سيامند إبراهيم في مكالمة أخيرة…!

إبراهيم اليوسف
قبل حوالي أسبوعين، استيقظت صباحاً من النوم، لأتفاجأ بأن بهاتفي المحمول الذي كان في وضعية- الصامت- قد تلقى مكالمة- فائتة- من هاتف الصديق سيامند إبراهيم، في وقت مبكر من ذلك الصباح، وقبل حوالي الساعة، ما جعلني أحسُّ بحالة ارتباك:
ثمة حدث غير طبيعي……!
فأنا أعرف أنه في المشفى، وكنت قد كتبت بطاقة تمنٍّ له بالشفاء العاجل،
هتفت له، لأسمع صوته على الطرف الآخر من الهاتف، فحدثني على وجه السرعة: اليوم، مرت الطبيبة المشرفة علي، وأخبرتني بأنني مصاب بسرطان البنكرياس. اضطربت. شعرت بصدمة كبيرة، لم تبق في حدودها، بل راحت تتفاقم تدريجياً، في نفسي، إلى درجة إرباكي، إلا أنه كان يحكي بثقة كبيرة:
لقد سألتها كم سأعمِّر؟
فأجابتني:
ربَّما سنة، أو خمس سنوات، أو عشر سنوات
اتفقنا، ولأسباب محددة، ألا نعلن عن مرضه، لا لأسرته، ولا لأهله، ولا للأصدقاء..!
قلت له:
سأزورك غداً..
أجاب:
حدثتني زميلتنا بلقيس سليمان، بأنك مريض، ولا أقبل أن تأتي. أنا سأزورك، بعد خروجي من المشفى.أسبوع وسأخرج..
حقيقة، فقد زارني، ولم أخرج لاستقباله، للأسف، إذ جيء به إلى مدينة على مقربة مني، على حين غرة، وبشكل خاطف، غير مبرمج له،  لأن أحداً لم يصدق أن إجراءات- مكتب الدفن ستنجز في يوم واحد بل في ساعات- وأنه سيتمُّ جلبه إلى مشفى قريب من مكان إقامتي ليبقى هناك ساعتين، وتمَّ إعلامي برسالتين من الصديق: أحمد كوسا، وحرم الراحل، بالإضافة إلى مكالمة هاتفية من أستاذي: محمد صديق شرنخي و لم أتمكن من الرد عليها. فقد كنت نائماً، بعد عودتي من المشفى” بسبب الكريب”ما بعد الداعشي””، ولم أكن قد نمت قبلها بأيام، نتيجة حزني على أوضاع سيامند، وعلى مصيره، وكيف أنه عانى طوال حياته، حتى في أوربا، بعد أن كرس كل حياته لأجل تأمين لقمة أسرته، وتأمين مستقبله…
أعلمتني الأخت وندا شيخو زوجته، لاحقاً، بعد وفاته، وقالت: سألته: لم لمْ يأت إبراهيم لزيارتك؟ فرد عليها قائلاً: هو مريض، لكنه، لم يرد إعلامي..!
