رسائل أمريكا إلى «أصدقائها» الكُرد

حسين جلبي
رغم أنها المرة الأولى في التاريخ؛ التي تستهدف فيها الولايات المتحدة الأمريكية صراحةً أفراداً بعضهم من أصول كُردية، أو أشخاصاً يعملون تحت عنوان كُردي عريض، من خلال الإعلان عن مكافآت مالية كبيرة وصلت إلى ملايين الدولارات؛ لمن يدلي بمعلومات تؤدي للوصول إلى ـ أو النيل من ـ ثلاثة من أهم قادة حزب العمال الكُردستاني التركي، وذلك ضمن برنامج “المكافآت من أجل العدالة” التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، إلا أن ظروف الزمان والمكان التي صدر خلالها الإعلان الأمريكي لا تقل أهميةً عن الإعلان نفسه، إن لم تكن تفوقها أهميةً من ناحية الدلالة على توجهات السياسات الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، والانعطافة الكبيرة التي قد تصل إلى حد القطع مع الماضي القريب، في أهم ملفات الشرق الأوسط.
وإذا كانت مسألة التخلي عن الحلفاء عند أول منعطف، والتضحية بهم بعد استخدامهم واستغلالهم وعصرهم إلى أقصى الحدود؛ هي من المبادئ الراسخة للسياسة الخارجية الأمريكية، وقد خبر حزب العمال الكُردستاني ذلك بنفسه في عفرين قبل أشهر قليلة، عندما أعلنت أمريكا عشية الهجوم التركي على المنطقة، وكذلك بعد تساقط قذائف المدافع التركية عليها، بأن “وحدات حماية الشعب” التابعة للحزب في منطقة عفرين لا يشملها الدعم الأمريكي، لأنها لا تقوم بمحاربة تنظيم داعش حسب قولها، فإن السؤال عما يمكن أن يكون قد فعله قادة الحزب للأمريكان، حتى تكون “مكافأة نهاية الخدمة” على شكل إعلان بملاحقتهم صادر عن السفارة الأمريكية في أنقرة، يصبح عديم الجدوى، لكن ما قد يثير بعض الاستغراب هو أن الحزب لا يزال قائماً على “رأس العمل” على قدم وساق، يقاتل تنظيم داعش تحت قيادة التحالف الذي يقوده الأمريكان، وفي أقصى درجات الاستعداد لتنفيذ مزيد من المهام، هذا بالإضافة إلى صعوبة تصور عدم معرفة الأمريكيين بمكان هؤلاء المطلوبين، بعد التقارب الشديد مع الحزب واختراقه، الأمر الذي جعله مثل الكتاب المفتوح.
لقد حدثت تطورات جوهرية في ملفين أمريكيين رئيسيين في الشرق الأوسط خلال الأيام الماضية، أولهما ذلك المتعلق بالعلاقات الأمريكية التركية، بعد قيام تركيا بالإفراج عن القس الأمريكي برونسون بعد سنتين من الاحتجاز، حيث حدثت إنفراجات في علاقات البلدين بعد ذلك، فأُلغيت عقوبات منع سفر المسؤولين المتبادلة، واستعادت الليرة التركية عافيتها بعد أن كانت خسرت الكثير من قيمتها على خلفية الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، وكانت ثالثة الأثافي هي إعلان السفارة الأمريكية في أنقرة عن أن قادة حزب العمال الكُردستاني قد أصبحوا مستهدفين من قبل الأمريكان، بطريقة استعراضية اعتادوا على استخدامها لملاحقة ألد أعدائهم، مثل مسؤولي النظام العراقي السابق وتنظيمي القاعدة وداعش، حين خصصوا مبالغ مالية للمتعاونين معهم في ملاحقتهم. إن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن إجراءها السابق من تركيا حصراً، يعتبر إعلاناً عن المستوى الذي وصلته علاقات الطرفين، وليس إنحيازاً تاماً للسياسة التركية في ملف حزب العمال الكُردستاني فحسب، بل ضوءاً أخضر لتركيا للقيام بعملية عسكرية في المناطق الكُردية السورية، التي لا يزال الحزب يتحكم بمصير الكُرد فيها.
