه الخدمة بهجوم على الكورد.
الثالث: هو ان اردوغان جاد في تعزيز قدرة /النصرة/، تحسبا لمجابهة قادمة مع النظام وايران وروسيا في ادلب، ومثل هذا الامر لا يلبي مصالح تركيا، التي تريد البقاء في سوريا ريثما تنهي الوجود الكوردي هناك، ولان تركيا اضعف من ان تخوض مواجهة مباشرة مع الروس في سوريا، فانها تستطيع الدفع بـ /جبهة النصرة/، الارهابية لخوض المعركة نيابة عن اردوغان ضد النظام وحلفائه، ويمني اردوغان النفس بحدوث فوضى يستغلها للهجوم على روزافا كوردستان. 
ولم يكن الجولاني  بعيدا عن تفكير اردوغان، بل على دراية بالصفقات التي يخطط لها من وراء ظهره، وتوجس الرجل ان يحول الاتراك جبهة /النصرة/، الى كبش فداء يقدمونها الى الروس والنظام، وربما يكون الرجل سقط في فخ اردوغان، حيث ارسل الاخير مسؤولين باستخباراته الى اجتماع عام مع قادة الفصائل الاسلامية المستترَكة،  تم ابلاغهم ان المرحلة المقبلة ستكون معركة منبج ضد القوات الكوردية، تليها معركة إدلب ضد /النصرة/، ثم تم تسريب المعلومات  عمدا الى الجولاني، وهذا يفسر رفض /النصرة/، مشاركة الاتراك بالهجوم على الكورد، طالما الدور عليها بعد الانتهاء من القوات الكوردية، وبناءا على هذه المعلومات قرر الجولاني ان يتغذى بفصائل اردوغان قبل ان يتعشى الاخير به، خاصة انه سعى خلال الشهرين الماضيين الى تفاهمات جديدة مع تركيا، لكن انقرة  رفضت، بحجة رفض روسيا والغرب التفاهم مع منظمة موضوعة على لوائح الإرهاب العالمي.
ومن هنا شنت /النصرة/، هجومها الشامل على الفصائل المُستترَكة بغرض انهائها, وخلق واقع جديد على الارض، وسط مخاوف الجولاني ان اردوغان حسم امره واطلق يد النظام وروسيا بالهجوم على تلك المناطق، ويعتقد الرجل انه في حال القضاء على الفصائل المُستترَكة، لن تبقى بيد اردوغان ورقة لمساومة الروس عليها غير /جبهة النصرة/، وبهذه الحالة ستكون انقرة مجبرة  على تجديد تحالفها مع الجولاني، الذي يرفض دخول النظام الى المنطقة، وربما هذا ما يريده اردوغان، كونه يحسب حساب عدم التوصل مع الروس اولا والامريكيين ثانيا، الى اية نتيجة بخصوص محو ملف روزافا كوردستان، حينها يعود الى استراتيجيته الاساسية “ابتزاز” العالم بالارهاب، والحروب وتدفق اللاجئين، وسوف يقول للروس: بكل بساطة ان فصائلي المعتدلة انتهت، واصبحت الارض في قبضة /النصرة/، التي لا سلطان لي عليها، عل الروس والاتحاد الاوروبي يرضخون له ويلبون مطلبه في ضرب الكورد، مقابل لجمه لـ / جبهة النصرة/.
ولسوء حظ اردوغان انه لم ينتهي من اعداد سيناريو هذه المسرحية الدموية، حتى جوبه بموقف امريكي صارم يقول له “اياك قتل حلفاءنا الكورد”، وبات لزاما على الاتراك التحضير لمسرحية جديدة. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…