قال لي:
إبراهيم. عمري الآن أربع وستون سنة” عمره بحسب مواليده ثلاث وستون سنة وكتب قريبه الصديق الكاتب دلاور ميقري رقماً آخر”، إذاً، سأموت في الرابعة والسبعين من عمري، بحسب تقديرات الطبيبة، فماذا أريد أكثر من ذلك؟. لم أتوقع لنفسي، يوماً ما عمراً أكثر من هذا. رحت أواسيه، وأخفف عنه صدمته، فحدثني عن المزيد من خططه المستقبلية: شيء من الحب، وشيء عن أرشيفه المفقود الذي طالما حدثني عنه. لقد كتبت في” ولاتي مه” مئات المقالات، بالتعاون مع صاحب الموقع”سلام هادي” الذي كان يدققه، ويحذف ويضيف. من بينها الكثير من المقالات أشرت فيها إلى دور رابطة الكتاب والصحفيين” وحدد رقماً كبيراً..؟؟!”” إذ إن رابطة الكتاب والصحفيين الكرد كانت تساهم في المظاهرات والاعتصامات التي كانت تتم من خلال بعض الزملاء” وأشار إلى اسمي أحمد حيدر وشهناز شيخي” وحقيقة، انضم إليهما آخرون في فترة بدء مشاركاتهما في المظاهرات وبعدها” وكان هناك من بينهم من يعمل ضد هذه المشاركات جبناً”، وكان ذلك قبل جنوح الثورة، عبر بعض المرتزقة، خارج مساراتها. تحدث -هنا- بشكل مسهب عن الصور الفوتوغرافية التي التقطها، وقال: عليها لوغو ولاتي مه” وكان قد تعاون مع رئيس تحرير الموقع وصاحبه في تلك الفترة” إذ سبق له أن حدثني عن آلاف الصور التي التقطها للمظاهرات والاعتصامات، ومن بينها كيفية: حرق علم آلا رنكين، أو سواه. قال عن مقالاته:
لقد كتبت في بعض المواقع الإلكترونية: كميا كردا- عفرين- عامودا… إلخ، إلا أن هذه المقالات، وهي بالمئات ضاعت، بعد أن تم إيقاف تلك المواقع، أما ما كتبته مع الصديق مسؤول ولاتي مه، فلا خوف عليه” وسبق لي أن تحدثت مع هذا الصديق سلام هادي، وحدثني عن دور كل منهما: أي سيامند وهو في تلك الريبورتاجات والأخبار والتغطيات”، وحقيقة، فقد كان موقع ولاتي مه أحد المصادر المهمة لفعاليات”قامشلي” مع بداية الثورة، إلى الدرجة التي تم تهديد صاحبها، كما قال لي سيامند قبل هذه المكالمة، من قبل أحدهم”…”، بل كما علمت أنه تم خطف نجله، أي نجل صاحب الموقع، لساعات، ورميه بعيداً عن الحي السكني الذي يقيم فيه..!
هل ستكتب عني يا إبراهيم إن أمت…؟!
أتمنى منك أن تذكر بمقالاتي، وأن تسعى مع الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد على جمعها، وبالتعاون مع الخيرين، ولدي مئات المقالات المحفوظة” أعلمتني زوجته الكاتبة وندا شيخو بعد وفاته أنها محفوظة في” هارد” لا تعرف مكانه للآن، كما آمل منكم جمع ما كتبته عن الرابطة في كتاب” حقيقة، لم أتذكر أنها كانت كثيرة، وأكرر:
 ربما كان يقصد الصور الملتقطة من قبله”،
وأكمل قائلاً:
سأحملك وصيتي. كمبيوتري صار جاهزاً” علمت في ما بعد أنه عند مصلح تركي في كولن” وسأكتبها
-قاطعته: أرجوك، لا أتحمل سماع ما تقول. وتعرضت ل”قشعريرة”، فهي المرة الأولى التي تفرض علي هكذا وصية….