من جهة أُخرى، يأتي الإعلان الأمريكي عن ملاحقة قادة حزب العمال الكُردستاني، في اليوم التالي لبدء تنفيذ الحزمة الثالثة من العقوبات الأمريكية على إيران، وهي من أشد أنواع العقوبات في تاريخ البلدين، وتشمل مئات الأفراد والكيانات الإيرانية أو المتعاونة مع إيران، ويتوقع لها أن تصيب إيران بالشلل وتؤدي إلى اضطرابات في البلاد، وقد تؤدي إلى تغييرات جوهرية فيها. والمعروف أن حزب العمال الكُردستاني على علاقة استراتيجية مع إيران، ويقوم بتنفيذ الأجندة الإيرانية في سوريا والعراق بشكل خاص، فمسلحي الحزب في العراق يتلقون التمويل من الحشد الشيعي العراقي الموالي لإيران، ويحصلون على أسلحتهم منه، كما ينفذ الحزب الأجندة الإيرانية في سوريا، منذ قيام نظام الأسد بفتح الباب لكوادره للعودة إلى سوريا بعد بدء الثورة السورية، وقيامه بتمويله وتسليحه وتسليمه عدد من المباني لإدارة الملف الكُردي وتطويع الكُرد واسكاتهم، قبل أن يقوم بتجنيدهم قسرياً ويرغمهم على خوض معارك تفوق امكاناتهم.
وهكذا أصبح حزب العمال الكُردستاني غير مرغوب فيه أمريكياً أو ملاحقاً عملياً لثلاثة أسباب على الأقل، أولها تصنيفه السابق من قبل الحكومة الأمريكية كمنظمة إرهابية أجنبية وككيان إرهابي عالمي، وثانيهما ملاحقة قادته على خلفية تحسن العلاقات الأمريكية التركية، وبالتالي التماهي مع الأسباب التي تسوقها تركيا لملاحقة الحزب، وأخيراً سبب قد يبدو غير مباشر لكنه جوهري، ويأتي على خلفية فرض أمريكا عقوبات على إيران، في الوقت الذي يعتبر الحزب جزء من أجندة إيران في سوريا، والتي لا تتحقق إلا بالحفاظ على بقاء نظام الأسد.
والواقع هو أن الأمر لا يقتصر على تخلي الأمريكيين عن حزب العمال الكُردستاني، في الوقت الذي لا يزال فيه الحزب يحشد لهم الكُرد، ليقاتلوا عنهم على الأرض في سوريا، ويموتوا من أجلهم. فأمريكا لم تكن صديقة للكُرد يوماً ولم تكن نصيراً لقضيتهم، فقد باعتهم الكلام وأدارت لهم ظهرها عندما دقت ساعة الحقيقة، وانحازت إلى مصالحها وناصرت أعدائهم خلال محطات مصيرية، وكان آخر رسالة في هذا الشأن، هي إعلان الرئيس الأمريكي ترامب قبل أسابيع عن حبه للكُرد لأنهم: “قاتلوا من أجلنا وماتوا من أجلنا” حسب قوله، وهكذا يكون الكُردي الجيد حسب المفهوم الأمريكي، هو ذلك المقاتل الذي مات من أجل الأمريكان، والذي لا يستحق أكثر من مثل ذلك التنويه.
وإذا كان الحال كذلك، ماذا يبقى للكُرد في سوريا إذاً، و هم الخاسر الأكبر مما يجري بعد أن تلبسهم حزب العمال الكُردستاني، أو لبس قضيتهم عنوةً حتى أوردها المهالك، ووقف سداً منيعاً أمام أية رسالة جدية يمكن أن تصلهم، وتدفعهم للتفكير في البحث عن وسيلة للفكاك منه قبل أي شئ آخر، وبالتالي الخلاص من دفع ثمن مغامراته وكذلك مما ينتظره؟. وضمن هذا السياق، ما هي العبرة التي أخذها الكُرد من تجربة معركة الحزب الكارثية في عفرين، ومن الرسائل الأمريكية قبلها وخلالها وبعدها، وما هي الإجراءات التي اتخذوها لتجنيب مناطقهم الأُخرى مصير المدينة؟ الإجابة في كل الأحوال وبكل بساطة هي: لا شئ، فقد تحول الحزب إلى نفقٍ مظلم ابتلع الكُرد، وحجب عنهم بالإكراه الهواء النقي، وهيهات أن يمنحهم الفرصة ليخرجوا من جوفه، ويحرمونه بالتالي فرصة الاستمرار.
ـ المصدر: موقع تلفزيون سوريا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…