:أريد دفني في كولن قرب” صديقي عبدالإله الباشا”” كنت أعطيته رقم الراحل عبدالإله فور وصوله أي سيامند إلى أوربا وتواصلا إلى اللحظة الأخيرة من حياة الباشا”، ثم عدل رأيه:
 لا، ليدفنوني في قرية” جولبستان” الدرباسية، فقد عشنا معهم عشر سنوات، أو اثنتي عشرة سنة هناك، أريد أن أدفن قرب” صديقي”…” إسماعيل بدران خلو”” وقد وقف معي آل خلو بقوة”. أما التكاليف فقد تركت مبلغاً، وسيتبرع أخوتي وأخواتي بما تبقى. أريد لاتحادنا أن يشرف على عزائي و..”. في اليوم التالي: قال لي:
كلمت الصديق د. عمران حمدي ليتحدث إلى الطبيبة، فلم أفهم عليهما” كان يجيد الإنكليزية ويترجم عنها”، وقد طمأنني د. عمران أنني بخير” لاحقاً قال لي د. عمران أنه تفاجأ بما حدث لأبي هوشنك بهذه السرعة، وعلل ذلك قائلاً: سرطان البنكرياس سريع الانتشار، وقالت لي الطبيبة: 
إنه تجاوز حدوده، ويبدو لي أنه وصل الدماغ…
قلت لكثيرين ومنهم د. عمران:
أبو هوشنك، كان حريصاً على إجراء تحاليل الدم، بشكل دوري، بعد وصوله إلى أوربا، وقد دخل المشفى مرات، فكيف لم يتم اكتشاف هذا المرض، من قبل؟
عندما دخل الأخ سيامند المشفى، أعلمني أنه كان يشعر بحالة غثيان، ما جعله يلجأ إلى المشفى لمعالجته، وقال لي: أسبوع واحد وسأخرج من المشفى. تحدثنا عن تكريمه، سألني كيف سيكون ذلك؟. قلت له:
 أنت ستحاضر عن تجربتك الكتابية وعن فترتي سجنك وملاحقتك، وسنقدم مداخلات عن دورك في آسو، وعن مساهماتك في مرحلة”الثورة” وقلت له: أذكرك، مرة أخرى، بأن تكتب مذكراتك، فقد حدثني عن أحداث غريبة، ما عاد لذكرها أية أهمية، بعد وفاته. بل لا يمكن لمن استمع إليه وهو يسردها أن ينقلها، كاملة.
قال: أتمنى أن تكون لحفيظ عبدالرحمن كلمة، فقد عملنا معاً في آسو التي أسسناها معاً، وغير ذلك…
أتذكر قال لي ذات مرة: عندما أتيت إلى ألمانيا، فإن واحداً من”…..” قال لي” كن معنا، وسنخصص لك راتباً، ونعنى بك، ونشتري لك حتى ملابسك، فرد عليه: عندما كنت في الوطن، وأحتاج ذلك، لم أمدّ يدي إليكم. الآن: أسباب معيشتي متوافرة، ثم أشار إلى أسماء ثلاث أو أربع  شخصيات وطنية في كولن، وقال: هؤلاء أصدقائي، وأنسق معهم حياتياً، وهم من: البارتي، ويكيتي..!
كمبيوتره، بقي عند- المصلح التركي- ولم يستخدمه، ولم يكتب وصيته، في اليوم الثالث اتصلت به هاتفياً، فلاحظت أن صوته خافت، حزين، مكسور. قلت في نفسي: إنه تأثير الأدوية. حدثني عن بعض الأمور، وهو بوعيه العالي، كما فعل في اليوم التالي، عندما عاتبته:
ألم نتفق ألا تعلم أحداً بمرضك؟، فها أنت أعلمت بعض”الأصدقاء” ممن كلموني بأمره بعد انتهاء زيارتهم له، فأجاب:
الأمر لن يبقى سراً…وسكت…؟؟
كنت في قرارتي غير مرتاح، لما قام به، لاسيما إن أمر مرضه لم يؤكد، وكانت التحاليل جارية على قدم وساق.
اتصل بأخوته، وأخواته، كما فهمت في ما بعد، وتفاجأت بالبوست الذي نشره على صفحته الفيسبوكية التي كان يعدها بمثابة سلاح أرض جو وأرض أرض -كآخر منشور له-  وقد كتبه مرتبكاً، مرفقاً بصورة تجمعه بشقيقه القادم من النمسا، وكانت تدعو للحزن، بل الخوف. كلمته بعد ذلك، فلم يرد علي. تمت مكاتبتي بعبارات مختلفة، بعد رحيله، حدثت بعضهم عن ردوده الكتابية على رسائلي، فقالت ابنته: عمو أنا من رددت عليك. حقيقة، لم ألاحظ أن الردَّ عليَّ لم يتم من قبله.
ليلة 14/15 كانون الأول الجاري، وردتني رسالة على هاتفي من زوجته:
صديقك سيامند ودعنا إلى الأبد
وكنا قد خططنا لأن نزوره، صباحاً، بعد أن تعافيت من بقايا الكريب”اللعين، قبل أن يعود بعدة وعتاد جديدين، فعضضت على أصابع قلبي:
هتفت لها، وهي تبكي، أكدت لي، أن أختيه اللتين وصلتا في اليوم نفسه، والتقتاه منذ فترة ما بعد ظهر ذلك اليوم، قد أعلمتا الأسرة، والنبأ صحيح. حاولت أن أكتب النعوة، استغرقت أكثر من ربع ساعة، بينما، هي لا تستغرق في الحالات العادية، أكثر من خمس دقائق. كنت مرتبكاً، لم أستطع النوم للصباح، لأن ما حدث لأبي هوشنك، صورة عن حال كل غريب، بعيد عن وطنه..!؟
ملفوفاً بالعلم الكردي:
نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة للكاتب الصحفي الراحل سيامند، وهو مسجى في-التابوت- ومغطى ب”سجادة”، تابعة لمكتب الدفن. التقط منها بعضهم-آيات قرآنية- وراح يصطاد في الماء العكر، متسائلاً:
أين العلم الكردي، ونحن في يومه؟
إن كل من ظهر في الصورة- في تلك اللحظة- تفاجأ بما تم، لاسيما إن مكتب الدفن من كرد- كردستان تركيا- وكان ذلك في لحظة الصلاة عليه. صلاة الجنازة، وقد اجتمع جميعهم خلال ساعة، أو أقل، في المكان- طبعاً لم أكن من بينهم- وهو نقد لا أريد أن أعلق عليه، بالرغم من أن لاعلاقة لي به، لولا أن من أثاروه لم يكونوا عارفين بما جرى،  إلا أنني واثق أنه سيلف بالعلم الكردي، غداً، وهو يدخل أرض الإقليم، أو يقرع بوابة قامشلوكته، ليوارى التراب في عنوانه الأخير.
وكتوضيح، لهؤلاء أقول: أتصور، أن لا أحد كان يستطيع أن يلف جنازة ما، بالعلم الكردي، وهي في طريقها إلى المطار، “لتسفر” بوساطة طائرة تركية، ويتم إنزالها في”مطار تركي”؟؟!!، وهي في طريقها إلى معبر” إبراهيم خليل”…
طائر الحنين يعود إلى حضن الوطن:
قررت أسرة الراحل سيامند، بعد تداول الأمر، أن يدفن في مدينة قامشلو. في مقبرة قدور بك، إلى جانب شهداء و مناضلين وطنيين آخرين، ولم تسمح الإجراءات السريعة التي تمت، من قبل مكتب الدفن، لزوجته أم آيندا أن ترافقه، وهوما أحزنها، وكان مقرراً أن ترافقه، إلا أن عدم وجود رحلة- طائرة- إلى هولير، بشكل مباشر، حرمها من مرافقة جنازة رفيق دربها. إذ سيوارى الثرى في تراب قامشلو التي أحبها، وكانت منطلق كتاباته باللغة العربية- في مرحلة ما بعد الانتفاضة بقليل ولهذه  الكتابات قصتها التي أشار إليها ذات مرة في مقال له” وهو استطراد سأكتب فيه يوماً ما”. أجل. تراب قامشلو عاصمة علاقاته مع الآخرين. 
إن من يعمل لأجل أهله، فإن شعبه لن ينساه، فقد تم التواصل بيننا” كاتحاد عام للكتاب والصحفيين الكرد” والجهات العليا في الإقليم، وسألونا عما يلزم؟، فكان جوابنا:
 كل شيء قام به زملاؤه وأصدقاؤه الكتاب والإعلاميون، ولا نريد إلا الاهتمام بمراسيم استقباله، وهوما شدد عليه الصديق بهجت بشير، وعمل عليه، ليكون هناك من يودع جنازته في سيمالكا، وهناك من يستقبلها على الحدود، فسيامند أكد أنه- ملك شعبه- قبل أسرته، ولهذا فعلينا ألا نخذله
يتبع لاحقاً…
* بالتنسيق بين: الاتحاد العام للكتاب والصحفيين واتحاد كتاب كردستان سوريا، ستتم إقامة مجالس عزاء في ألمانيا وقامشلو، كما ستتم إقامة مجالس عزاء في إقليم كردستان بالتعاون مع جهات ثقافية..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…